الزمان يطوّق روايات الحبيب بن محرز ويدفعها

أصدر منذ أسابيع الإعلامي والمنتج التلفزي الحبيب بن محرز روايته الثانية “خمس سنوات في خمس ليالي”.(صدرت في مارس 2023 عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع)، بعد صدور روايته الأولى سنة 2017 تحت عنوان “حمدان والزمان”.

وإذا كان الزمن يبدو حاضرا، وبكثافة، منذ الوهلة الأولى عبر عنواني الإنتاجين الروائيين، فإن القارئ لا يلبث أن يفاجأ بتحوّل الزمن، في الرواية الثانية، من إطار حاضن للعمل الروائي وأحد مرتكزات بنائه إلى دافع لنسقه نحو تخوم جديدة لم تعهدها الرواية العربية من قبل.

الرواية “خمس سنوات في خمس ليالي” تبدو من الوهلة الأولى كما لو أنها امتداد لرواية “حمدان والزمان”. تجد في الثانية، التي تتواصل أحداثها من 1918 إلى 2090، ما سبق لك أن عايشته في الأولى (تجري أحداثها بين 1911 و 1915) : بيئات ثلاث متلامسة، قد تتقاطع في محطّات محسوبة التواتر، وأعني بذلك  البيئة الريفية في “منازل” جزيرة جربة وبيئة أوساط تجّار التفصيل (أصيلي جزيرة جربة في الغالب) الناشطين في الأحياء الشعبية بتونس العاصمة وبيئة أوساط النخب السياسية والمتعلّمة التونسية في علاقة بدوائر الحكم الفرنسية والتونسية. وتجد نفس أشخاص الرواية وخصوصا حمدان الذي تتشكّل في ذهنك صورته لا من الوصف الدّقيق الذي يغدقه عليه الكاتب بل من نتوءات حضوره الكثيف والبازغ من جزء إلى آخر في الروايتين ومن وسط إلى آخر في بيئات الروايتين معا. إنه يخترق الزمن بتنقّله الفاعل من بيئة إلى أخرى. فهو مطيع لوالده الذي يجبره على تطليق زوجته الأولى (ص ص 50-52)، لكنّه متمرّد عندما يفاجئ في المرّة الأولى الحضور بالغناء في محفل عرسه الجديد على خلاف عادات أهل جربة (ص73) والثانية عندما يكتشف أهل “المنزل” مغادرته الجزيرة وعدم الامتثال لإتمام العرس وإقناع أخيه صالح بمصاحبته إلى العاصمة(ص75).

وإذا استثنينا الصفحات  76/93 التي تغطّي الفترة الممتدّة بين شتاء 1919 وصيفه، والتي قضّاها حمدان تاجر تفصيل في أحد أرياف الشمال الغربي تجنّبا لعتاب أهل جزيرته على ما صدر منه من عصيان لأوامر والده، تجري باقي أحداث الرواية في شوارع تونس العاصمة. لقد اقتنى حمدان متجرا جديدا في الشارع الرئيسي للعاصمة وباشر العمل فيه في أوت 1919. وأصبح في اتّصال مباشر مع أوساط النخب ودوائر الحكم في تونس. وقد ساعدته لاكتساب وضعه الجديد صديقته الإيطالية ماريا القريبة من الإقامة العامة، وصديقه المحامي الصّادق القريب من أوساط الحركة الوطنية والحزب الحر الدستوري بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

وتنتهي أحداث القصّة بقرار الشيخ عبد العزيز الثعالبي مغادرة البلاد في أوت 1923، وبالعثور على جثّة ماريا صديقة حمدان مضرّجة بالدّماء بعد جولات من التعذيب الوحشي في أقبية المصالح الأمنية، بعد اتّهامها بسرقة وثائق سرية من خزانة عشيقها المقيم العام الجديد “لوسيان سان” وتسليط تعذيب شديد عليه بدوره انتقاما وتشفيا.

هذه النهاية تجري في جوّ ثقيل خلّفته زيارة الرئيس الفرنسي “ألكسندر ميليران” لتونس في 21 أفريل 1922 التي أكّد فيها، خلافا للوعود التي قطعتها الإقامة العامة للباي ولقادة الحركة الوطنية بأنها ستكون مناسبة لإعلان قرارات لفائدة الوطنيين التونسيين، أن “تونس ومنطقة شمال أفريقيا ستبقى مرتبطة بفرنسا إلى الأبد”. خيّبة أمل الوطنيين ولّدت مناخا ثقيلا لم يتحمّله محمد الناصر باي الذي كان أظهر تعاطفا مع مطالب الحركة الوطنية وأحسّ بالخديعة وتوفّي جرّاءها في  جويلية 1922. بعده اعتلى محمد الحبيب العرش متخلّيا عن مواقف سلفه المناصرة للوطنيين.

الرواية تنتهي على هذه النغمة الحزينة من حياة تونس ومن حياة بطل الرواية حمدان. غير أن قصّة أخرى تتسرّب إلى ثنايا هذه الأحداث وتلفّها لتعطيها بعدا يتّصل لا بمستقبل مجتمع وبلد فقط بل بمستقبل البشرية. القصة الجديدة ينبؤنا بها الكاتب في مقدّمة للرواية في صفحات قليلة (من الصفحة 7 إلى الصفحة 13). تروي المقدّمة  ملابسات ارتباط القصّتين. ويدخل الكاتب القارئ في سرداب لا عهد له به. إنه سرداب السفر عبر الزمن الذي هو إحدى النتائج التي أفضى إليها التقدّم العلمي والتكنولوجي في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. السفر عبر الزمن له قواعده ومسار تطوّره أيضا. “البشرية لا يمكن أن تسافر إلا في المستقبل”. تلك هي القاعدة الأساسية، بيد أن كاتبنا أنعم الله عليه بذرية دأبت على البحث العلمي والتطوّر التكنولوجي وخاضت تجارب عديدة ونالت مكاسب علمية متنوّعة. فانفتحت أمام حفيدة ابنته في سنة 2090 إمكانية أن تزوره في 26 نوفمبر 2021 على الساعة الثانية فجرا في منزله في الدندان، بعد أن استكمل روايته  ” خمس سنوات في خمس ليالي”، وتقترح عليه تعديلا أول حول سير الرواية، ثم تقترح عليه تعديلا ثانيا بعد أن كان أودع الرواية لدى دار النشر ووافقت لجنة القراءة على نشرها.

القاعدة في السفر أن يكون في المستقبل لأنه لا يمسّ ما كان جرى في الماضي. فالبناء الذي تم وانقضى لا يمكن تعديله وإلا لعمّت الفوضى. لكن الاستثناء الذي حصلت عليه جميلة ابنة الحفيدة، كان لدقائق وفي مناسبتين، وتم في إطار بحث علمي قبلت ابنة الحفيدة إجراءه أو الخضوع إليه، لكن بشروط مجحفة. “القوانين صارمة في هذا المجال، لن أتدخّل في مسائل تقلب الماضي أو الحاضر أو المستقبل”.(ص255). وكل ما ستفعله الشابة هو إجراء بعض التغييرات في رواية الجد. ولتهدئة روع والدتها التي كانت في الأصل متخوّفة من أخطار الرحلة عليها، والحال أن تجارب السفر إلى الماضي ما زالت في بداياتها، أكّدت الشابة: لا تخافي لن أقتله (الجد) فينقطع نسله قبل أن يبلغنا” ولزيادة طمأنة والدتها تقول:”إن زيارتي ستتم بعد ولادة أبيك، فحتّى لو قتلته لن ألغي وجود أبيك ووجودنا نحن”.

الرابط بين الرواية الأصلية والأحداث المتّصلة بالسفر عبر الزمن ورد في الصفحة 36 حين أهدت صديقة سميرة والدة الشابة  إلى جميلة كتابا ورقيا في زمن لم يعد فيه لمثل هذه المحامل وجود يذكر. واكتشفت حينها أن مؤلّف الكتاب هو جدها لأمها. وبدأت منذئذ قراءة الكتاب مع أمها في خمس ليالي.

وبقي التداخل بين الرواية الأصلية (المتن إن شئنا) والرواية الحافة بها (الحاشية إن شئنا) و جاء أغلبها في صيغة تعاليق اللاحق على أحوال السابق. كأن تقول الشابة جميلة لأمها تعليقا على انصياع حمدان لرغبة والده تطليق زوجته: “من هذا الغبي الذي يطلّق امرأته لإرضاء أبيه؟” فتجيبها أمها: “الأغلبية الساحقة من الرجال كانوا يفعلون ذلك يا بنيّتي”. أو حين تقول جميلة لأمها في موقع آخر من الحاشية: ” تلك المرأة(ماريا) عاشت حياة ممتلئة، خالطت الناس وخاضت تجارب متنوّعة وأحبّت واستمتعت”.

لكن السؤال الأهم هو ما العلاقة بين الروايتين وهل هناك رسالة تتجلّى من قراءتهما معا وهما لا تقرآن إلا بشكل متداخل كما أراد لهما الكاتب؟

الرسالة الأهم التي تتجلّى من هذا السرد المتعدّد هو أن الإنسان سواء عاش في بداية القرن العشرين أو في نهاية القرن الحادي والعشرين يجب أن يبحث عن الخصوصية التي تميّزه وتعطي لكيانه وهويته لونهما المغاير. حمدان خضع لمشيئة والده ولكنه انتهى إلى تغيير مساره وامتلاك ذاتيته حين قال لا لوالده الذي أجبره على تطليق زوجته الأولى وفرض عليه زواجا من امرأة لا يعرفها. ولاحظنا أن حمدان قبل هذا الموقف هو غير حمدان بعده.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن سعاد وسميرة وجميلة ونورهان اللاتي راهن على العلم والبحث التكنولوجي وانخرطن في منظمات دولية تنادي بالحرية والمساواة وحقوق المرأة وغيرها من القيم الكونية. غير أن تطوّر أحداث الرواية سواء من خلال ملابسات محاكمة نورهان القمري أمام قضاء  جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية التي انتهت إلى تم سلبها هويتها بالمعنى الحرفي للكلمة أو تمرّد جميلة على طريقة عيش والدتها سميرة وصديقاتها حين قالت لأمها: “لا أريد هذه الحياة، ولا هذا النسق الممل، بالله يا أمّي ، منذ كم سنة لم تضعي أحمر شفاه ولم تطلي أظافرك؟”(ص212) وتضيف في موقع آخر:” أنا أريد أن أعيش، أن اتّصل بالآخرين تماما مثلما كانت “ماريا” في رواية جدي ، تلك المرأة عاشت حياة ممتلئة ، خالطت الناس وخاضت تجارب متنوّعة وأحبّت واستمتعت”. (ص214).

وتتوجّس أمّها من هذا التوجّه الذي تسير فيه مقتنعة بأن رواية الجد هي المنبع الذي تنهل منه جميلة وتتغذّى منه أفكارها غير المقبولة، حيث تقول والدتها سميرة:”أصبح التمادي في قراءة هذه الرواية اللعينة مأزقا بعد أن كان وسيلة تقارب”.

أبوالسعود الحميدي

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *