البارزة, وجهات نظر 0 comments on مبادرة المغرب الأطلسية تُعيد تشكيل المشهد الجيواستراتيجي لإفريقيا … بقلم الجمعي قاسمي

مبادرة المغرب الأطلسية تُعيد تشكيل المشهد الجيواستراتيجي لإفريقيا … بقلم الجمعي قاسمي


· مشاريع تنموية ضخمة ستنفض غبار الصحراء عن مقدرات دول الساحل والصحراء
· تشابك السياسي والاقتصادي والأمني يُوفر أرضية ملائمة للتكامل الاقتصادي الافريق

منار السليمي: المبادرة ستعزز التعاون جنوب-جنوب على قاعدة شراكة رابح-رابح.

محمد الغالي: المبادرة الأطلسية الإفريقية ستكون رافعة تنموية اقتصادية هامة، وهي بوابة لانفتاح دول إفريقيا جنوب الصحراء على العالم.

بدأت المبادرة الأطلسية التي أطلقها العاهل المغربي، الملك محمد السادس تفرض ايقاعها بمعاييرمتناسقة اتخذت أبعادا شمولية تمازجت فيها الرؤية الاستراتيجية، والرغبة الصادقة في نفض غبار الصحراء عن مقدرات عدد كبير من الدول الافريقية، وخاصة منها تلك التي ليس لها منفذا بحريا.
وترنو هذه المبادرة التي كثُر الاهتمام بها خلال الأيام القليلة الماضية، إلى فتح الباب على مصراعيه أمام شراكات متعددة، تُوفر أرضية للتكامل الاقتصادي الافريقي، عبر فك عزلة دول الساحل والصحراء (بوركينا فاسو والنيجر وتشاد ومالي)، من خلال تمكينها من منفذ بحري هي أحوج ما تكون إليه في هذه المرحلة.
وقد جاءت المبادرة واضحة في دلالاتها، وصريحة في تفاصيلها، كما في عناوينها التي تعكس إدراكا مغربيا بالمتغيرات التي تُحيط بإفريقيا في هذه المرحلة التي تتسم بتحولات متعددة الأبعاد، تستدعي بالضرورة مقاربات سياسية واقتصادية وكذلك أيضا أمنية ذات طابع استراتيجي.
وتقتضي هذه المقاربات الانسجام مع الاهتمام المغربي المتزايد بأفريقيا الذي أعطى زخما لأعمال منظمة الاتحاد الافريقي لم يكن متاحا في السابق، وشكل حتى الآن نوعا من التمازج الفعلي بين السياسي والاقتصادي والأمني وفق رؤية متكاملة بأبعاد استراتيجية أملتها التحولات الكبرى بانعطافاتها الآنية وانعكاساتها المستقبلية.
وليس أدل على ذلك، أن هذه المبادرة التي اتخذت سياقا متنوعا بدا مغايرا لأنماط المبادرات التي عرفتها المنطقة، جاءت لترسم معادلات جديدة اقتضتها طبيعة المرحلة، والفهم الحقيقي لاحتياجات دول المنطقة التي تريد إعادة تموضعها إقليميا

ودوليا، ولا تخفي رغبتها الملحة في التخلص نهائيا من الموروث الاستعماري الذي مازال يُعيق انطلاق اقتصاداتها نحو افق أوسع.
ولهذا السبب، بدأ صدى هذه المبادرة يتردد في عدة عواصم من واشنطن إلى مدريد مرورا بالعواصم الافريقية المعنية بها، وسط حراك ديبلوماسي مغربي نشيط يتسم بالهدوء والواقعية لتوفير شروط إنجاح المبادرة التي نحسب انها ستُعيد تشكيل المشهد الجيواستراتيجي لإفريقيا.
وتستهدف هذه المبادرة التي تعكس إلى حد بعيد تمسك المغرب بعمقه الافريقي، وقدرته على المساهمة في رسم إيقاع التحولات في افريقيا، وخاصة منها منطقة الساحل والصحراء، ارساء تكامل واندماج حقيقيين في منطقة افريقيا الأطلسية التي تستحوذ وحدها على نحو 55 %، من إجمالي الناتج المحلي الأفريقي.
كما أن اقتصادات تلك الدول الافريقية المطلة على الأطلسي تستحوذ على 57 %من التجارة الحرة في افريقيا، وهي قادرة على جذب 60 % من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يعني أن هذه المبادرة ستُعطي قيمة مضافة تدفع إلى الجزم بأن مرحلة جديدة بدأت تتبلور لمفهوم الشراكة على قاعدة رابح/رابح في هذه المنطقة المطلة على الأطلسي.
ويتضح من خلال العناوين الكبرى لهذه المبادرة أنها تأخذ بعين الاعتبار كل الحسابات والمعادلات التي تستهدف التشبيك الإقليمي لتعزيز أسس التعاون الإقليمي من منطلق ترتيب الأولويات عبر التركيز على الجانب الاستراتيجي الذي يبقى صالحا لوقت طويل للعديد من المقاربات.
وتكتسي مسألة ترتيب الأوليات أهمية بالغة، بل تُعد نقطة مفصلية، حيث سعى المغرب قبل ذلك إلى توفير قاعدتين أساسيتين لتجاوز الاكراهات التي قد تعيق تقدم هذه المبادرة، تناولتا البعدين الاقتصادي والأمني، وفق معادلات ناشئة تكون فيها قواعد الحسابات واضحة وجلية.
وفي هذا الصدد، عمل المغرب على اعادة ترتيب البعدين المذكورين، عبر رسم حدودهما، دون إغفال تتداخل العوامل الخارجية عن المنطقة في رسم جزءا منها، حيث سعى على مستوى البعد الاقتصادي إلى إطلاق مشروع خط أنابيب الغاز من نيجيريا إلى الساحل الأطلسي المغربي، وعلى المستوى الأمني كان له دور كبير في تأسيس “منظمة حلف شمال الأطلسي الافريقي”.

وخط أنابيب الغاز المغرب- نيجيريا هو مشروع استراتيجي ليس مُنفصلا عن المبادرة الأطلسية، بل هو جزء منها، وهو سيعبر 13 دولة افريقية هي نيجيريا وبنين وتوغو وغانا وساحل العاج وليبيريا وسيراليون وغينيا وغينيا بيساو، وغامبيا والسنغال وموريتانيا والمغرب قبل أن يصل إلى اسبانيا وعبرها إلى بقية الأسواق الأوروبية.
ويبرز الترابط بين هذا المشروع والمبادرة الأطلسية من خلال أن خط أنابيب الغاز المغرب-نيجيريا سيزود 3 دول غير ساحلية تنتمي إلى منطقة الساحل والصحراء الافريقية بالغاز، هي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي الدول التي ستمكنها المبادرة المغربية من منفذ بحري.
ويُعتبر هذا المشروع الذي قال عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس، إنه مشروع “…من اجل السلام والاندماج الاقتصادي الإفريقي والتنمية المشتركة، مشروع من أجل الحاضر والأجيال القادمة”، أطول أنبوب غاز بري وبحري في العالم، حيث يصل طوله إلى أكثر من 5600 كيلومترا.
وستستفيد من هذا المشروع منطقة غرب إفريقيا كلها التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 440 مليون نسمة، حيث يُتوقع أن تبلغ طاقته الاستيعابية ما بين 30 و40 مليار متر مكعب سنويا، بمعدل 3 مليارات قدم مكعبة من الغاز يوميا، وتقدر تكلفة إنجازه بحوالي 25 مليار دولار.
أما بالنسبة للموضوع الأمني، فإن المغرب ومن منطلق وعيه بالمخاطر والتهديدات الأمنية في المنطقة، عمل على تأسيس “منظمة حلف شمال الأطلسي الافريقي” خلال اجتماع عُقد في الرباط يوم 8 يونيو 2022 بمشاركة 21 دولة أفريقية مطلة على المحيط الاطلسي الأفريقي.
وتهدف هذه المنظمة إلى تكريس الحوار السياسي والأمن والسلامة والعمل المشترك ضد التهديدات الإرهابية، وتامين أنبوب الغاز من نيجيريا إلى المغرب، إلى جانب صياغة خطط العمل الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والقرصنة البحرية والهجرة غير الشرعية.
وعلى هذا الأساس ليس غريبا، أن تُكثف الديبلوماسية المغربية من نشاطها في كل الاتجاهات لبلورة آليات إنجاح هذه المبادرة، في الوقت الذي أطلق فيه عدد من الأكاديميين والخبراء المغاربة يتقدمهم رئيس المركز الأطلسي للدراسات

الاستراتيجية، عبد الرحيم المنار السليمي لجنة تحضيرية لتأسيس إطار مؤسساتي تحت اسم “منتدى التحليل الاستراتيجي لشؤون الاطلسي ودول الساحل”.
وجاء الإعلان عن تشكيل هذه اللجنة بعد سلسلة لقاءات نظمها المنتدى على مدى ثلاثة أيام في مدن العيون والسمارة وبوجدور من الصحراء المغربية، حول المبادرة “الأطلسية الافريقية وإدماج دول الساحل…تحليل الابعاد الاستراتيجية الوطنية والإقليمية والدولية”.
وخلال سلسلة تلك اللقاءات التي تميزت أعمالها بتفاعل فكري أكاديمي عميق بحضور وفود من تونس والكويت والامارات، شدد عبد الرحيم المنار السليمي، على أن المبادرة الأطلسية المغربية “ستفرز ديناميات تنموية ستستفيد منها افريقيا، وكذلك أيضا العالم العربي، وأمريكا اللاتينية”.
واعتبر أن رؤية العاهل المغربي في إطلاق هذه المبادرة التي تروم إلى جعل المغرب بوابة لدخول دول الساحل والصحراء الافريقية إلى الأطلسي، من شانها تعزيز التعاون جنوب-جنوب على شراكة رابح-رابح.
ومن جهته، ذهب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بقلعة السراغنة، محمد الغالي، إلى القول إن هذه المبادرة الأطلسية الإفريقية ستكون رافعة تنموية اقتصادية هامة، وهي بمثابة بوابة لانفتاح دول إفريقيا جنوب الصحراء على العالم، وهي بذلك تنسجم مع السياسة الإفريقية للمغرب، التي ترنو إلى ” فك العزلة عن دول الساحل والصحراء الافريقية”.
وعلى هذه القاعدة، يمكن القول، إن الرهان على المسار الذي أطلقته هذه المبادرة يتجاوز في مجمل جوانبه التطلعات الوطنية للمغرب، إلى التأسيس لأبعاد استراتيجية إقليمية ودولية يُراكم من خلالها مساحة الإنجازات التي تتعدد وتتغير وفق معادلة الإرادة والرغبة في المساهم في رسم خارطة اقتصادية تكاملية جديدة ستفرضها التحولات الجيواستراتيجية التي تشهدها المنطقة.

البارزة, وجهات نظر 0 comments on تونسيون بين مؤسسي الحركات القومية والبعثية في المشرق والمغرب

تونسيون بين مؤسسي الحركات القومية والبعثية في المشرق والمغرب

بقلم كمال بن يونس

لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

“عربي21”، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

تختلف القراءات في تقييم الدور الذي لعبه المثقفون والنشطاء السياسيون التونسيون المغاربيون المحسوبون على “تيارات الهوية العروبية الإسلامية” وعلى الحركات “الوحدوية” التي تبنت شعارات “ثورية” رفعها مبكرا رموز الحركات المناهضة للاستعمار في المشرق والمغرب وقادة الأحزاب  الوطنية والتيارات البعثية والقومية من بينها الثالوث الشهير “الحرية والاشتراكية والوحدة” (مع اختلافات في الترتيب بين البعثيين والناصريين وبقية القوميين)..

لكن عدة حقائق تفرض نفسها عند تقديم أي قراءة تأليفية ـ تركيبية ـ تحليلية لتجارب التيار القومي العربي في تونس والدول المغاربية وتأثيراته الثقافية والفكرية والسياسية والحزبية في مرحلتي الكفاح الوطني وبناء الدول الحديثة ثم في مرحلة ما بعد انتفاضات 2010 ـ 2011 والمتغيرات الجيو استراتيجية التي عقبت انفجار “الثورات الشبابية العربية” ..

“عربي21”، فتحت ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

في هذا السياق يقدم الأكاديمي والإعلامي التونسي كمال بن يونس سلسلة من الورقات حول الجذور الثقافية والرموز الفكرية والسياسية والحزبية للتيارات الوحدوية والقومية في تونس والمنطقة المغاربية .

كما يقدم قراءة لـ 3 تجارب سياسية خاضها القوميون العرب في تونس من خلال مشاركاتهم، قبل الاستقلال عن فرنسا في 1956 وبعده، في حركات وتنظيمات سياسية سلمية وأخرى مسلحة أو “ثورية”، إلى جانب تجاربهم في الصفوف الأولى في الحكم وفي المعارضة بعد ثورة 2011 ثم بعد منعرج قرارات 25 تموز (يوليو) 2021 التي اعتبرتها المعارضة “انقلابا على السلطات المنتخبة وعلى الدستور الشرعي”.

سرديات التاريخ القومي

قدم كبار الإعلاميين والأكاديميين التونسيين والمغاربيين، وبينهم التونسيان هشام جعيط ومصطفى الفيلالي والمغربيان عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، قراءات و”سرديات” عديدة لنشأة التيار الوحدوي العروبي ودوره في تونس وبلدان شمال إفريقيا منذ نشأة تيارات الإصلاح ومفكري النهضة وحركات التحرر الوطني في القرن التاسع عشر ومطلع القرن الـ20 .

وأثبت الباحث في تاريخ الأفكار في العهد المعاصر فتحي القاسمي العلاقة بين بروز التيارات الوطنية والعروبية الإسلامية المعاصرة بالديناميكية والشراكة التي برزت طوال القرنين الماضيين بين رموز الفكر الإصلاحي في جامعتي الزيتونة بتونس والقرويين في فاس المغربية ونظيراتهما في المشرق العربي وأوروبا..

وتكشف هذه السرديات أن التيارات الإصلاحية والثورية الوطنية العروبية ازدهرت في تونس والبلدان المغاربية في علاقة بحملة نابليون بونابورت الاستعمارية على المشرق العربي ما بين 1978 و1801 “والصدمة الثقافية الحضارية” التي تسببت فيها هيمنة قوات الاحتلال الفرنسي والبريطاني ثم الإيطالي والإسرائيلي على كامل المنطقة طوال القرنين الماضيين..

وتزايد دور الوطنيين العروبيين بعد هزائم اسطنبول وحلفائها في الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس ـ بيكو الفرنسية البريطانية في 1916  التي قسمت “تركة الإمبراطورية العثمانية” إلى دويلات، ثم بعد مزيد تقسيم العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية ..

كما برز التيار الوطني العروبي الإسلامي بعد إعلان اللورد البريطاني بلفور في 1917 الذي مهد لاحتلال فلسطين والقدس، ودخول العرب طور “معركة وجود” و”معارك حدود” وصراعات “مع الآخر”.. بما في ذلك صراعات حول هوياتهم الثقافية المحلية والإقليمية والإسلامية، من جهة، وحول تحقيق تطلعاتهم للوحدة وشعارات ” الثورة العربية الكبرى الأولى ” التي انفجرت في 1916 بزعامة ” الشريف حسين بن علي ” في مكة وتوقع روادها أنها ستؤدي إلى تأسيس دولة عربية موحدة ، فكانت نتيجتها توظيفهم من قبل المحتل البريطاني لمزيد تقسيم الدولة العثمانية وكامل العالم العربي الاسلامي.

الزعماء العروبيون في تونس ومحيطها المغاربي

اعتبر باحثون في الجامعات التونسية والمغاربية في حواراتهم مع “عربي21″، بينهم المؤرخ الكبير عبد الجليل التميمي مؤسس “المجلة التاريخية المغاربية”، أن الزعيم الوطني العروبي الإسلامي العالمي عبد العزيز الثعالبي ونظيره الجزائري عبد الحميد بن باديس ورفاقه في جمعيتي العلماء المسلمين وطلبة شمال إفريقيا المسلمين كانوا مع الزعيمين الليبيين سليمان الباروني وعمر المختار من رواد التيار الوطني العروبي فكريا ثقافيا وسياسيا..

وأورد التميمي في حديث لـ “عربي21” أن من بين أبرز مؤسسي تيار العروبة فكريا وسياسيا داخل الحزب الدستوري والحركة الوطنية التونسية يوسف الرويسي خريج الخلدونية والزيتونة ورفيق الزعيم بورقيبة في سجن القديس نيكولا في مرسيليا الفرنسية في الاربعينيات ثم رفيق الزعيم الوطني العروبي الحبيب ثامر منذ 1943 في برلين والمشرق العربي ..

في نفس السياق اعتبر المؤرخ والمدير السابق لمعهد تاريخ الحركة الوطنية في تونس محمد لطفي الشايبي في حديث مع “عربي21” أن أول من تزعم فكريا وسياسيا التيار العروبي الوطني التونسي هم الزعماء الحبيب ثامر وعلي البلهوان ويوسف الرويسي مع رفاقهم المغاربيين في قيادات الحركات الوطنية العربية ومكاتب تحرير المغرب العربي في برلين والقاهرة ودمشق .

وقد نشر الرويسي في الثلاثينيات مقالات فكرية سياسية وطنية عروبية في صحيفة “تونس الفتاة” الناطقة باسم جمعية الشبان المسلمين التي أسسها في 1934 شباب وطنيون من خريجي المعهد الصادقي بزعامة الرشيد إدريس وزيتونيون مستنيرون بزعامة الشيخ محمد الصادق بسيس الذي كان بدوره من بين المتأثرين بالمصلح العروبي اللبناني في المانيا شكيب أرسلان .

ويستدل لطفي الشايبي بوثائق تاريخية عديدة من بينها كتاب مذكرات الزعيم الوطني ورئيس حكومة تونس الأسبق الباهي الادغم .

وقد أكد كتاب الباهي الأدغم وجود علاقة متطورة بين الزعيم الحبيب ثامر مع قيادي قومي عراقي في مرحلة ما بين الحربين، وأنه كان على تواصل مبكر مع أبرز مؤسسي التيار العروبي في ألمانيا ما بين الحربين المفكر اللبناني الأمير شكيب أرسلان (1869 ـ 1946) ورفاقه. لذلك نجح الحبيب ثامر والرويسي في أوروبا في أن يؤسسا في ألمانيا ثم في في فرنسا صحيفة وإذاعة صغيرة ونواة حركة لتوحيد النضال الوطني لمنطقة المغرب العربي، بالاشتراك مع عروبيين من حزب الشعب الجزائري ومن الحركة الوطنية في المغرب الأقصى وليبيا ..

وكانا من الأوفياء لتيار شكيب أرسلان الإصلاحي الوطني. وكان أرسلان عاشر في القاهرة رموز الحراك الوطني القومي العروبي والإسلامي مثل سعد زغلول وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد شوقي وتلامذتهم قبل أن ينتقل إلى سويسرا وألمانيا ..

الزعيم الفكري والروحي للتيار العروبي

في المقابل يعتبر فتحي القاسمي الباحث في تاريخ الأفكار ومؤسس المؤسسة المغاربية للطباعة والمثاقفة والتوثيق، الذي أعاد قراءة عبد العزيز الثعالبي ومؤلفه “تونس الشهيدة” أن الثعالبي كان “الأب الروحي” لحركات التحرر الوطني العروبي الإسلامي محليا وقوميا منذ القرن التاسع عشر.. وسار في نفس التوجه مقربون منه في اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري بينهم محي الدين القليبي وتوفيق المدني..


عبد العزي الثعالبي يتصدر زعماء الحركة الوطنية والقومية التونسية وعلى يساره الحبيب بورقيبة

وسجل المناضل الوطني والوزير السابق والكاتب حامد الزغل في حديث لـ “عربي21” أن الكتاب والصحفيين والسياسيين دعاة “الاتجاه الوطني والعروبي والإسلامي” تزايد دورهم بين الحربين العالميتين، تحت تأثير الصحافة الوطنية والحركات الشبابية والسياسية التحررية، ردا على تنظيم تحركات استفزازية من قبل السلطات الاستعمارية في الجزائر وتونس بمناسبة مائوية احتلال الجزائر ومرور نصف قرن على احتلال تونس ، كان أبرزها “المؤتمر الافخاريستي” عام 1930، الذي شارك فيه الالاف من رجال الكنيسة المسيحيين الأجانب، فوصفه الزعماء الوطنيون ب” الحرب الصلبية الجديدة “، خاصة أنه توج بتركيز تمثال ضخم وسط تونس وقبالة جامع الزيتونة للكاردينال الفرنسي وزعيم التيار التبشيري المسيحي في المشرق العربي وفي الجزائر شارل مارسيل لافيجري.

وكان في يد صاحب التمثال صليب كبير موجه لجامع الزيتونة ولمدينة تونس القديمة ..

وفهم الوطنيون الحداثيون والعروبيون والإسلاميون المستنيرون أن تلك الخطوات الاستعمارية، التي تزامنت مع حملات “التجنيس” (أي استبدال الجنسية التونسية بالجنسية الفرنسية)، من بين مؤشرات “وجود إرادة فرنسية لتأبيد الاستعمار عبر استهداف الهوية العربية الإسلامية وتركيز الاستعمار الثقافي الغربي وفرض القيم الاستعمارية العنصرية التي روج لها جول فيري الزعيم الاستعماري ورئيس حكومة فرنسا ووزيرها للتربية في ثمانينات القرن الـ 19.

وحدة المصير والتحرر الثقافي

في نفس السياق استنتج المؤرخ والباحث في قضايا “الهوية الوطنية” سعيد بحيرة في تصريح لـ “عربي21” أن “الزعماء الوطنيين التونسيين والعرب ربطوا مبكرا بين قضايا التحرر الوطني من الاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي في المغرب والمشرق ووحدة المصير..”

ويؤكد المؤرخ عبد الجليل التميمي في حديث لـ “عربي21” على أهمية تزايد التنسيق بين القيادات الوطنية العربية في المغرب والمشرق بعد تنظيم مؤتمر القدس الاسلامي العالمي الثاني بالقدس في 1931 بمشاركة الزعيم عبد العزيز الثعالبي ومفتي القدس الزعيم الوطني الحاج أمين الحسيني وعشرات الشخصيات العربية والإسلامية والعالمية كان بينها شكري القوتلي الذي سيعين لاحقا رئيسا لسوريا والأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الرحمان عزام من مصر وهو الذي تولى لاحقا الأمانة العامة للجامعة العربية ورياض الصلح رئيس حكومة لبنان لاحقا ..

فوارق بين الشرق والغرب

لكن المؤرخ والكاتب التونسي سعيد بحيرة أكد في حديث لـ “عربي21” أنه يجب التمييز بين نشأة “التيار الوحدوي العروبي”  في تونس وبقية البلدان المغاربية من جهة والمشرق العربي من جهة ثانية .

ولعل من بين أهم الفوارق ما تتميز به تونس ودول شمال افريقيا من “مصالحة ثقافية تاريخية بين العروبة والإسلام السني” منذ قرون ، خلافا لبعض بلدان المشرق العربي حيث ينتمي عشرات الملايين من المواطنين إلى أديان أخرى وإلى طوائف عرقية ومذهبية مختلفة ..

ويسجل المؤرخ سعيد بحيرة أن غالبية البربر اندمجت في الثقافة العربية والإسلامية مبكرا. وتأكد الاندماج بعد غزوات قبائل بني هلال وبني سليم من المشرق العربي إلى كامل منطقة شمال إفريقيا في القرن الخامس هجري / الحادي عشر ميلادي، ونجاحهم في نشر اللغة العربية والإسلام والاندماج مع مواطني المنطقة الأصليين اجتماعيا وثقافيا.

كما أسند الفاتحون العرب مبكرا مسؤوليات عليا في الدولة وقيادة الجيش للبربر الذين اعتنقوا الإسلام بكثافة وتعربوا منذ القرن الأول للهجرة..

في نفس السياق دعا المؤرخ محمد ضيف الله، الذي أعد دراسات عديدة عن نشأة التيارات الوطنية العروبية والإسلامية واليسارية في تونس والبلدان المغاربية، إلى فهم “فسيفساء المشهد الفكري السياسي داخل التيار العروبي الوحدوي” في علاقة بتطورات مختلف القيادات الفكرية والزعامات السياسية والحزبية ولاجتماعية، ماضيا وحاضرا، بدءا من شعارات “تلازم مسارات التصدي للغزو الثقافي والعسكري والاقتصادي الأجنبي بالنضال من أجل إعادة توحيد الوطن العربي والعالم الإسلامي في مستوى النخب والمجتمعات والدول ..

مرحلة ما قبل الأحزاب

وأكد المؤرخ اليساري العروبي عبد اللطيف الحناشي في تصريح لـ “عربي21” على الحاجة “للتعرف على الرموز الفكرية للتيارات العروبية” داخل الأحزاب والحكومات والقوى السياسية العربية، قبل تأسيس الحركات والأحزاب البعثية والناصرية والعصمتية (نسبة إلى “عصمت سيف الدولة”) والماركسية القومية وبعد ذلك”… مع التوقف كذلك عند محطة تأسيس حركات ومجموعات وتيارات عروبية بعد اعتراف الدول العظمى بدولة اسرائيل وهزيمة جيوش الدول العربية في حرب 1948 ..

وتكشف الدراسات الأكاديمية والكتابات المعمقة التي أعدها مؤرخون ومفكرون بارزون في الجامعة التونسية، مثل البشير التليلي ومصطفى كريم و عبد الجليل التميمي وعلي المحجوبي وهشام جعيط وخليفة شاطر ومصطفى الفيلالي ، تعدد الأبعاد الثقافية لدى مروز التيارات الوطنية والقومية في تونس منذ القرن التاسع عشر مطلع القرن 20  .

برز ذلك خاصة لدى رموز التجديد والإصلاح الفكري والسياسي الوطني مثل أحمد بن أبي الضياف وخير الدين باشا وسالم بوحاجب وعبد العزيز الثعالبي والطاهر بن عاشور ثم البشير والطاهر صفر وصولا إلى محيي الدين القليبي وتوفيق المدني والحبيب بورقيبة والطاهر الحداد والحبيب ثامر ويوسف الرويسي وحسين التريكي وصالح بن يوسف وعلماء جامعة الزيتونة الوطنيين بزعامة محمد الفاضل بن عاشور ورفاقه ونشطاء منظمات الشباب والطلبة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها .


الزعيمان بورقيبة والحبيب ثامر مع قادة الحركات الوطنية العربية في مكتب المغرب العربي بالقاهرة بين الحربين

كما برز وقتها “الجيل المؤسس للفكر العروبي المتصالح مع التوجهات الوطنية الواقعية (أو “القطرية”) وبينهم رواد الصحافة الوطنية و”الحركة الثقافية والأدبية” وزعماء منظمات الطلبة الزيتونيين وطلبة شمال افريقيا المسلمين وجمعيات العلماء وبينهم أبو القاسم كرو وعبد الرحمان الهيلة وجيل المثقفين والمحامين والكتاب الذين تصدروا لاحقا ” الحركات القومية الوحدوية البعثية والناصرية والوطنية التونسية والعربية .

الجيل المؤسس..

ويقدم الكاتب والمفكر العروبي التونسي الكبير أبو القاسم كرو، في المجلد السادس من سلسلة كتبه “حصاد العمر”، شهادات مهمة جدا عن الصفحات الخفية في مراحل تأسيس التيار القومي في تونس وشمال إفريقيا وفي المشرق العربي.

ويورد أبو القاسم كرو أنه كان من بين مؤسسي حزب البعث العراقي في بغداد أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ردا على هزيمة 1948، رفقة الشاعر السوري سليمان العيسى والمناضل القومي فائز إسماعيل . وكانوا على تواصل ثقافي وفكري مع المفكرين السوريين ميشيل عفلق وصلاح البيطاراللذين أسسا ” حركة الاحياء العربي” في 1940 ، التي تطورت لاحقا إلى حركة البعث ثم خاضا تجارب ثقافية وسياسية وحزبية عديدة ، من بينها الدفاع عن العلمانية والاشتراكية حينا وعن ” تلازم العروبة والإسلام ” و” كون النبي محمد كان زعيما للقومية العربية ” حينا آخر..

 

 

ويكشف أبو القاسم كرو انه عوض فائز إسماعيل على رأس حركة البعث في بغداد لمدة عامين، ثم غادر العراق في يونيو 1952 فعوضه فؤاد الركابي الذي أصبح فيما بعد “من بين القادة البعثيين البارزين ثم وقع في خلاف مع بعثين آخرين . ومعروف أنه تم اغتياله من طرف جماعته”.

والأهم في شهادة أبو القاسم كرو أنه كتب عن العوامل الثلاثة التي دفعته ونخبة من المثقفين التونسيين والمغاربيين إلى الانتماء إلى التيار القومي والبعثي والانخراط في مرحلتي نشاطه السري ثم العلني، وبعد تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي العلني عام 1951 بزعامة فؤاد الركابي.

هذه العوامل الثلاثة هي: أولا: احتلال فلسطين منذ 1948 وعجز الدول العربية عن رد الفعل، ثانيا: تشكيل “حلف بغداد” الموالي للدول الاستعمارية الغربية و”التصدي للدول الشيوعية والاشتراكية”، ثالثا: المطالبة بتأمين النفط العراقي والخليجي على غرار الخطوة التي قامت بها الحكومة الوطنية في ايران برئاسة محمد مصدق في 1952.

ولا يخفى أن هذا العرض يكشف محاولة فكرية سياسية للربط بين الانتماء الثقافي العربي ومطالب التحرر الوطني والاجتماعي في المشرق والمغرب العربيين مع تبني المرجعيات الفكرية التي ربطت بين التحرر الوطني من “الاستعمار القديم” و”قوى الهيمنة العالمية الجديدة ” التي فرضت بعد الحرب العالمية الثانية بزعامة واشنطن وحليفتها الكبرى في المنطقة “دولة الاحتلال الإسرائيلي”…

 

المصدر: عربي 21

 

 

 

أخبار, البارزة, وجهات نظر 0 comments on بعد انقلاب النيجر : الانظمة العسكرية والبوليسية تنتشر في افريقيا .. بقلم توفيق المديني

بعد انقلاب النيجر : الانظمة العسكرية والبوليسية تنتشر في افريقيا .. بقلم توفيق المديني

احتدام الاستقطاب الإقليمي و الدولي في المنطقة المغاربية وجنوب الصحراء
مجلة البلاد اللبنانية:تصدر أسبوعيًا عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان، العدد رقم 398، تاريخ الجمعة 28/7/2023.
توفيق المديني
في ضوء توالي الاعترافات الدولية ، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ودعم مقترح الحكم الذاتي، الذي يعرضه الملك المغربي محمد السادس كـ”حلّ وحيد” للملف المتنازع عليه بين المغرب من جهة، وجبهة البوليساريو ومن ورائها الجزائر من جهة أخرى ، منذ اندلاع النزاع المسلح في عام 1976 ،جاء اعتراف الكيان الصهيوني ب”سيادة المغرب ” على الصحراء الغربية، ليشكل تحولاً نوعيًا في الصراع و الاستقطاب الإقليمي في منطقة المغرب العربي.
وعل النقيض من التحالف الاستراتيجي بين المغرب و الكيان الصهيوني ، الذي أصبح حقيقة واقعية في منطقة المغرب العربي، يخوض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون معركة على الصعيد الدولي في آخر زيارتين له لكل من روسيا و الصين،من أجل إعادة تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وإنهاء الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، والمطالبة بمقعدين دائمين لإفريقيا في مجلس الأمن الدولي، تأمل أن تشغل أحدهما الجزائر،لا سيما أنَّ الصين أعلنت دعمها “لمطالب الدول الإفريقية العادلة برفع الظلم التاريخي الذي تعرضت له القارة السمراء بحرمانها من التمثيل الدائم داخل مجلس الأمن”.
أما في دول الساحل وجنوب الصحراء، تشهد القوة الاستعمارية الفرنسية تراجعًا ملحوظًا، لا سيما في مالي مع حصول الانقلاب العسكري في 18 أغسطس/ آب 2020، حين اعتقل الجيش رئيس الدولة إبراهيم أبو بكر كيتا ورئيس وزرائها، إثر اضطرابات شعبية عمّت البلاد نتيجة استمرار تدهور الحالة الاقتصادية والأمنية.
ومنذ تولي الحكومة العسكرية الحكم في مالي، طالبت بمراجعة الاتفاقية الدفاعية التي كانت تربط البلاد بفرنسا واعتبرتها مدخلا إلى انتهاك السيادة الوطنية، وبدأت بعدها سلسلة إجراءات لفك الارتباط مع فرنسا، وتقليص نفوذها العسكري بوجه خاص ،لمصلحة تنامي نفوذ روسيا ، من خلال استجلاب قوات “فاغنر” لمحاربة المجموعات الإرهابية الناشطة في مناطق مختلفة من البلاد.
وكان المجلس العسكري في بوركينا فاسو طالب في شهر يناير2023، الجنود الفرنسيين بالرحيل، وذلك بعد بضعة أشهر من مغادرة مماثلة للقوة الفرنسية من مالي التي وجهت بوصلتها نحو روسيا.
وفي ضوء تنامي الشعور المناهض للوجود العسكري الفرنسي في باماكو،عاصمة مالي، كما في واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو،قابله في نيسان/إبريل 2022، إقرار برلمان النيجر نصًا يُجِيزُ انتشار قوات أجنبية على التراب الوطني بهدف التصدي للجماعات المتطرفة التي تنشط خصوصاً في غرب البلاد، قرب الحدود مع مالي وبوركينا. وشكلت العاصمة النيجرية نيامي أحد الخيارات المتقدمة لاستقبال القوات الفرنسية التي غادرت بوركينا، إذ لا تزال فرنسا تنشر قوات عسكرية في ساحل العاج (900 عنصر) والنيجر (2000) والسنغال (500).
وفي حزيران/يونيو الفائت، قال رئيس النيجر محمد بازوم: “لست خادماً لفرنسا”، في محاولة لاستمالة الرأي العام والمنظمات النافذة في المجتمع المدني، التي دعت مراراً إلى التظاهر ضد فرنسا في 2021 و2022.
واعتبر أمادو بونتي ديالو، الأستاذ في جامعة نيامي، أنَّ التفات رئيس النيجر إلى القوى الغربية، وبينها فرنسا، ينطوي “على مجازفة سياسية” بالنسبة إليه، مضيفاً: “ينبغي التحلي بيقظة شديدة، فالناس لن يقبلوا بأي شيء حين يظهرون تمسكاً شديداً بسيادتهم”. وبات الشعور المناهض لفرنسا موضوعاً طاغياً، وخصوصا في السياسة الداخلية لدولة النيجر، التي حصل فيها الانقلاب العسكري يوم الإربعاء الماضي، بوصفه انقلابًا مناهضًا للوجود العسكري الفرنسي.
مبررات اعتراف الكيان الصهيوني بمغربية الصحراء
قبل الاعتراف الإسرائيلي، أعلنت دول عديدة اعترافها هي الأخرى بما يعرف في المملكة بـ”مغربية الصحراء”. وفي مقدمة تلك الدول ، الولايات المتحدة في شهر ديسمبر 2020، حين أعلن رئيسها السابق، دونالد ترامب، بأنه يدعم سيادة المغرب على الصحراء، بينما أكد في تغريدة على حسابه على تويتر أنَّ قراره يتناسب مع موقف المغرب التاريخي من استقلال الولايات المتحدة 1776، باعتباره أول دولة تعترف بالولايات المتحدة كدولة مستقلة.
وتعزّز الموقف المغربي مؤخرا بإعلان إسبانيا هي الأخرى، تأييد مقترح الحكم الذاتي، وهي الخطوة التي فتحت الباب أمام تطبيع علاقات البلدين، بعد أزمة دبلوماسية حادة دامت نحو عام.
وبعد أن التزمت الحياد لعقود، باتت مدريد، تعتبر أن خطة الحكم الذاتي هي “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف” في الصحراء الغربية.
من دون شك ندَّدَتْ جبهة البوليساريو باعتراف”إسرائيل” بمغربية الصحراء، وقالت في بيان لها إنَّ الاعتراف “لا قيمة قانونية ولا سياسية له، مضيفة أنَّه لن يزيد الشعب الصحراوي إلا إصرارًا على مواصلة كفاحه التحرري في مختلف الجبهات”.
وجاء موقف “بوليساريو” موافقًا للموقف الجزائري، حيث حمّل بيان وزارة الإعلام في “الجمهورية الصحراوية” ذات الاعتراف المحدود، المجتمع الدولي مسؤولية التداعيات الخطيرة المترتبة عما وصفه بـ”التحالف الإسرائيلي – المغربي” وما رأى فيه سعيًا “لاستغلال الحرب في الصحراء الغربية لتطبيق أجندات تخريبية مشتركة، أمنية وعسكرية، تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار منطقة شمال افريقيا والساحل عموما”.
وقال بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، الخميس الماضي ، إنَّ قرار “إسرائيل” الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، يشكل “انتهاكًا جديدًا للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي”.
إذا تركنا ردود الفعل من جانب جبهة بوليساريو و الدولة الجزائرية جانبًا، فإنَّ ما يلفت الانتباه في هذا الموضوع، المبررات التي تسوقها “إسرائيل” في اعترافها بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية ،وفي هذا السياق يؤكِّدُ الكاتب الإسرائيلي يوسي متسري مراسل الشؤون الخارجية في القناة الإسرائيلية 13 ، في مقال ترجمته صحيفة عربي 21، ونشرته بتاريخ 21يوليو/تموز 2023،أنَّ “الخطوة الإسرائيلية باتجاه الصحراء الغربية مرتبطة بما حصل في عام 2020، حين تم التوقيع على اتفاقات التطبيع مع أربع دول: الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، ففيما منعت الإمارات الضم الإسرائيلي للضفة الغربية، وخرج السودانيون من القائمة السوداء الأمريكية، واعترفت الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، لكنَّ توقيت الاعتراف الإسرائيلي بهذه السيادة المغربية على هذه المنطقة، وفي هذا الوقت بالذات، يطرح كثيرا من الأسئلة اللافتة”.
وأضاف الكاتب الإسرائيلي أنَّ “السبب الأول يكمن في رغبة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أن يحدّ من آثار العزلة السياسية التي تعيشها حكومته الحالية، والثاني أنَّ الاعتراف يأتي بمنزلة فرصة لتشجيع العلاقات الخارجية لإسرائيل، والثالثة تذكر أن العلاقات مع المغرب لها رمزية كبيرة في الجمهور الإسرائيلي؛ لأنه البلد الأصلي لواحدة من أكبر الجاليات اليهودية، وأكثرها نفوذا، ومُنع الإسرائيليون من زيارتها حتى وقت قريب”.
يربط الكيان الصهيوني بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، بالبعد الإقليمي للصراع المحتدم بينه وبين إيران،الذي يمتدُ من المشرق العربي إلى المنطقة المغاربية، إذ تتحدث العديد من التقاريرالإسرائيلية ، أنَّ إيران تسلح الجزائر من خلال “جبهة البوليساريو” في سعيها من أجل الاستقلال، كما تم الإبلاغ عن نشاط لطائرات إيرانية بدون طيار في المنطقة.
من وجهة نظر إسرائيلية، جبهة الصراع في المنطقة العربية ليست هادئة، ولعلها شبيهة بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث تحلق طائرات إيرانية بدون طيار فوق أوكرانيا، مما يجعل من الصحراء ساحة جديدة للصراع بين “إسرائيل” وإيران، استكمالا لاستمرار هذا الصراع في جميع أنحاء العالم، سواء كان في الصحراء أو الشرق الأوسط أو أوروبا أو أي مكان آخر، وفي هذه الحالة ليس لدى “إسرائيل” المزيد من الترف للجلوس مكتوفة الأيدي أمام مثل هذا التهديد.
يُعَدُّ المغرب زبونًا مهمًا للصناعات العسكرية الإسرائيلية، وهو يحتاج الكثير من المعدات والتكنولوجيا العسكرية التي تبيعها “إسرائيل” بهدف مساعدة الجيش المغربي في الصحراء، مما يعني انحيازًا إسرائيلياً بجانبه في هذا الصراع، وإن لم تعلن ذلك، حتى قبل أن تعرب عن دعمها لكون الصحراء جزءًا من الأرض المغربية، حيث ساعدت المغاربة بالوسائل العسكرية على تقوية قبضتهم عليها، والآن أكملت الخطوة الأمنية العسكرية بأخرى دبلوماسية أيضا.
الرهان الجزائري للإنضمام إلى منظمة البريكس
وهكذا دخلت منطقة المغرب العربي في نطاق احتدام الصراع الإقليمي بين المغرب وحلفائه الكيان الصهيوني و أمريكا وفرنسا وإسبانيا ، وبين الدولة الوطنية الجزائرية، التي زار رئيسها عبد المجيد تبون كل من روسيا (حزيران/يونيو الماضي)والصين(17تموز/يوليو الجاري) في نطاق تعزيزالشراكات الاقتصادية و التجارية والتسليحية ،والمراهنة،على الصين وروسيا للانضمام إلى منظمة بريكس، التي تضم إلى جانب روسيا والصين وجنوب إفريقيا كلا من البرازيل والهند.
ويراهن الرئيس تبون، على الثقل الذي تمثله الصين داخل بريكس، في إقناع بقية الدول الأعضاء بالموافقة على انضمام الجزائر للمنظمة، كعضو ملاحظ أولا، ثم عضو كامل الصلاحيات.وسبق أن أعلنت الصين دعمها “الكامل وترحيبها الكبير بانضمام الجزائر إلى مجموعة بريكس”، خلال لقاء السفير الصيني بالجزائر لي جيان، بالأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية عمار بلاني، في مارس/آذار2023.
وبذلك تكون الجزائر ضمنت دعم أهم بلدين في مجموعة بريكس، وهما الصين وروسيا، الأخيرة أعلنت على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، أنَّ “الجزائر بمؤهلاتها هي المنافس الرئيسي” للانضمام إلى بريكس.
ومن المقرر أن تعقد قمة بريكس في جنوب إفريقيا، ما بين 22 و24 أغسطس/آب المقبل، وقدمت نحو 20 دولة طلب انضمامها إلى بريكس بينها السعودية ومصر والإمارات ونيجيريا وإثيوبيا والسنغال.
بينما أعلنت الجزائر في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تقديمها طلبًا رسميًا للانضمام إلى منظمة بريكس، بعدما تمت دعوة الرئيس تبون، في يونيو 2022، للتحدث خلال قمة بريكس التي عقدت بالصين.
لكن الانضمام إلى بريكس يحتاج توفر جملة من الشروط، لم يتم الاتفاق بشأنها أو الإعلان عنها، وهو ما أشار له الرئيس الجزائري أكثر من مرة تصريحا أو تلميحا، حيث قال في أحد تصريحاته الصحفية “عضوية بريكس تعتمد على الظروف الاقتصادية التي تعتمدها الجزائر إلى حد كبير”.
أسباب الإطاحة بنظام الرئيس النيجري محمد بازوم
أعلن عسكريّون، مساء يوم الأربعاء 26تموز/يوليو 2023، أنّهم أطاحوا بنظام الرئيس النيجري محمد بازوم ،في بيان تلاه أحدهم عبر التلفزيون الوطني في نيامي، باسم “المجلس الوطني لحماية الوطن”.
وقال الكولونيل ميجور أمادو عبد الرحمن، الذي كان محاطاً بتسعة جنود آخرين يرتدون الزيّ الرسمي: “نحن، قوّات الدفاع والأمن، المجتمعين في المجلس الوطني لحماية الوطن، قرّرنا وضع حدّ للنظام الذي تعرفونه”.وأضاف: “يأتي ذلك على أثر استمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصاديّة والاجتماعيّة”.
وأكّد “تمسّك” المجلس بـ”احترام كلّ الالتزامات التي تعهّدتها النيجر”، مطمئناً أيضاً “المجتمع الوطني والدولي في ما يتعلّق باحترام السلامة الجسديّة والمعنويّة للسلطات المخلوعة، وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان”. وأعلن إغلاق الحدود وفرض حظر تجوال في أنحاء البلاد مع تعليق عمل كافة مؤسسات الجمهورية.وأضاف البيان أن “الأمناء العامين للوزارات سيكونون مسؤولين عن تصريف الأعمال، وأن قوات الدفاع والأمن تدير الوضع”، مطالبا “الشركاء الخارجيين بعدم التدخل”.
وقال رئيس النيجر محمد بازوم في أول تصريح له، بعد الانقلاب عليه، إنَّ المكاسب التي حققت سيحميها المواطنون المؤمنون بالديمقراطية، وذلك بعد ساعات من إعلان مجموعة من العسكريين عزله من السلطة، عقب احتجازه في القصر الرئاسي.
وطالبت الولايات المتحدة الأربعاء بإطلاق سراح رئيس النيجر. وقال مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جايك ساليفان في بيان: “ندين بشدة أي محاولة لاعتقال أو إعاقة عمل الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في النيجر والتي يديرها الرئيس بازوم”.
ودعا وزير الخارجيّة الأمريكي أنتوني بلينكن، إلى “الإفراج الفوري” عن رئيس النيجر.وأعلن بلينكن أنّ استمرار المساعدات التي تُقدّمها بلاده للنيجر مرهون بـ”الحفاظ على الديمقراطيّة” في الدولة الأفريقيّة.وأدانت فرنسا “أيّ محاولة للاستيلاء على السلطة بالقوّة” في النيجر، بحسب ما قالت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة كاترين كولونا.
النيجر من أفقر دول العالم، رغم غناها باليورانيوم والغاز، وهذا يفسر إلى حد كبير الاهتمام الواسع من قبل أمريكا وفرنسا بالانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم ، من قبل العسكريين المناهضين للتواجد العسكري الفرنسي و الأمريكي في النيجر.
وكانت النيجر التي تتقاسم الحدود مع مالي بنحو 800 كيلومتر، من بين البلدان الإفريقية الأوائل التي اشتركت مع القوة الإفريقية بنحو 680 جنديا، باعتبارالأزمة المالية تمثل له مشكلاً أمنياً داخلياً. و كان الرئيس النيجري السابق محمدو يوسوفو الذي انتخب في ربيع 2011، اعتبر أن التدخل العسكري الفرنسي حظي بشعبية كبيرة في إفريقيا، من أجل دحر قوات الطوارق والإسلامييين المتشديين الذين سيطروا على شمال مالي منذ بداية سنة 2012، إذ يوجد مليون من الطوارق من بين 12 مليون عدد سكان النيجر.
لقد كان النيجر لوقت طويل ألدورادو هادىء ل”فرانس أفريك”بالنسبة لمجموعة “أريفا” النووية الفرنسية ،قبل أن تصبح خلال بضع سنوات مصدراً للمشاكل:تهديدات متمردي الطوارق، وعمليات خطف رهائن، ففي أرليت (الف كيلومتر شمال شرق نيامي عاصمة النيجر ) التي تشكل موقعاً لاستخراج الأورانيوم شهدت آخر عملية خطف من قبل تنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي “، وهو ما دفع مجموعتا “أريفا” و”فينسي” الفرنسيتان إلى إجلاء كل العاملين فيهما.
مجموعة “أريفا” النووية الفرنسية تحتاج إلى علاقات ديبلوماسية مستقرة بين باريس ونيامي،لضمان أنشطتها ، و تأمين مستقبل استثماراتها : أكثر من ثلث إنتاجها العالمي(8600طن من اليورانيوم في سنة 2009) يأتي من مناجم سمير وكوميناك.
فقد لقي الانقلاب تنديداً واسعاً من قبل فرنسا، وهي الدولة المستعمرة للنيجر سابقاً، وكذلك من قبل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن قبل الولايات المتحدة، التي تسعى إلى زيادة نفوذها في القارة الإفريقية، ومن المعلوم أيضاً أنَّ هناك صراعاً أمريكياً – فرنسياً على توسيع النفوذ في القارة التي شهدت أنواع الاستعمار كافة، وعانت وتعاني من سياسات الهيمنة الغربية التي جعلتها أفقر القارات في العالم وأكثرها تخلفاً.‏
إذاً واشنطن لاتخفي رغبتها في توسيع تواجدها العسكري في إفريقيا وتأمين مصالحها ومواجهة أي نفوذ آخر، وخاصة النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء ، الذي بدأ يلاقي معارضة قوية من قبل مالي وبركينا فاسو و النيجر.
وهكذا يتضح بجلاء أن الصراع الأمريكي مع دول أخرى مثل فرنسا،وروسيا، والصين، على النفوذ والثروة في القارة الإفريقية بلغ أوجه، وأنَّ واشنطن لن تفرط في نفوذها المتزايد ومصالحها الاقتصادية والعسكرية في النيجر وفي غيرها من البلدان الإفريقية….
خاتمة:
أصبح الوجود العسكري الفرنسي في بلدان الساحل وجنوب الصحراء غير مرغوب فيه من قبل شعوب المنطقة، التي أصبحت تناهض القوة الاستعمارية الفرنسية .وبات الوجود العسكري الفرنسي موضوعاً في السياسة الداخلية لهذه البلدان، وتستخدمه قوى داخل الجيوش الإفريقية مناهضة لفرنسا و أمريكا للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها انطلاقاً من الاعتماد على الرأي العام الإفريقي المناهض للسياسات الاستعمارية الفرنسية والأمريكية، واستبدال التحالفات الكلاسيكية السابقة بالتحالف مع روسيا و الصين، القوى الدولية الصاعدة.
وهذه الظاهرة مرتبطة بالوضع الأمني في المنطقة، وكذلك بـنية فئة من الرأي العام في بلدان الساحل وجنوب الصحراء الانتقال إلى مرحلة جديدة والحصول على استقلال جديد.
وقد شذَّ النيجر عن هذا الخط السياسي الجديد في ظل رئاسة محمد بازوم ، لأنَّ النيجر مثلاً تواجه تهديدات إرهابية هائلة، وفي رأي الرئيس بازوم أنَّ دعم القوى الغربية يوفر إيجابيات تفوق السلبيات لمساعدته في خوض هذه التحديات.
ولهذا السبب حصل الانقلاب العسكري في النيجر.

أخبار, البارزة, وجهات نظر 0 comments on توظيف المنصات في جذب ملياري سائح إلى المنطقة العربية .. بقلم كمال بن يونس

توظيف المنصات في جذب ملياري سائح إلى المنطقة العربية .. بقلم كمال بن يونس

كتابات ابن بطوطة وابن خلدون ومارك بولو و«الرحالة» روّجت بنجاح للسياحة

أطلق إعلاميون وخبراء اتصال واقتصاد ومسؤولون حكوميون عن قطاعات الإعلام والاتصال والسياحة في اتحاد إذاعات الدول العربية وجامعة الدول العربية والمنظمات الدولية للسياحة، صيحات فزع بعدما كشفت دراسات أن الدول العربية خسرت 300 مليار دولار من مداخيلها السياحية.

جاء ذلك خلال مؤتمر دولي كبير استضافته تونس، وذُكر خلاله أن هذه الخسائر تراكمت بسبب جائحة «كوفيد – 19» وانتشار التلوث في منطقتي البحر الأبيض المتوسط والمشرق العربي وارتفاع حدة المنافسة الإقليمية والدولية للسياحة العربية. وخلص الخبراء والمسؤولون إلى ضرورة بدء «خريطة طريق الإنقاذ والنمو» باعتماد استراتيجيات إعلامية واتصالية توظف في آن معاً وسائل الإعلام التقليدية والجديدة والإعلام الإلكتروني والمنصات الاجتماعية وشبكات ملايين المدوّنين ورواد «الإعلام البديل». ودعم عبد الرحيم سليمان المدير العام لاتحاد إذاعات الدول العربية، وفهد الفهيد رئيس المنظمة العربية للسياحة، هذا التمشي الجديد، وتوقعا أن يكون مستقبل مئات ملايين المواطنين العرب أفضل من واقعهم بفضل انخراط وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في الترويج لصناعة السياحة العربية في العالم أجمع. وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط»، توقع أحمد رشيد الخطابي الأمين العام المساعد للجامعة العربية ورئيس قطاع الإعلام والاتصال، أن «يسهم الإعلام في ترفيع عدد السياح الذين يزورون العالم العربي سنوياً من نحو 900 مليون العام الماضي، إلى أكثر من ملياري سائح في ظرف سنوات».

ابن بطوطة وابن خلدون وماركو بولو

على صعيد متصل، وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، عدّ التيجاني الحداد، رئيس المنظمة العالمية للصحافيين وكتاب السياحة ووزير السياحة التونسية السابق، أن «الكتابة السياحية الحديثة بدأت منذ كتب الرحالة والمؤرخين، خصوصاً كتب محمد بن عبد الله الطنجي المغربي المعروف بـ(ابن بطوطة 1307 – 1377م)، والعلاّمة التونسي المغاربي العربي عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406)، ورحلات الإيطالي ماركو باولو في القرن الثالث عشر، كما نقلت عنه في كتب (عجائب العالم) وكشفت جوانب طريفة من رحلته إلى شرق آسيا و(طريق الحرير) نحو الصين». ونوّه التيجاني الحداد، الذي كان أول من أسّس مجلة سياحية عربية قبل نحو 3 عقود، بـ«ضرورة توظيف الإعلام التقليدي والجديد» من أجل الترويج لقطاعات الصناعات التقليدية والتراث والسياحة والخدمات في العالم العربي. ومن ثم، حمّل مسؤولية إنجاز هذه المهمة إلى 4 أطراف؛ هي: المنظمة العالمية للسياحة التي يوجد مقرها في إسبانيا وتموّل من قبل الأمم المتحدة، والمنظمة العالمية لوكالات الأسفار، والمنظمة العربية للسياحة التي يوجد مقرها في جدة، ومنظمة منطقة البحر الأبيض المتوسط للسياحة.

ودعا الحداد القائمين على قطاعي الإعلام والسياحة عربياً ودولياً إلى تفعيل الشراكة والتعاون مع المنظمة العالمية للصحافيين وكتاب السياحة «لإنجاز مخططات التنمية السياحية والاقتصادية عربياً بالشراكة مع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة»، وضمان «مواكبة رغبات السائح التي تتغير بسرعة وتتطور بمفعول الزمن واختلاف المعطيات، مثلما تكشفه ملايين الصفحات الاجتماعية والإلكترونية».

منصات إلكترونية عربية

في السياق ذاته، دعا الخبير المصري مساعد المنظمة العربية للسياحة وليد علي الحناوي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى استحداث منصات عربية إلكترونية تروّج، بالشراكة مع اتحاد إذاعات الدول العربية والمنظمة العربية للسياحة، للقطاع السياحي العربي عبر شبكات وتطبيقات الإنترنت عالمياً التي تتفاعل مع تغريدات وتدوينات وشهادات مئات ملايين السياح في العالم أجمع تشمل تطبيقات «يوتيوب» و«تويتر» و«تيك توك» وكل المواقع الاجتماعية الجديدة. وذكر الحناوي أن هذه التطبيقات تستقطب حالياً مليارات البشر من مراحل الاستكشاف والبحث عن الوجهات السياحية والحجز إلى طور السفر وإنجاز المهمات السياحية، «لذلك يجب تأسيس مجلس عربي للإعلام السياحي والإعلام الجديد» لتفعيل مثل هذه الخطة التي تربط بين التنمية السياحية ومواكبة الثورات الإعلامية والاتصالية العالمية.

أيضاً، رأى عدد من الخبراء والسياسيين ورجال الأعمال في تونس والمنطقة، أن قطاع السياحة والصناعات التقليدية يمكن أن «يلعب دور المنقذ من الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تراكمت منذ سنوات واستفحلت بسبب مضاعفات (كوفيد – 19) وحرب أوكرانيا والحروب بالوكالة التي تشهدها المنطقة». ودعا محمد قنطارة، أستاذ الإعلام في الجامعة ومسؤول الاتصال سابقاً في وزارة الخارجية التونسية في تصريح خاص بـ«الشرق الأوسط»، إلى «توظيف الإعلام الجديد وصحافة المواطن والمنصات الاجتماعية والمدوّنين المختصين بالسياحة في الترويج للوجهات السياحية». وشدّد على ضرورة إشراك السيّاح في الحملات الإعلامية السياحية والترويجية الوطنية عبر مواقعهم الخاصة على «فيسبوك» وباقي المواقع الاجتماعية والإلكترونية التي أصبحت تبث يومياً مليارات من الفيديوهات القصيرة والصور والكتابات التوثيقية والشهادات التي توجه سلوكيات مليارات من السياح والمستهلكين في العالم. ودعم هذه التوصيات محمد ماني المدير في وزارة السياحة التونسية، وبهجت محمد أبو النصر مدير إدارة السياحة بجامعة الدول العربية، من خلال تصريحين لنا، أكدا فيهما أن مضاعفة مداخيل قطاع السياحة عربياً من نحو 7 في المائة إلى أكثر من 15 في المائة من الناتج المحلي لكل دولة عربية يستوجب التعجيل بتطوير خطة الاتصال والتأقلم مع انفتاح الشباب والأطفال وغالبية المستهلكين على المواقع الاجتماعية والإلكترونية وفضاءات الحوار التفاعلي فيها.

وفي الحين الذي تؤكد فيه غالبية التقارير والدراسات الوطنية والعالمية، تراكم المؤشرات السلبية اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وسياسياً، عالمياً وفي عدة دول عربية، بينها الدول التي تعاني منذ عقد كامل من اضطرابات سياسية وأمنية وحروب، رأى السفير حسام زكي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الصعوبات يمكن أن تكون ظرفية إذا جرى تفعيل مقررات القمم العربية وبينها مقررات قمتي جدة والجزائر». ولقد صرّح أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة، على هامش زيارة إلى تونس دشن خلالها «مركز أعمال كبيراً» تابعاً لاتحاد إذاعات العربية، بأنه «متفائل بمستقبل الدول العربية إعلامياً وثقافياً واقتصادياً». وبرر أسباب تفاؤله بـ«النجاحات في عدة قطاعات، وبينها السياحة والإعلام»، وأيضاً بتطور الدول العربية حديثاً من حيث مواردها البشرية وثرواتها العلمية والاقتصادية والطاقات الشابة التي برزت في قطاعات الثقافة والفنون والكتابة والإعلام وتكنولوجيا الاتصالات والاقتصاد الرقمي.

السياحة… والإعلام

من جانبه، نوه محمد بن فهد الحارثي، رئيس اتحاد إذاعات الدول العربية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، بالشراكة التي توصل إليها الاتحاد مع المنظمة العربية للسياحة وتنظيمهما معاً، بمناسبة المهرجان السنوي للإذاعات والتلفزيون، مؤتمراً حول «الإعلام السياحي» وسبل توظيفه. وشرح عن أهمية ترفيع عدد السياح الذين يزورون المنطقة من العالم أجمع وتسهيل فرص تنمية السياحة البينية، بعدما أكدت كل التقارير انتعاش السياحة العالمية منذ العام الماضي، بعد الاضطراب الكبير في حركة الطيران والأنشطة السياحية بعد سنتين من جائحة «كوفيد – 19».

عودة إلى أحمد رشيد الخطابي، فإنه نوّه بمبادرة التنسيق بين مؤسسات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية والمنظمة العربية للسياحة واتحاد إذاعات الدول العربية دعماً للإعلام السياحي والإعلام الاقتصادي، وتوظيف قدرات وسائل الإعلام العربية وتكنولوجيا الاتصال الدولية لرفع عدد السياح في المنطقة والسياحة البينية العربية خاصة. ولاحظ الخطابي أن نسبة السياحة البينية في أوروبا مثلاً تتجاوز 80 بالمائة من مجموع السياح، بينما تحوم هذه النسبة عربياً حول 40 في المائة فقط. ولذا عدّ أن الدول العربية مطالبة بتوظيف الإعلام وتكنولوجيا الاتصال وبرامج الإصلاح الإداري وتبسيط الإجراءات بهدف رفع عدد السياح العرب الذين يختارون إجازاتهم في بلدان عربية.

البارزة, وجهات نظر 0 comments on اليمين المتطرف في كل مكان.. حالة ألمانيا

اليمين المتطرف في كل مكان.. حالة ألمانيا

خلال الأيام الماضية، نجح اليمينيون المتطرفون في ألمانيا وللمرة الأولى منذ هزيمة النازية (1945) في الفوز بمقاعد منتخبة في الحكومات المحلية بولايات الشرق.

وأضاف حزب «البديل لألمانيا» بمكاسبه الانتخابية هذه بعدا جديدا لصعوده السياسي بعد نفاذه إلى البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) وإلى بعض برلمانات الولايات ومع حضوره الاحتجاجي الواسع فيما خص ملفات الهجرة واللجوء وسياسات الاتحاد الأوروبي.

وبذلك، يقترب مشهد اليمين المتطرف في ألمانيا من مشهده قبل سنوات في بلدان أوروبية مثل النمسا وإيطاليا والسويد والدنمارك والتي صارت اليوم إما مع حكومات يقودها اليمين أو يشارك بها أو يضمن لها الاستمرار كحكومات أقلية في النظم البرلمانية.

ويصبح السؤال المطروح على أحزاب يمين ويسار الوسط كالمسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وعلى مجمل القوى السياسية في ألمانيا هو كيف يمكن تفادي وصول قوى اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم في بلد دمر بها اليمين من قبل الديمقراطية وحكم القانون وأغرق العالم في حرب مجنونة وكارثية وارتكب جرائم إبادة مفزعة وحمل بها المجتمع ذنبا تاريخيا لم يتخلص منه بعد؟
والحقيقة أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا العديد من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تختلف عن أسباب الصعود في بقية البلدان الأوروبية. فمن التداعيات السلبية لتراجع معدلات النمو الاقتصادي والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مرورا بأزمات المهاجرين واللاجئين الذين دوما ما يستخدمهم اليمين المتطرف كوقود لمقولاته العنصرية ولدعاية الحفاظ على هويات وطنية «نقية» وصولا إلى فضائح الفساد التي تلاحق مسؤولين حكوميين وسياسيين وعدم الرضاء الشعبي عن الدور الكبير الذي صار للاتحاد الأوروبي ومجالسه المختلفة في حياة الألمان؛ على خلفية كل ذلك يصعد اليمين المتطرف ممثلا في حزب البديل لألمانيا ويضغط على الحياة السياسية الألمانية بمقولات شعبوية في الاقتصاد جوهرها الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وإقرار سياسات حمائية، وبخطاب عنصري في السياسة يرفض الهجرة واللجوء حتى وإن كان سوق العمل الألماني في أمس احتياج للأجانب (يحتاج سوق العمل الألماني إلى مليون أجنبي في العام لسد عجز الأيدي العاملة في أغلب القطاعات الاقتصادية والخدمية) ودعاية احتجاجية متشددة تزعم خطر الأجانب (خاصة العرب والمسلمين) على الهوية الوطنية الألمانية.

غير أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا خلفيات خطيرة خاصة تتعلق، من جهة أولى، بجاذبية الفكر العنصري لدى دوائر شعبية ليست بالصغيرة في الولايات الشرقية التي انقلبت بعد انهيار الحكم الشيوعي في 1989 على المقولات اليسارية ولم تقترب من مقولات يمين الوسط ويسار الوسط سوى بقدر يسير وانفتحت على خطاب ودعاية اليمين المتطرف على نحو لم يتوقعه كثيرون. ومثلت موجات الهجرة واللجوء المتتالية من موجة الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في التسعينيات وصولا إلى الموجة السورية في 2015 والموجة الأوكرانية في 2022 القضية الكبرى الممكن استغلالها من قبل اليمين المتطرف للحصول على تأييد الناخبين وتحريك الاحتجاجات في الشوارع.

من جهة ثانية، لا يمكن الفصل بين الصعود السياسي لليمين المتطرف في ألمانيا وبين أعمال العنف العنصري التي تزايدت في الولايات الشرقية خلال السنوات الماضية وأسقطت ضحاياها من المهاجرين واللاجئين والأجانب. لا يعرف الكثيرون خارج ألمانيا حقيقة أن المحاكم الألمانية تنظر إلى اليوم في اتهامات جنائية ضد منتسبين إلى مجموعات نازية جديدة وشبكات إرهابية متطرفة تورطت في قتل مهاجرين ولاجئين ومواطنين من أصول أجنبية.

أما السؤال عن سبل تفادي وصول اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم أو بعبارة أخرى عن استراتيجيات احتواء البديل لألمانيا وأشباهه، فإجابته ترتبط قبل أي شيء آخر بدور اليسار الجديد ممثلا في حزب الخضر في الحياة السياسية.

فاليوم، ترتكز أجندة اليمين المتطرف في ألمانيا إلى خطابين للكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا. أما كراهية الغريب فتتجه إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين وفدوا ألمانيا خلال السنوات الماضية وملايين المقيمين ذوي الأصول الأجنبية، وتروج بين الناس للخوف منهم على الرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي والنظام العلماني والهوية الحضارية ـ الثقافية في ألمانيا.

من جهة أخرى، ترتبط كراهية أوروبا بالترويج لرفض السياسات الاقتصادية والمالية والقانونية للاتحاد الأوروبي التي يرى بها اليمين المتطرف ومعه قطاعات شعبية ليست بالمحدودة ظلما فادحا لألمانيا التي يختزل اليمين المتطرف علاقتها بأوروبا في المساعدات الاقتصادية والمالية للبلدان المأزومة في جنوب القارة، وفي فتح سوق العمل الألماني أمام عمالة رخيصة من وسط وشرق أوروبا على نحو يضر بأجور الألمان، وفي تدخل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته الاقتصادية والمالية في قرارات الحكومة الألمانية. ثم يترجم اليمين المتطرف خطابي الكراهية هذين إلى مطالبة مباشرة بترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وإلى تبني مقولات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والتوقف عن الإنفاق على عموم أوروبا من حصاد عمل ومدخرات الألمان.

موضوعيا، يتجاهل خطاب الكراهية ضد اللاجئين والمقيمين ذوي الأصول الأجنبية القدرة الاقتصادية والاجتماعية لألمانيا على استيعاب لاجئين لم يقترب عددهم الإجمالي أبدا من الملايين الذين يتوزعون في الشرق الأوسط على بلدان مثل تركيا ولبنان والأردن ومصر لا تمتلك الإمكانيات الاقتصادية والمالية لألمانيا، وينكر كذلك الإسهام الإيجابي لملايين الأجانب الذين يشاركون في صناعة التفوق الألماني ويقدمون نموذجا لألمانيا جديدة متنوعة ومنفتحة على العالم.

موضوعيا أيضا يتجاهل خطاب الكراهية ضد أوروبا الاستفادة الاقتصادية والتجارية الكبرى لألمانيا من الاتحاد الأوروبي والتي تدركها بوضوح نخب السياسة ومجتمع الأعمال في ألمانيا مثلما تدرك خطورة انهيار الاتحاد، خاصة بعد ما سبق من خروج بريطانيا من الاتحاد.

أما النتيجة السياسية العريضة فهي خصم صعود اليمين المتطرف على نحو مقلق من شعبية يمين الوسط في ألمانيا ممثلا في الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي (الشريك الإقليمي للمسيحي الديمقراطي والمقتصر تنظيميا وانتخابيا على ولاية بافاريا الجنوبية) والحزب الديمقراطي الحر.

هذه الأحزاب الثلاثة تتحمل العبء السياسي المباشر لصعود اليمين المتطرف. فمن جهة، تتراجع بانتظام نسبة الأصوات الانتخابية التي يستحوذ عليها يمين الوسط.

ومن جهة أخرى، تحت وطأة خطابات الكراهية ومقولات الخوف على «هوية ألمانيا ودخول مواطنيها الأصليين» التي ينشرها اليمين المتطرف تنحرف الأجندات السياسية ليمين الوسط تدريجيا في اتجاه أكثر تشددا وتخرج من بين صفوفها أصوات تطالب أيضا بترحيل اللاجئين وإغلاق أبواب الهجرة والامتناع عن «الإنفاق» على بلدان أوروبا المأزومة. والنتيجة هي، من جهة، تراجع معدلات تأييد الناخبين لأحزاب يمين الوسط التي خسرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ولم تعد تسيطر على مؤسسة المستشارية. ومن جهة أخرى، يغير يمين الوسط من تفضيلاته السياسية بشأن استقبال اللاجئين ويقبل الإغلاق النسبي لأبواب الهجرة وينتقد الاتحاد الأوروبي وقراراته وتدخلاته بين الحين والآخر.

أما اليسار التقليدي ممثلا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار، فيدفع أيضا ثمنا لصعود اليمين المتطرف وللرفض الأخلاقي والسياسي لليسار لمجاراة خطابات الكراهية.

انتخابيا، تنجرف بعض القطاعات المهنية والعمالية والمجموعات السكانية محدودة الدخل إلى التصويت الانتخابي لليمين المتطرف بعد أن استمرت لعقود طويلة على ولائها للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يظل مهددا سياسيا وانتخابيا على الرغم من فوزه بالانتخابات البرلمانية الأخيرة.
ولا ينجو من مقصلة صعود اليمين المتطرف سوى حزب الخضر الذي يحصد تأييد الشباب والعديد من سكان المدن الكوزموبوليتية كالعاصمة برلين والمدن الشمالية هامبورج وبريمن ومدن الجنوب الغنية كشتوتغارت وفرايبورغ.

تدريجيا، يقترب حزب الخضر من منافسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي على موقع الأخير كممثل اليسار الأهم في السياسة الألمانية. والسبب في ذلك هو أجندة الخضر القاطعة في تقدميتها الليبرالية الرافضة لخطابات الكراهية والمدافعة عن الحقوق والحريات والقيم الإنسانية، وليبرالية وبراغماتية الطرح الاقتصادي للخضر الذي لم يعد به من الرؤى اليسارية التقليدية الشيء الكثير.

اليوم يشارك الخضر في الائتلاف الحاكم ويسيطرون على وزارات مختلفة من بينها الخارجية والاقتصاد ويدفعون الشريك الأكبر، الاشتراكي الديمقراطي، إلى سياسات تقدمية في مجالات متعددة ستأخذ حتما الكثير من الوقت حتى تثمر، غير أنها تذهب في اتجاه احتواء اليمين المتطرف وإبعاده عن دوائر الحكم.

البارزة, وجهات نظر 0 comments on قراءة في الجذور التاريخية للتلاقح السياسي بين اليساريين والإسلاميين .. بقلم كامل الخطي

قراءة في الجذور التاريخية للتلاقح السياسي بين اليساريين والإسلاميين .. بقلم كامل الخطي

«اليسار القومي» المستلب من «الإسلام السياسي» قصة ملخصها عزمي بشارة

في كتابه الصادر عام 2003 عن دار الكنوز الأدبية، بعنوان «التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي»، يورد عبد النبي العكري بعض تفاصيل مقابلة خاصة أجراها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1985 مع أحد قياديي حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزيرة العربية، الذي هو الفرع السعودي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش، ومن تلك التفاصيل، موقف الحزب من أحداث شهر نوفمبر 1979 التي تمثلت في اقتحام جهيمان وجماعته المسلحة الحرم المكي واحتلاله، وفي الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة القطيف وقراها.

* يقول قيادي حزب العمل: «إن الحزب هو تنظيم سري.. فإننا لا نستطيع الكشف عن نضالات الحزب وإسهاماته في النضال الوطني. لكن مجرى الصراع الساخن في السعودية وخصوصا أثناء انتفاضة الحرم المكي والمنطقة الشرقية في مطلع السنة الهجرية 1400 (نوفمبر 1979) قد دفع بقواعد الحزب إلى الشارع، حيث شارك التيار الإسلامي الشيعي بقيادة منظمة الثورة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية، وفي ذات الوقت أبدى الحزب تعاطفه الشديد مع حركة السلفيين بقيادة (الشهيد) جهيمان العتيبي، وأشاد بهما علنيا».
هذا القيادي الذي اقتبس عبد النبي العكري كلامه، لا يعبر عن موقف شخصي، بل يعبر عن موقف الحزب الرسمي، إذ يتطابق كلامه مع الموقف الرسمي للحزب، وهذا ما استخلصه عبد النبي العكري من دراسته لوثائق الحزب التي اطَّلع عليها، مثل تقرير أصدره الحزب تحت عنوان «الوضع الطبقي في الجزيرة العربية» يوليو (تموز) 1982، وتقرير «النفط والمجتمع في الجزيرة العربية» 1985، وأعداد من مجلة «الهدف»، ومجلة «طريق الثورة»، ونشرة الحزب الرسمية «المسيرة»، ومجلة «الجزيرة الحرة»، حيث كتب عبد النبي العكري في الصفحتين 217 – 218 من كتابه سابق الذكر: «يشدد الحزب على ضرورة العمل الجبهوي للقوى الوطنية في السعودية، وقد كرس لذلك أكثر من مقال في (المسيرة) و(الجزيرة الحرة) والكتيبات الأخرى والعديد من البيانات. ولقد اكتسبت هذه القضية أهمية استثنائية في ضوء تجربة انتفاضتي الحرم والمنطقة الشرقية في محرم 1400هـ (نوفمبر 1979) والتي لعبت فيها القوى الإسلامية (الشيعية والسلفية) الدور القيادي وشاركت فيها القوى السياسية المعارضة الأخرى وبالتحديد حزب العمل والحزب الشيوعي دون اتفاق سابق. إن هذا التلاحم في الشارع والتجاور في السجون، شكلا دافعا لتقارب المنظمات الثلاث (منظمة الثورة الإسلامية وحزب العمل والحزب الشيوعي) ونشّطا الحوار بين هذه الفصائل وحفزا طرح قضية التحالف كقضية ملحة، وعلى هذا الأساس ركزت الفصائل الثلاث على هذه القضية في أدبياتها وبياناتها ومواقفها».
هذه ليست قضية يتيمة جرت أحداثها على الساحة المحلية السعودية بشكلٍ منفصل عن السياق العام لعلاقة بعض – وأشدد هنا على كلمة بعض – كتل اليسار واليسار القومي العربي بالإسلام السياسي، فالسعي الحثيث لتحالف يساري قومي – إسلامي قد تجلى في المؤتمر القومي – الإسلامي الثاني الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية عام 1997 في بيروت وقدم خلاله مفكرون وباحثون قوميون واشتراكيون اقتراحات تدفع باتجاه بناء مشروع سياسي قومي عربي – إسلامي عن طريق تعريب وعقلنة الإسلام السياسي، والتنازل عن شرط علمانية الدولة في الوعي السياسي القومي العربي.
هذه المحاولة وغيرها من المحاولات ذات نفس المنحى، لم يكتب لها حظ من النجاح بسبب طبيعة علمانية المشروع القومي بيمينه ويساره. هذه العلمانية تختلف جذريا إلى درجة التصادم مع الطبيعة الثيوقراطية لطموحات فصائل الإسلام السياسي. ففي بداية ستينات القرن العشرين صدر كتيب عن الجماعة الإسلامية في لبنان بعنوان «من مبادئ وأهداف الجماعة الإسلامية»، جاء في الكتيب رأي الجماعة في اليسار في شكله الشيوعي حرفيا: «من أخطر الاتجاهات التي تهدد عقيدة الأمة وأخلاقها بالفناء والدمار».
ذات الكتيب لم يتحدث مطلقا عن النظام الرأسمالي ومخاطره، رغم أن الجماعة الإسلامية في لبنان قدمت نفسها ضمن الأطر التقدمية من خلال قولها بالوحدة العربية، ودفاعها عن غير المسلمين في البلاد العربية، وخطابها المعادي، دون مواربة، للطائفية. تتراجع الجماعة الإسلامية في لبنان عن أفكارها الودودة تجاه العرب والعروبة، من خلال خطابها الإسلامي الأممي الذي ظهر جليا في نشرة توجيهية بعنوان «هذا هو الطريق»، صدرت بين عامي 1965 و1966 وهذا التحول، من القومية، إلى الأممية الإسلامية، جاء نتيجة انفتاح الجماعة على تنظيرات الندوي، والمودودي، وسيد قطب، والموصلة لقناعة «جاهلية المجتمع»، و«حاكمية الله».
رغم العداء المستحكم بين الإخوان المسلمين وحزب التحرير، فإن موقف الجماعتين من التيارات القومية واليسارية، يتشابه؛ فحسب مؤسس حزب التحرير الشيخ تقي الدين النبهاني، وكما جاء في كتابه «نظام الإسلام»: «إن الرابطة الوطنية رابطة فاسدة، وكذلك الرابطة القومية، إذ إن هذه الروابط تنشأ عن العاطفة وغريزة البقاء».
يرى حزب التحرير أن المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون، هي مجتمعات غير إسلامية، لكنه لا يرى أنها مجتمعات جاهلية أو دار كفر بشكل مباشر؛ ولحزب التحرير وأفكاره تأثير واضح في صوغ موقف الوجدان العربي – الإسلامي من تجربة تركيا الكمالية، خصوصا وأن حزب التحرير جعل من قضية الخلافة حجر الأساس لمشروعه السياسي.
هذا في الجانب السني من الإسلام السياسي. نجد في الجانب الشيعي تجربة السيد موسى الصدر الذي جاء إلى لبنان عام 1959م بتشجيع من أستاذه السيد محسن الحكيم، وقد كان الهدف الرئيسي وراء انتقاله إلى لبنان، إيجاد أُطر تنظيمية جامعة لأبناء الطائفة الشيعية الذين كانوا متوزعين ومتفرقين، على الأحزاب القومية، واليسارية، والقوى السياسية التقليدية، فضلا عن التنظيمات الفلسطينية، وولد نتيجة الجهود التي بذلها السيد موسى الصدر (المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) في 18 مايو (أيار) 1969 وهذا المجلس هو الهيئة الأب لحركة المحرومين، التي انطلقت عام 1973، والتي أنشأت ذراعها العسكرية (حركة أمل)، وكانت (حركة فتح) الفلسطينية أول من أمدّ (حركة أمل) بالسلاح. استمرت العلاقة الطيبة بين حركتي فتح وأمل، حتى عملية الليطاني عام 1978، حيث نشب الخلاف بين الحركتين إثر نجاح إسرائيل بتطبيق معاقبة البيئة الحاضنة عوضا عن استهداف القواعد العسكرية. منذ ذلك الحين، تبلور الشكل النهائي لحركة أمل كفصيل سياسي مسلح ذي هوية طائفية محددة الملامح، مثله في ذلك، الفصائل اليمينية المسيحية اللبنانية كحزب الكتائب، والأحرار، وتيار المردة.
يقودنا البحث عن الأصل النظري للإسلام السياسي الحديث إلى فكرة «الجامعة الإسلامية» التي وضع أساسها السلطان عبد الحميد الذي كان نُصْب عينيه عدوه العلماني الأقدر والأكثر نفوذا وتأثيرا داخل السلطنة، والقصد جماعة «تركيا الفتاة» ثم «الاتحاد والترقي» اللتان شكلتا القومية التركية «الطورانية» الرافعة الرئيسية لأفكارهما، بالتوالي.
نظم التيار الطوراني حملة تتريك شرسة على الولايات العربية، وحاول السلطان عبد الحميد الحد من النفوذ المتزايد للقوميين الطورانيين من خلال فكرة «الجامعة الإسلامية» التي أراد من خلال تسويقها، تكريس منصب الخلافة رمزا للدولة الإسلامية.
راجت فكرة «الجامعة الإسلامية» عند المواطنين العثمانيين من غير الأتراك، أكثر من رواجها في أوساط الأتراك، لأن فكرة «الجامعة الإسلامية» كانت محاولة بناء سد مانع لانهيار الإمبراطورية العثمانية، التي رأى القوميون الطورانيون علاماته واضحة، فعملوا على إعادة صياغة المفهوم الإمبراطوري على أسس قومية علمانية متأثرة كثيرا بالتجربة البروسية والمنهج البسماركي.
انخرط عدد من منتسبي النخبة العربية في تجربة جماعة «تركيا الفتاة»، ومن ثم جماعة «الاتحاد والترقي»، وانسحبوا من التجربة بعد اكتشافهم العمق العنصري في الأسس الفكرية للتيار الطوراني. من هنا، يحاول الخطاب القومي العربي أن يُعمّي على الأثر البسماركي والأثر الطوراني في جذوره، بل يحاول أن يمرر اقتران العروبية بالإسلام كمناهض للتتريك المعلمن، وهذه مراوغة كلامية تحتاج إلى مراجعة دقيقة لإبطالها؛ فآباء العروبية الأوائل كانوا غير متدينين، بل إن بعضهم كان ملحدا، كما أن من أشياخهم البارزين من لم يكن مسلما أصلا.
صراع السلطان عبد الحميد وأنصاره من الملتفين حول فكرة «الجامعة الإسلامية»، أو كما عرفوا حينئذ «الحزب الحميدي»، من جهة، والقوميين الطورانيين بكل ما اكتسبوه من قوة وتأثير داخل السلطنة، من جهة أخرى، جعل من مسيحيي مدن بلاد الشام، جماعة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولهذا، كانوا روادا في تأسيس فكرة العروبية.
المراوغة الكلامية التي يمارسها الخطاب العروبي تتجلى حاليا في نموذج الدكتور عزمي بشارة. بدأ عزمي بشارة نشاطه السياسي عام 1974، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة قبل الجامعية في المدرسة المعمدانية، حيث أسس وترأس «اللجنة الوطنية للطلبة العرب الثانويين»؛ كان عزمي بشارة وقتذاك تحت تأثير بيئته المنزلية، إذ كان والده يعمل مفتشا صحيا، وناشطا نقابيا على صلة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح).
استمر نشاط عزمي بشارة السياسي في مرحلة دراسته الجامعية في جامعة حيفا، والجامعة العبرية في القدس، وكان بشارة وقتها يحمل عضوية الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وحاملا لفكرة الأممية – الماركسية، ومدافعا صلبا عنها.
في تلك الفترة، لعب دورا فعالا في تأسيس «لجنة الطلبة العرب» في الجامعة العبرية. رفضت اللجنة المركزية للانتخابات في إسرائيل طلب عزمي بشارة للترشح لعضوية الكنيست عام 2003، ووجهت له تهمة عدم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وإشادته بكيانات معادية.
دافع بشارة عن نفسه، مقابل التهم، بقوله «إنه لم ولن يدعو الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل إلى خوض كفاح مسلح، وإنه لم ولن يدعم قط، الأنشطة العنفية».
ردت المحكمة العليا في إسرائيل الدعوة المرفوعة ضد عزمي بشارة بموجب هذه التهم، وأعادت له حق الترشح، فخاض الانتخابات، وفاز بمقعد في الكنيست عن حزب البلد الذي أسسه مع آخرين عام 1995م، والذي يصف نفسه بأنه: «الحزب القومي التقدمي الديمقراطي لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين». تتلخص آيديولوجيا الحزب كالتالي:
* النضال لتحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، بغض النظر عن هويتهم الإثنية.
* معارضة فكرة يهودية دولة إسرائيل.
* النضال من أجل إعادة صياغة إسرائيل كدولة ثنائية القومية.
* الضغط على دولة إسرائيل لنزع اعترافها بالفلسطينيين العرب «أقلية قومية» لها حق التمتع بكافة الحقوق التي تترتب على هذا الاعتراف، بما فيها التعليم، والثقافة، والإعلام.
* يؤيد الحزب حل الدولتين على أساس حدود قبل الرابع من يونيو (حزيران) 1967م، مع الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية.
* يعمل الحزب على تطبيق القرار رقم 194 القاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
يتضح من مفردات الهوية الآيديولوجية لحزب البلد، أن عزمي بشارة تحول لناشط إصلاحي – سياسي إسرائيلي، وهذا توجه منسجم مع التوجه العام لليسار الجديد في إسرائيل، بل إن عزمي بشارة كان قد تقدم للمنافسة على منصب رئيس الحكومة عام 1999م، وهو أول عربي في إسرائيل يقدم على مثل هذه الخطوة، ثم انسحب قبل يومين من موعد الانتخابات مخليا بذلك الساحة للمتنافسيْن الآخريْن، بنيامين نتنياهو وإيهود باراك.
تحولت علاقة عزمي بشارة مع السلطات الإسرائيلية بشكل دراماتيكي بُعَيْد حرب يونيو عام 2006م. قام عزمي بشارة في ذلك العام بزيارة لبنان وسوريا. وأشاد بحزب الله وبالرئيس بشار الأسد؛ استدعته الشرطة الإسرائيلية وحققت معه في تهم في غاية الخطورة، منها، إعطاء معلومات عن الجيش الإسرائيلي لكيان معادٍ أثناء فترة الحرب، وتلقي أموال مقابل ذلك، والتخابر مع جهات عدوة، وغسل أموال لصالح أنشطة إرهابية. غادر عزمي بشارة إسرائيل عام 2007م مصرحا أنه سيغيب لفترة أيام، وسيعود لحضور جولة جديدة من التحقيقات. لم يعد عزمي بشارة إلى إسرائيل، بل قدم استقالته من عضوية الكنيست إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وظهر في قطر. وردت معلومات غزيرة، من جهات مختلفة، تفيد بأن عزمي بشارة قدم استشارات لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وأنه كان أحد العقول التي صاغت «التحالف الوطني»، وذلك بتكليف من أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. عزمي بشارة، ذلك اليساري العتيق ذو الجذر الرومي الكاثوليكي، الذي تحول لناشط إصلاحي – سياسي إسرائيلي، واصل تحولاته، فأصبح مدافعا جهوري الصوت عن الإسلام السياسي في تجليه الإخواني، مع مزج خطابي مراوغ بين العروبية والإسلام!
يؤكد عزمي بشارة، منذ قدومه إلى قطر، على صورته كأب روحي لتيار العروبية الجديدة، من خلال مشاريعه الفكرية، والإعلامية، وحضوره الإعلامي الكثيف، وغزارة إنتاجه الكتابي. تصب جهوده هذه في اتجاه داعم لموجة ما عرف بـ«الربيع العربي»، ومنها مقال طويل لعزمي بشارة نُشِرَ في جريدة «المُدُن الإلكترونية» يوم 3 سبتمبر (أيلول) 2013 تحت عنوان «مصر: الثورة ضد الثورة»، جادل فيه، ببلاغة، عن حق الرئيس الإخواني المخلوع محمد مرسي في إكمال مدته الدستورية، وندد بعدم شرعية خلعه، وحاول تفنيد مقولة «شرعية الشارع» التي ظهرت للوجود نتيجة الحشد الشعبي الهائل في 30 يونيو 2013م. يجادل بشارة بالقول إن هذه الحشود كانت مجرد غطاء لانقلاب 3 يوليو 2013م، وبأنها تحدٍ لـ«شرعية الشعب»، وبأنها صيغة فاشية نجحت الثورة المضادة في تشكيلها بالتعاون مع أجهزة الدولة العميقة، منكرا، لكن بمواربة فيها الكثير من الحذلقة، على الشعب المصري حقه في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ حجته في ذلك أن الرئيس مرسي جاء عن طريق الصندوق، وعن طريق الصندوق، فقط، يكون خلعه شرعيا. أظهر عزمي بشارة، في مقاله المذكور، قدرة عالية على المراوغة الكلامية لا أظن أن كوادر حركة الإخوان تقدر على الإتيان بمثلها.
يتدثر عزمي بشارة بلحاف الحقوق أثناء دفاعه البليغ عن الإخوان، ولا يتوقف عند المفترق الخطير الذي يتبين عنده أن المشروع الوجودي للإخوان هو «الدولة الدينية» التي هي مشروع يلغي ما اشتغل عليه، وانشغل به، عزمي بشارة طيلة عقود، أقصد «الدولة المدنية الديمقراطية». عزمي بشارة ليس حالة منقطعة عن السياق، فتموضعه السياسي الذي أخذ شكله الحالي منذ خروجه من إسرائيل، واستقراره في قطر عام 2007م، لا يختلف كثيرا عن الموقف الذي شرحه عبد النبي العكري عبر اقتباسه كلاما قاله له قيادي في حزب العمل عام 1985م، وتطابق مع الموقف الذي استخلصه عبد النبي العكري، أيضا، من دراسته لوثائق حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزيرة العربية. هل يبرر العداء للأنظمة الحاكمة، التحالف مع جماعات سياسية دينية تعمل على مشروع يلغي كل مخالف، ويلغي المعنى المدني للدولة، أي دولة؟!

* باحث سعودي متخصص
في الحركات اليسارية

البارزة, وجهات نظر 0 comments on الحركات القومية العربية السرية والمسلحة في تونس .. محاولات انقلابية و” حركات ثورية لتصحيح المسار” ؟ .. بقلم .كمال بن يونس

الحركات القومية العربية السرية والمسلحة في تونس .. محاولات انقلابية و” حركات ثورية لتصحيح المسار” ؟ .. بقلم .كمال بن يونس

· المجموعات ” المسلحة ” تدربت في ليبيا ولبنان ومع فصائل فلسطينية

كشف الزعيم القومي اليساري عمر الماجري ،القيادي السابق مع الزعيم العروبي اليساري أحمد نجيب الشابي في حزبي “التجمع الاشتراكي التقدمي”و” الديمقراطي التقدمي”، في حديث مع عربي 21 أن التنظيمات العروبية واليسارية كانت في تونس قبل 2011 نوعان: الأول ضم مجموعات “سياسية سرية” حاول أغلبها أن يوفق بين المواقف القومية والاشتراكية أو الماركسية .

اما الطرف الثاني فيشمل مجموعات تبنت في نفس الوقت “الكفاح المسلح والثوري” والتنسيق مع اطراف ثورية فلسطينية وأحزاب وحكومات عروبية بعثية وناصرية ثورية ..”

كما أكد المنصف الشابي القيادي في حركات ماركسية وبعثية وقومية تونسية وعربية منذ ستينات القرن الماضي ، في حديث مع ” عربي 21 ” ما سبق أن نشره مؤخرا في كتاب أصدره بالفرنسية عن سيرته الذاتية ، عن تطور علاقته وقيادات بارزة من القوميين والبعثيين العرب التونسيين منذ عقود مع ” الثوريين الفلسطينيين والعرب، مثل” أبو نضال “، صبري البنا، زعيم “حركة فتح المجلس الثوري” ، و جورج حبش ورفاقه الذين أسسوا سرا “حركة القوميين العرب “عام 1956 في الأردن ثم ” الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ” التي تفرعت عنها بعد هزيمة يونيو 1967..

فما هي ابرز الحركات والتنظيمات السرية القومية ” الثورية ” والمسلحة في تونس ؟

أورد الزعيم الحقوقي والقومي العروبي سالم حداد مؤلف كتاب ” الهضبة المنسية ” في تصريح لعربي 21 أنه يعتقد أن قيادات ومناضلي التيار القومي يمثلون “الطرف الأهم ” الذي برز مبكرا وعارض الاحتلال المباشر ثم سلطات الاستبداد المتعاقبة بعد اعلان “الاستقلال الذاتي “عن فرنسا في 1955 وتنظيم حركة مقاومة مسلحة دامت سنوات كانت مساندة للزعيم الوطني صالح بن يوسف والقيادات القومية المساندة له في منطقة المغرب العربي وفي بلدان المشرق العربي ، بينهم الزعيم القومي العربي الجزائري أحمد بن بلا والزعيم المصري عبد الناصر ..

وقد كلفت تلك المقاومة عددا ” هائلا من المناضلين القوميين والوطنيين الصادقين تضحيات جسام من بينها الاغتيالات والاعدام والسجن في ظروف قاسية جدا”..

كما اعتبر سالم حداد ، عضو القيادة الموسعة في حزب حركة الشعب حاليا ، أن مناضلين عروبيين قوميين شاركوا في المحاولة الانقلابية على حكم الرئيس بورقيبة في 1962 ، والذين وقع اعدام كثير منهم فيما سجن آخرون لفترات طويلة ..

بين السرية و” الخط الثوري” والعمل المسلح

وتكشف دراسة جامعية صدرت في كتاب ضخم من جزئين اعده 7 مؤرخين تونسيين ، بينهم عميرة علية الصغير ومحمد ضيف الله وحفيظ طبابي ، تحت عنوان ” المحاكمات السياسية في تونس 1956-2011″ ،أن عددا كبيرا من التنظيمات “السرية” و”الثورية والمسلحة” في تونس كانت عروبية أو يسارية قومية قريبة من الأحزاب البعثية والناصرية والعصمتية ثم من نظام الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي..

ونشر الكتاب وثائق وشهادات مهمة عن محاكمة قيادات تلك التنظيمات ” السرية ” والمجموعات “المسلحة الثورية القومية ” التي اتهمت بمحاولة الانقلاب على النظام ، بدءا من ” جماعة الأزهر الشرايطي ” مدير الحرس الرئاسي لقصر قرطاج ” الذي قاد مع مجموعة من الضباط ” الحركة الانقلابية الفاشلة ” التي كانت مبرمجة ليوم 20 ديسمبر1962/ كانون الأول ” .

وقد كشف وزير الدفاع آنذاك الباهي الادغم تفاصيل عنها في مقال نشرته صحيفة “العمل” الناطقة باسم الحزب الدستوري الحاكم يوم 29 ديسمبر أورد فيه أن ” المجموعة المورطة في المؤامرة الانقلابية ” كانت تضم 20 شخصيا بينهم سبعة ضباط من الجيش وشخصين كانا “من بين اليوسفيين”( أي انصار الأمين العام للحزب الذي قاد التمرد على بورقيبة في 1955 ) وشملهما عطف الحكومة لكنهما خانا العهد..”

ووصف الأدغم عناصر هذه الحركة ب” المتآمرين الذين لهم اتصالات بالخارج وبالداخل وينتمون الى الرجعية واليوسفية والانتهازيين وأصحاب المطامع “..

من” الجبهة القومية لتحرير تونس “إلى كومندوس قفصة

بعد فشل تلك الحركة ” التصحيحية ” واعدام عدد من عناصرها وقمع بقية أنصارها بشراسة في السجون هاجر عدد من المعارضين القوميين الى المشرق العربي وأوربا أو إلى الجزائر حيث تواجد المعارض الكبير إبراهيم طوبال الذي بقي وفيا لرفيقه صالح بن يوسف واستضافته الجزائر حتى وفاته في 1990 .

في المقابل انسحب آخرون من المشهد ومن بينهم بعض العسكريين والموظفين والاداريين “الناجين” مثل الحبيب عمار وعلي المعاوي وعبد الحكيم ….الخنيسي .

لكن عددا من المعارضين القوميين اقتربوا بسرعة مع حكم معمر القذافي ومع تنظيمات قومية وفلسطينية مسلحة في لبنان واسسوا مجموعات قومية ناصرية بينها الجبهة القومية لتحرير تونس في 1972 ، وكان من بين رموزها نبيل حمدي وعمارة بن ضو بن نايل .. وقد احتج بورقيبة على تشكيل تلك “الجبهة المسلحة المعارضة” وتدريب عناصرها في ” معسكرات في ليبيا ولبنان ..”

وانتهى الامر بأن أرسل القذافي كل عناصر المجموعة الى تونس على متن طائرة خاصة وسلمهم الى السلطات الأمنية فتعرضوا للتعذيب وحوكم بعضهم بالسجن لمدة تراوحت بين 5 و10 أعوام .

وبينهم من عاد الى ليبيا ولبنان بعد الافراج عنه، وشارك في “الكومندوس” الذي هاجم مؤسسات عسكرية وأمنية في مدينة قفصة الحدودية الجزائرية يوم 27 يناير 1980 بزعامة عز الدين الشريف وأحمد المرغني ، بعد ادخال أسلحة وعناصر من المجموعة المسلحة ” الثورية” من الجزائر الى المدينة قبل العملية بمدة ..

وقد اعلن بعد تلك العملية الفاشلة عن ” تأسيس إذاعة قفصة صوت الثورة التونسية ” في طرابلس الليبية . وكشفت المحاكمة أن النية كانت تتجه إلى ” اعلان تمرد ومنطقة محررة في محافظة قفصة الجنوبية تمهيدا لاسقاط النظام …”(؟) لكن الجيش التونسي اجهض العملية مدعوما بدعم لوجستي وسياسي واعلامي غربي ومغربي ..وكشفت السلطات ان بعض المسلحين تدربوا مع التنظيم الفلسطيني ” الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة “برئاسة أحمد جبريل ..الذي كانت لديه علاقات كذلك مع تنظيمات ” ثورية ماركسية تونسية صغيرة ” أرسلت بدورها شخصيات للتدرب على السلاح في لبنان ..

“حركة التحرير الشعبية “

في الأثناء برزت شخصيات وتنظيمات سرية بعثية وقومية أخرى حوكم ظل اغلبها مستقلا ، فيما انخرط آخرون في النقابات والحراك الجامعي أو ” اندمجوا مع المنظومة ” بعد انفتاح وسائل الاعلام على المعارضين أواخر عهد بورقيبة ومطلع عهد بن علي .

لكن التنظيم “السري المسلح ” الأهم الذي أوقف 12 من قيادته ونشطائه في 1982 وحوكموا في 1983 بالسجن لمدة بلغت 7 أعوام بالنسبة للبعض ، كان خلية ” حركة التحرير الشعبية ” التي كان يتزعمها الفلسطيني المعارض ناجي علوش منذ أواخر السبعينات في الجامعات اللبنانية ، والتي كانت تصنف على أنها ” على يسار حركة فتح “.

وقد اتهم هذا التنظيم وقتها من قبل السلطات التونسية واوساط في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس بالتخطيط لتفجير المركز الثقافي الأمريكي والسعودي ومحطة الارتال الكبرى في العاصمة ، ردا على الحرب الإسرائيلية على لبنان في صائفة 1982 وخاصة على ” مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا “.

لكن الصحفي عمر الماجري الذي حوكم في هذه القضية ب7 أعوام سجنا، قضى خمسة منها في الحبس ، ينفي تلك الاتهامات رغم تأكيده تواصل مجموعته مع رفاقهم اليساريين والقوميين سياسيا في لبنان . ويتهم الماجري المخابرات الإسرائيلية وشخصيات فلسطينية وتونسية بينها مدير عام الامن وقتها أحمد بنور ب” افتعال اتهامات ” بهدف ارباك السلطات التونسية التي استقبلت قبل ذلك باسابيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ..

العلاقة مع القذافي

ثم نظمت مجموعة تونسية مسلحة ” قومية موالية لنظام القذافي ” في 1986 محاولة فاشلة لاغتيال رئيس الحكومة وقتها الهادي نويرة ..

كما اتهمت السلطات التونسية اتهمت النظام الليبي مرارا بعد فشل ” كومندوس ثورة قفصة ” بتدريب معارضين آخرين .

وتؤكد مصادر رسمية عديدة أن ” ثمن” موافقة النظام التونسي على التصالح مرارا مع حكومات معمر القذافي كان تسليم المعارضين التونسين أو الضغط عليهم ليغادروا ليبيا ..

في نفس الوقت غضت السلطات الطرف عن تأسيس المحامي البشير الصيد ومقربون منه حزبا قوميا مناصرا للقذافي في 1981 سمي” حزب التجمع القومي العربي ” وقع تغيير اسمه في 1988 الى ” حزب الاتحاد الوحدوي الديمقراطي ” .

لكن بورقيبة رفض الاعتراف بهذا الحزب ، فيما أسند بن علي تأشيرة حزب بنفس التسمية لشخصيات ناصرية وبعثية تزعمها رجل الأعمال والقيادي السابق في الحزب الحاكم عبد الرحمان التليلي .ورغم مصالحة القذافي مع النظام التونسي منذ وصول الرئيس ” العروبي زين العابدين بن علي ” الى السلطة ، فقد سجن البشير الصيد في 1989 بتهمة تنظيم ” عصابة سرية ” روجت مناشير تشتم الرئيس بن علي .

وبقي أغلب القوميين الناصريين والبعثيين الموالين لبغداد الذين رفضوا الانخراط في حزب التليلي” في السرية “. كما استقال أغلب القوميين البارزين بعد ذلك من هذا الحزب وبقوا مستقلين .

بينما انضم بعضهم بتشجيع من السلطات الى حزب “الوحدة الشعبية” بزعامة محمد بالحاج عمر ومحمد بوشيحة. وقد سمحت السلطات في عهد بن علي لقيادة حزبي” الوحدة الشعبية ” و” الاتحاد الوحدوي الديمقراطي ” ، في عهد عبد الرحمان التليلي ( 1988-2003) ثم أحمد الاينوبلي (2003-2010) ولقيادات نقابية داخل اتحاد الشغل ومنظمات المحامين والمجتمع المدني بزيارة العراق وسوريا وليبيا والقاهرة واليمن وغيرها علنا وتبني شعارات قومية شرط اعلان ولائها لتونس وسلطاتها .

البارزة, وجهات نظر 0 comments on الزمان يذوق روايات الكاتب والحقوقي الحبيب بن محرز .. بقلم الاستاذ ابو السعود الحميدي

الزمان يذوق روايات الكاتب والحقوقي الحبيب بن محرز .. بقلم الاستاذ ابو السعود الحميدي

الزمان يطوّق روايات الحبيب بن محرز ويدفعها

أصدر منذ أسابيع الإعلامي والمنتج التلفزي الحبيب بن محرز روايته الثانية “خمس سنوات في خمس ليالي”.(صدرت في مارس 2023 عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع)، بعد صدور روايته الأولى سنة 2017 تحت عنوان “حمدان والزمان”.

وإذا كان الزمن يبدو حاضرا، وبكثافة، منذ الوهلة الأولى عبر عنواني الإنتاجين الروائيين، فإن القارئ لا يلبث أن يفاجأ بتحوّل الزمن، في الرواية الثانية، من إطار حاضن للعمل الروائي وأحد مرتكزات بنائه إلى دافع لنسقه نحو تخوم جديدة لم تعهدها الرواية العربية من قبل.

الرواية “خمس سنوات في خمس ليالي” تبدو من الوهلة الأولى كما لو أنها امتداد لرواية “حمدان والزمان”. تجد في الثانية، التي تتواصل أحداثها من 1918 إلى 2090، ما سبق لك أن عايشته في الأولى (تجري أحداثها بين 1911 و 1915) : بيئات ثلاث متلامسة، قد تتقاطع في محطّات محسوبة التواتر، وأعني بذلك  البيئة الريفية في “منازل” جزيرة جربة وبيئة أوساط تجّار التفصيل (أصيلي جزيرة جربة في الغالب) الناشطين في الأحياء الشعبية بتونس العاصمة وبيئة أوساط النخب السياسية والمتعلّمة التونسية في علاقة بدوائر الحكم الفرنسية والتونسية. وتجد نفس أشخاص الرواية وخصوصا حمدان الذي تتشكّل في ذهنك صورته لا من الوصف الدّقيق الذي يغدقه عليه الكاتب بل من نتوءات حضوره الكثيف والبازغ من جزء إلى آخر في الروايتين ومن وسط إلى آخر في بيئات الروايتين معا. إنه يخترق الزمن بتنقّله الفاعل من بيئة إلى أخرى. فهو مطيع لوالده الذي يجبره على تطليق زوجته الأولى (ص ص 50-52)، لكنّه متمرّد عندما يفاجئ في المرّة الأولى الحضور بالغناء في محفل عرسه الجديد على خلاف عادات أهل جربة (ص73) والثانية عندما يكتشف أهل “المنزل” مغادرته الجزيرة وعدم الامتثال لإتمام العرس وإقناع أخيه صالح بمصاحبته إلى العاصمة(ص75).

وإذا استثنينا الصفحات  76/93 التي تغطّي الفترة الممتدّة بين شتاء 1919 وصيفه، والتي قضّاها حمدان تاجر تفصيل في أحد أرياف الشمال الغربي تجنّبا لعتاب أهل جزيرته على ما صدر منه من عصيان لأوامر والده، تجري باقي أحداث الرواية في شوارع تونس العاصمة. لقد اقتنى حمدان متجرا جديدا في الشارع الرئيسي للعاصمة وباشر العمل فيه في أوت 1919. وأصبح في اتّصال مباشر مع أوساط النخب ودوائر الحكم في تونس. وقد ساعدته لاكتساب وضعه الجديد صديقته الإيطالية ماريا القريبة من الإقامة العامة، وصديقه المحامي الصّادق القريب من أوساط الحركة الوطنية والحزب الحر الدستوري بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

وتنتهي أحداث القصّة بقرار الشيخ عبد العزيز الثعالبي مغادرة البلاد في أوت 1923، وبالعثور على جثّة ماريا صديقة حمدان مضرّجة بالدّماء بعد جولات من التعذيب الوحشي في أقبية المصالح الأمنية، بعد اتّهامها بسرقة وثائق سرية من خزانة عشيقها المقيم العام الجديد “لوسيان سان” وتسليط تعذيب شديد عليه بدوره انتقاما وتشفيا.

هذه النهاية تجري في جوّ ثقيل خلّفته زيارة الرئيس الفرنسي “ألكسندر ميليران” لتونس في 21 أفريل 1922 التي أكّد فيها، خلافا للوعود التي قطعتها الإقامة العامة للباي ولقادة الحركة الوطنية بأنها ستكون مناسبة لإعلان قرارات لفائدة الوطنيين التونسيين، أن “تونس ومنطقة شمال أفريقيا ستبقى مرتبطة بفرنسا إلى الأبد”. خيّبة أمل الوطنيين ولّدت مناخا ثقيلا لم يتحمّله محمد الناصر باي الذي كان أظهر تعاطفا مع مطالب الحركة الوطنية وأحسّ بالخديعة وتوفّي جرّاءها في  جويلية 1922. بعده اعتلى محمد الحبيب العرش متخلّيا عن مواقف سلفه المناصرة للوطنيين.

الرواية تنتهي على هذه النغمة الحزينة من حياة تونس ومن حياة بطل الرواية حمدان. غير أن قصّة أخرى تتسرّب إلى ثنايا هذه الأحداث وتلفّها لتعطيها بعدا يتّصل لا بمستقبل مجتمع وبلد فقط بل بمستقبل البشرية. القصة الجديدة ينبؤنا بها الكاتب في مقدّمة للرواية في صفحات قليلة (من الصفحة 7 إلى الصفحة 13). تروي المقدّمة  ملابسات ارتباط القصّتين. ويدخل الكاتب القارئ في سرداب لا عهد له به. إنه سرداب السفر عبر الزمن الذي هو إحدى النتائج التي أفضى إليها التقدّم العلمي والتكنولوجي في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. السفر عبر الزمن له قواعده ومسار تطوّره أيضا. “البشرية لا يمكن أن تسافر إلا في المستقبل”. تلك هي القاعدة الأساسية، بيد أن كاتبنا أنعم الله عليه بذرية دأبت على البحث العلمي والتطوّر التكنولوجي وخاضت تجارب عديدة ونالت مكاسب علمية متنوّعة. فانفتحت أمام حفيدة ابنته في سنة 2090 إمكانية أن تزوره في 26 نوفمبر 2021 على الساعة الثانية فجرا في منزله في الدندان، بعد أن استكمل روايته  ” خمس سنوات في خمس ليالي”، وتقترح عليه تعديلا أول حول سير الرواية، ثم تقترح عليه تعديلا ثانيا بعد أن كان أودع الرواية لدى دار النشر ووافقت لجنة القراءة على نشرها.

القاعدة في السفر أن يكون في المستقبل لأنه لا يمسّ ما كان جرى في الماضي. فالبناء الذي تم وانقضى لا يمكن تعديله وإلا لعمّت الفوضى. لكن الاستثناء الذي حصلت عليه جميلة ابنة الحفيدة، كان لدقائق وفي مناسبتين، وتم في إطار بحث علمي قبلت ابنة الحفيدة إجراءه أو الخضوع إليه، لكن بشروط مجحفة. “القوانين صارمة في هذا المجال، لن أتدخّل في مسائل تقلب الماضي أو الحاضر أو المستقبل”.(ص255). وكل ما ستفعله الشابة هو إجراء بعض التغييرات في رواية الجد. ولتهدئة روع والدتها التي كانت في الأصل متخوّفة من أخطار الرحلة عليها، والحال أن تجارب السفر إلى الماضي ما زالت في بداياتها، أكّدت الشابة: لا تخافي لن أقتله (الجد) فينقطع نسله قبل أن يبلغنا” ولزيادة طمأنة والدتها تقول:”إن زيارتي ستتم بعد ولادة أبيك، فحتّى لو قتلته لن ألغي وجود أبيك ووجودنا نحن”.

الرابط بين الرواية الأصلية والأحداث المتّصلة بالسفر عبر الزمن ورد في الصفحة 36 حين أهدت صديقة سميرة والدة الشابة  إلى جميلة كتابا ورقيا في زمن لم يعد فيه لمثل هذه المحامل وجود يذكر. واكتشفت حينها أن مؤلّف الكتاب هو جدها لأمها. وبدأت منذئذ قراءة الكتاب مع أمها في خمس ليالي.

وبقي التداخل بين الرواية الأصلية (المتن إن شئنا) والرواية الحافة بها (الحاشية إن شئنا) و جاء أغلبها في صيغة تعاليق اللاحق على أحوال السابق. كأن تقول الشابة جميلة لأمها تعليقا على انصياع حمدان لرغبة والده تطليق زوجته: “من هذا الغبي الذي يطلّق امرأته لإرضاء أبيه؟” فتجيبها أمها: “الأغلبية الساحقة من الرجال كانوا يفعلون ذلك يا بنيّتي”. أو حين تقول جميلة لأمها في موقع آخر من الحاشية: ” تلك المرأة(ماريا) عاشت حياة ممتلئة، خالطت الناس وخاضت تجارب متنوّعة وأحبّت واستمتعت”.

لكن السؤال الأهم هو ما العلاقة بين الروايتين وهل هناك رسالة تتجلّى من قراءتهما معا وهما لا تقرآن إلا بشكل متداخل كما أراد لهما الكاتب؟

الرسالة الأهم التي تتجلّى من هذا السرد المتعدّد هو أن الإنسان سواء عاش في بداية القرن العشرين أو في نهاية القرن الحادي والعشرين يجب أن يبحث عن الخصوصية التي تميّزه وتعطي لكيانه وهويته لونهما المغاير. حمدان خضع لمشيئة والده ولكنه انتهى إلى تغيير مساره وامتلاك ذاتيته حين قال لا لوالده الذي أجبره على تطليق زوجته الأولى وفرض عليه زواجا من امرأة لا يعرفها. ولاحظنا أن حمدان قبل هذا الموقف هو غير حمدان بعده.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن سعاد وسميرة وجميلة ونورهان اللاتي راهن على العلم والبحث التكنولوجي وانخرطن في منظمات دولية تنادي بالحرية والمساواة وحقوق المرأة وغيرها من القيم الكونية. غير أن تطوّر أحداث الرواية سواء من خلال ملابسات محاكمة نورهان القمري أمام قضاء  جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية التي انتهت إلى تم سلبها هويتها بالمعنى الحرفي للكلمة أو تمرّد جميلة على طريقة عيش والدتها سميرة وصديقاتها حين قالت لأمها: “لا أريد هذه الحياة، ولا هذا النسق الممل، بالله يا أمّي ، منذ كم سنة لم تضعي أحمر شفاه ولم تطلي أظافرك؟”(ص212) وتضيف في موقع آخر:” أنا أريد أن أعيش، أن اتّصل بالآخرين تماما مثلما كانت “ماريا” في رواية جدي ، تلك المرأة عاشت حياة ممتلئة ، خالطت الناس وخاضت تجارب متنوّعة وأحبّت واستمتعت”. (ص214).

وتتوجّس أمّها من هذا التوجّه الذي تسير فيه مقتنعة بأن رواية الجد هي المنبع الذي تنهل منه جميلة وتتغذّى منه أفكارها غير المقبولة، حيث تقول والدتها سميرة:”أصبح التمادي في قراءة هذه الرواية اللعينة مأزقا بعد أن كان وسيلة تقارب”.

أبوالسعود الحميدي

 

 

 

 

 

 

وجهات نظر 0 comments on تاريخ رموز التيار القومي التونسي في عهدي بورقيبة وبن علي .. بقلم كمال بن يونس

تاريخ رموز التيار القومي التونسي في عهدي بورقيبة وبن علي .. بقلم كمال بن يونس

 

لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

“عربي21”، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

تختلف القراءات في تقييم الدور الذي لعبه المثقفون والنشطاء السياسيون التونسيون المغاربيون المحسوبون على “تيارات الهوية العروبية الإسلامية” وعلى الحركات “الوحدوية” التي تبنت شعارات “ثورية” رفعها مبكرا رموز الحركات المناهضة للاستعمار في المشرق والمغرب وقادة الأحزاب  الوطنية والتيارات البعثية والقومية من بينها الثالوث الشهير “الحرية والاشتراكية والوحدة” (مع اختلافات في الترتيب بين البعثيين والناصريين وبقية القوميين)..

لكن عدة حقائق تفرض نفسها عند تقديم أي قراءة تأليفية ـ تركيبية ـ تحليلية لتجارب التيار القومي العربي في تونس والدول المغاربية وتأثيراته الثقافية والفكرية والسياسية والحزبية في مرحلتي الكفاح الوطني وبناء الدول الحديثة ثم في مرحلة ما بعد انتفاضات 2010 ـ 2011 والمتغيرات الجيو استراتيجية التي عقبت انفجار “الثورات الشبابية العربية” ..

“عربي21”، فتحت ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

في هذا السياق يقدم الأكاديمي والإعلامي التونسي كمال بن يونس سلسلة من الورقات حول الجذور الثقافية والرموز الفكرية والسياسية والحزبية للتيارات الوحدوية والقومية في تونس والمنطقة المغاربية .

كما يقدم قراءة لـ 3 تجارب سياسية خاضها القوميون العرب في تونس من خلال مشاركاتهم، قبل الاستقلال عن فرنسا في 1956 وبعده، في حركات وتنظيمات سياسية سلمية وأخرى مسلحة أو “ثورية”، إلى جانب تجاربهم في الصفوف الأولى في الحكم وفي المعارضة بعد ثورة 2011 ثم بعد منعرج قرارات 25 تموز (يوليو) 2021 التي اعتبرتها المعارضة “انقلابا على السلطات المنتخبة وعلى الدستور الشرعي”.

الصراع انفجر بين التيار الفرنكفوني والتيار العروبي منذ الاستقلال

 

انفجرت بعد إعلان استقلال أغلب الدول العربية عن المستعمر الفرنسي والبريطاني والإيطالي منتصف القرن الماضي تناقضات فكرية وثقافية وسياسية بالجملة بين حلفاء الأمس العروبيين والإسلاميين المستنيرين من جهة والزعماء التحديثيين خريجي الجامعات الغربية من جهة أخرى، الذين كان خصومهم في الدول المغاربية يصفونهم بـ “حزب فرنسا” و”الفنرنكفونيين” و”الفرنكفوليين”.

وفي تونس سجل المؤرخ والمدير العام السابق في وزارتي التعليم العالي والخارجية سعيد بحيرة أن بعض رموز الفكر القومي العروبي بجناحيهم “الاشتراكي العلماني” و”الوحدوي المتصالح مع العروبة والإسلام” لعبوا بعد الاستقلال دور ثقافيا فكريا سياسيا داخل مؤسسات الحكم والإعلام والثقافة والتعليم والنقابات والمجتمع المدني ..

من معارضة السلطة إلى التحالف معها

في نفس السياق السياق سجل المؤرخ محمد لطفي الشايبي أن انخرط زعماء عروبيين بارزين، مثل علي البلهوان ويوسف الرويسي والرشيد ادريس وجلولي فارس، تقلدوا مؤسسات عليا في الدولة الحديثة بزعامة الحبيب بورقيبة مباشرة بعد الاستقلال، وابتعدوا تدريجيا عن خصومها الزيتونيين و”العروبيين” المنحازين لخصمه الزعيم صالح بن يوسف الأمين العام للحزب وحليف الرئيس جمال عبد الناصر وزعماء حركة التحرير الجزائرية بزعامة الرئيس العروبي أحمد بن بلا .

في نفس الوقت يكشف المؤرخ محمد ضيف الله أن زعماء هذا التيار العروبي انقسموا مبكرا إلى مناصرين للزعيم المصري جمال عبد الناصر وآخرين لأحد الأحزاب القومية والقطرية البعثية في سوريا والعراق..

انقسامات

وتكشف مذكرات الكاتب والمفكر العروبي البعثي أبو القاسم كرو كيف انقسم الزعماء القوميون العرب في تونس وشمال إفريقيا بعد فشل “الوحدة بين مصر وسوريا” وانهيار مشروع “الجمهورية العربية المتحدة “( 1958 ـ 1961) التي تزعمها الرئيس المصري عبد الناصر ووافق عليها الرئيس السوري شكري القوتلي.

وزاد الانقسام خطورة بسبب تباين تقييمات القوميين التونسيين والعرب لسلسلة الانقلابات التي شهدتها سوريا والعراق وخاصة انقلاب 1966، وهو الانقلاب الثامن في سوريا بعد الاستقلال، وقد تزعمه الضابط صلاح جديد. وتعمقت الأزمة داخل البعثيين واليسار القومي التونسي والمغاربي بعد أن تسبب انقلابا 1966 في في فرار الزعيمين التاريخين لحزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من سوريا الى العراق ثم الى اوربا .. فيما تسبب انقلاب 1970 برئاسة وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد في إزاحة صلاح جديد ورفاقه وقمع المعارضين وفي بناء “دولة مركزية حديدية جديدة”..

 

وقد انعكست هذه الصراعات بين أجنحة البعث والتيار الناصري على القوميين العروبيين في تونس وشمال إفريقيا حسب أحمد نجيب الشابي في كتابه الضخم الذي نشره مؤخرا تحت عنوان “المسيرة والمسار، ما جرى وما أرى” وضمنه نقدا لتجارب كل التيارات والحركات الفكرية والسياسية في تونس خلال السبعين عاما الماضية.

الفكر والتنظيم.. والديمقراطية

لكن المفكر والناشط السياسي التونسي أحمد نجيب الشابي، وقد كان ووالده وعدد من أفراد عائلته الموسعة من أبرز رموز التيار العروبي ونشطائه في تونس، أورد في حديث لـ “عربي21” أن “الهزيمة النكراء” التي منيت بها مصر والدول العربية في حرب حزيران/ يونيو 1967 دفعته ورفاقه العروبيين في الجامعة التونسية وفي المهجر وفي السجون إلى الابتعاد عن “التيار القومي الناصري” والانخراط في “حزب البعث العروبي” أو في مجموعات يسارية اشتراكية علمانية “منفتحة” على التيار الوحدوي العروبي، مثل “حركة آفاق” التونسية .

وكان كثير من أبناء الجهات الداخلية المهمشة والجنوب التونسي تبنوا المقولات “العروبية”، رغم انخراطهم في حركات تنتسب إلى اليسار الاشتراكي الماركسي مثل ” أفاق” و”العامل التونسي”، حسب شهادات السجين السياسي اليساري السابق فتحي بالحاج يحيى في كتابه “الحبس كذاب والحي يروح”، الذي يسجل أن طلبة الجنوب والجهات المهمشة كانوا يجمعون بين الدعوة للنضال من أجل “الديمقراطية الاجتماعية” و”التحرر الوطني” والنضال ضد “الاستعمار الجديد أو الامبريالية والاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربي الذي استفحل بعد هزيمة 1967..

لكن الأوضاع تأزمت أكثر بعد انقلاب 1970 في سوريا الذي أورد أحمد نجيب الشابي أنه تسبب في اعتزاله وكثير من رفاقه في السجن وفي المهجر وداخل المعارضة للفكر القومي وتبنيهم “للفكر الماركسي اللينيني” عموما وللتيار المناصر “للديمقراطية الاجتماعية” التي بشر بها رموز المنهج الصيني للاشتراكية ومقولات الزعيم ماوتسيتونغ ورفاقه ..

انقلاب 1970

وكشف المناضل اليساري العروبي النوري عبيد صاحب دار النشر “محمد علي الحامي” لـ “عربي21” أنه ورفاقه القوميين العرب البعثيين تأثروا كثيرا في أواخر الستينات بأستاذهم في التاريخ “البعثي والماركسي” محمد الصالح الهرماسي، عندما كانوا في المعهد الثانوي بمدينة صفاقس (270 كلم جنوبي العاصمة تونس).

ويورد النوري عبيد أن الهرماسي، الذي عين لاحقا عضوا في القيادة المركزية القومية لحزب البعث في دمشق ثم تصالح مع حكم الرئيس زين العابدين بن علي، كان من بين أكثر الشخصيات التي نشرت الفكرين الماركسي والقومي العربي البعثي بين شباب المعاهد الثانوية في الوسط والجنوب التونسي وخاصة في معهد مدينة صفاقس، الذي كان يقصده شباب محافظات الجنوب والوسط في الستينات ومطلع السبعينات بسبب غياب معاهد أخرى في حجمه.

 

كما أورد النوري عبيد في كتاب نشره مؤخرا مع المؤرخ العروبي اليساري الهادي التيمومي والمناضل اليساري الاشتراكي السابق إبراهيم بن صالح عن “تاريخ الحركة اليسارية في تونس” أنه ورفاقه البعثيين أرسلوا في  1970 رفيقهم التونسي فرج بن رمضان ، وكان عضوا في القيادة القومية البعثية التونسية، إلى سوريا وحضر مؤتمر حزب البعث السوري .

لكن “المفاجأة” كانت بالنسبة إليهم انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد ورفاقه على الرئيس صلاح جديد وفريقه .

 

كما فوجئ إبراهيم بن صالح بسوء معاملة السلطات السورية له ومنعه من مغادرة دمشق لمدة شهرين، ربما للشك في ولائه وإخلاصه “لأن المجموعة البعثية التونسية لم تكن مدعوة بصفة رسمية للمؤتمر”(؟).

“فكانت النتيجة أن حصلت أزمة ثقة جديدة داخل القوميين والبعثيين التونسيين والمغاربيين في الأحزاب القومية والبعثية المشرقية ، فضلا عن كون السلطات التونسية بزعامة الحبيب بورقيبة شخصيا كانت تضطهد كل من تكتشف علاقته بها. كما كانت تتهجم على الموالين لـ “الناصرية” وللزعيم جمال عبد الناصر الذي دخل بورقيبة في خلاف مبكر معه .

لذلك انسحب كثيرون من رموز التيارين القومي الناصري وثم من التيار البعثي من “العمل الجماعي والتنظيمات السرية”، وبقوا مستقلين فيما انخرط اخرون في حركات ماركسية لينينية أو في حزب البعث المنحاز لبغداد..” حسبما أورده النوري عبيد وأحمد نجيب الشابي في حديثهما مع “عربي21” ..

مسعود الشابي ورفاقه

لكن سعيد بحيرة الديبلوماسي السابق والمؤرخ واحد مؤسسي “التيار القومي” و”الطلبة الوحدويين العرب” منذ السبعينات أورد في تصريح لـ “عربي21” أن غالبية النشطاء القوميين ابتعدوا عن الأحزاب لكنهم أثروا كثيرا في الحياة السياسية والنقابية والثقافية والحقوقية في البلاد وفي الجامعات والمعاهد الثانوية بصفتهم “مستقلين”.

ولم ينخرط أغلب رموز “التيار” في حزب” التجمع القومي العربي “(“الناصري”) الذي أسسه  المحامي البشير الصيد ورفاقه في 1981 ثم حزب “الاتحاد الوحدوي الديمقراطي” الذي تأسس بتشجيع من الرئاسة التونسية أواخر الثمانينات في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 من قبل قوميين وبعثيين ويساريين سابقين بزعامة عبد الرحمان التليلي، نجل الزعيم النقابي أحمد التليلي.

رموز “الجيل الجديد” من القوميين

برز في العقد الأخير من حكم الحبيب بورقيبة ثم في عهد زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011) جيل جديد من الرموز الفكر السياسي القومي العربي، كان من بينهم التونسي مسعود الشابي عضو القيادة القومية البعثية في بغداد الذي انخرط لاحقا في آليات للحوار بين القوميين العرب وبين رموز التيارين القومي والإسلامي، ومحمد الصالح الهرماسي (أبو سليم) عضو القيادة القومية البعثية في دمشق الذي تصالح وعدد من رفاقه مع السلطات التونسية وعادوا إلى تونس بعد 1987 .

كما برز داخل التيار القومي نقيب المحامين البشير الصيد مؤسس حزب “التجمع القومي العربي بتونس” في 1981. وأسس البشير الصيد بعد ذلك عدة مجموعات سياسية وحدوية عروبية ناصرية عصمتية (نسبة إلى المفكر المصري عصمت سيف الدولة) وقد تميز بمساندة سياسات الزعيم الليبي معمر القذافي العروبية..

 

فضلا عن نخبة من الكتاب والمثقفين والسياسيين التونسيين الذين يعتبرون من بين الرموز الفكرية والثقافية والسياسية للوحدويين العروبيين في تونس وفي المنطقة مثل بلقاسم الشابي وأحمد نجيب الشابي و نقيب المحامين (والثورة وزير بعد 2011) الازهر القروي الشابي و النقيب عبد الوهاب الباهي و وصولا إلى النقيب السابق للمحامين ورئيس البرلمان الحالي إبراهيم بودربالة وشخصيات قومية تولت مناصب قيادية في مؤسسات الحكم والنقابات والمجتمع المدني قبل ثورة 2011 وبعدها بينها عبد الرحمان التليلي ومحمد بوشيحة ثم محمد المسيليني وفتحي بالحاج وزهير المغزاوي رئيس حزب حركة الشعب القومية و الاسعد اليعقوبي أمين القيادي البارزي في اتحاد نقابات العمال ..

مزالي وبن سلامة والشاذلي والقليبي

ولعل من بين أبرز خصوصيات التجارب القومية البعثية والناصرية والعصمتية في تونس، حسب المؤرخ والقيادي العروبي السابق المنصف الشابي، أنها لم تأخذ شكل الأحزاب القومية القوية التي أثرت في تاريخ المشرق العربي .

بل كانت غالبا في شكل “تيار ثقافي وحدوي فكري سياسي” نجح بعض رموزه في توظيف الحراك الوطني والإقليمي ضد الاستعمار والتبعية والتخلف للدعوة إلى “صحوة فكرية سياسية ونهضة تربوية واقتصادية عربية شاملة”.

ولئن شدد الزعيم الحبيب بورقيبة والمقربون منه الخناق مبكرا على الشخصيات والمجموعات السياسية المحسوبة على التيار العروبي الإسلامي من خريجي جامعة الزيتونة التونسية وجامعات المشرق العربي، فقد نجح كثير من رموز الفكر القومي العربي في احتلال مواقع استراتيجية  في الدولة وفي الجامعات وفي مؤسسات النشر ومراكز التأثير في السياسات الثقافية والتربية والإعلامي.

 

وتصدر مجموعات المفكرين الوحدويين وانصار التعريب  في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة ( 1955- 1987) الوزيران محمد مزالي والبشير بن سلامة مؤسسا مجلة ” الفكر” (1956-1986) والشاذلي القليبي وزير الثقافة  الأمين العام لجامعة الدول العربية (1979- 1990) ووزير التربية فرج الشاذلي (1980ـ 1986 )..

وكان محمد مزالي تحمل مسؤوليات عديدة في الدولة بعد الاستقلال بينها رئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزة وتلقب بين عدة حقائب وزارية وتولى بين 1980 و1986 رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب الحاكم، بما مكنه من دعم سياسات تعريب التعليم والثقافة والاعلام مستفيدا في نفس الوقت من نقل مقرات أغلب مؤسسات جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس بعد قمة بغداد 1979 وإبرام السلطات المصرية اتفاقية كامب ديفد مع تل أبيب برعاية أمريكية .

واعتبر أحمد القابسي الإعلامي والمستشار السابق للمدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الألكسو، أن نقل مؤسسات العمل العربي المشترك الى تونس وخاصة الثقافية منها، ساهم في دعم تيار التعريب في تونس والدول المغاربية التي اعتمدت حكوماتها بعد الاستقلال عن فرنسا “سياسات تحديث أدارت ظهرها للمشرق العربي وراهنت على النماذج الفرنسية والغربية”.

ومنذ نقل مقرات الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس انفتحت مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام والأوساط الثقافية العروبية الدولية، وأصبحت مقرا لتنظيم مؤتمرات علمية وثقافية عربية ودولية بمشاركة شخصيات وحدوية عروبية وإسلامية وتونسية مثل محمد مواعدة ومصطفى الفيلالي والمنصف المرزوقي والميداني بن صالح وخير الدين حسيب ومعن بشور ومحمد عمارة والمهدي منجرة ومحي الدين صابر ومحمد مواعدة وأحمد عابد الجابري..

“تسامح “مع القوميين والإسلاميين لإضعاف “الشيوعيين”؟

لا يختلف إثنان أن انفتاح السلطات والنخب التونسية في السبعينيات على أنصار “التيار العروبي الإسلامي” بعد هزيمة 1967 ووفاة جمال عبد الناصر وتعاقب الانقلابات في سوريا والعراق واليمن والسودان، فرضته عوامل موضوعية كثيرة من بينها تزايد “خطر الحركات الشيوعية والاشتراكية” الموالية لموسكو وبيكين ونماذج أمريكا اللاتينية..

وتزامن هذا الانفتاح مع سياسات الرئيس محمد أنور السادات وفريقه للقطع مع السوفييت والمعسكر الشرقي ومع “الناصرية” و”اليسار العربي”، فيما تأزمت علاقاته مع نظام معمر القذافي الذي حاول أن يلعب دور الوريث الشرعي ” للناصرية ” عبر تحالفه مع المفكر المصري القومي عصمت سيف الدولة، قبل أن يصل إلى قطيعة معه بسبب تبنيه ” نظرية عالمية ثالثة ” و” الكتاب الأخضر”..

 

بل لقد كانت سياسة “سحب البساط من تحت اقدام القذافي والنظام الليبي” من بين مبررات انفتاح الحبيب بورقيبة وحكمه على التعريب والعروبيين والإسلاميين، رغم تنظيمه محاكمات عديدة لتنظيمات قومية ثم لقيادات ” حركة الاتجاه الإسلامي”…

وكان أهم شعار ثقافي سياسي رفع في تونس بمباشرة بعد سقوط حكم الرئيس بورقيبة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 ووصول “الجنرال العروبي” زين العابدين بن علي وفريقه إلى السلطة هو المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية .

وبدأ بن علي عهده بالمصالحة مع معمر القذافي وفريقه والرموز القومية العربية في الخارج، وبينها القيادة الليبية والنخب الفكرية والسياسية القومية الناصرية والبعثية التي أصبحت تدعى للمحافل الرسمية في تونس .

ثم وقع توظيف بعضها في المعارك السياسية التونسية الداخلية، ضد بعض الأحزاب الناصرية والقومية وضد زعامات وشخصيات حقوقية وسياسية عروبية مثل البشير الصيد و حسين التريكي وعبد الرحمان الهاني و احمد نجيب الشابي و المنصف المرزوقي ومحمد مواعدة..

بل لقد سمح الحكم الجديد بالعودة إلى تونس لرموز تونسية في القيادات البعثية في بغداد ودمشق، كان من أبرزهم مسعود الشابي ومحمد الصالح الهرماسي.. ووقع تعيين شخصيات ثقافية وأكاديمية عروبية في مواقع عليا في الدولة بينها صالح البكاري الذي عين وزيرا مستشارا في قصر قرطاج ووزيرا للثقافة ثم سفيرا. كما عين المحامي والحقوقي العروبي محمود المهيري مستشارا في قصر قرطاج ورئيسا لإحدى محافظات العاصمة تونس .

وغض حكم بن علي الطرف عن صعود شخصيات ورموز قومية إلى ومن “القوميين الماركسيين” الذين تزايد تأثيرهم في مراكز صنع القرار السياسي والنقابي وفي المشهد ين الإعلامي ـ الثقافي، خاصة بعد انحياز الموقف الرسمي التونسي للعراق وليبيا بعد تأزم علاقتهما بواشنطن ولندن وحلفائهما في المنطقة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.

وكان المثال الأهم تأسيس الحزب القومي “الاتحاد الوحدوي الديمقراطي” في 1988 بزعامة عبد الرحمان التليلي نجل الزعيم النقابي والوطني الكبير احمد التليلي، وفتح أبوابه لرموز ثقافية وسياسية قومية بعثية وناصرية متعددة الألوان، نجح بعضها في الدخول إلى الحكومة والبرلمان أو في تحمل مسؤوليات عليا في قيادة الحزب الحاكم في تونس وفي وزارة الداخلية وفي قطاعات التعليم والثقافة وفي الإدارة المركزية مثل زهير حمدي الذي عين مستشارا في رئاسة الحكومة قبل 2011، وبينهم من تولى حقائب ديبلوماسية مثل المحامي سعيد ناصر رمضان الذي القيادي السابق في حزب الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري ومحمد مواعدة الذي عين مديرا عام للشؤون السياسية في وزارة الداخلية وأمينا عاما مساعدا للحزب الحاكم ثم سفيرا، أو عبد السلام بو عايشة القيادي العروبي الذي عين سفيرا، فضلا عن عشرات ممن عينوا أعضاء في مجلسي النواب والمستشارين أو على رأس مؤسسات اقتصادية وطنية بينهم عزالدين السميطي الذي ترأس مؤسسة صنع الأسمنت بقابس ..

أخبار, البارزة, وجهات نظر 0 comments on المفكر الأمريكي دانيال برومبارغ : لا يمكن إقصاء الإسلاميين مهما كانت اختلافاتنا معهم

المفكر الأمريكي دانيال برومبارغ : لا يمكن إقصاء الإسلاميين مهما كانت اختلافاتنا معهم

نوه مدير دراسات الديمقراطية والحوكمة في جامعة جورجتاون المفكر الأمريكي دانيال برومبارغ في حديث مع “عربي21″ بـ”ثراء التجارب التعددية والديمقراطية” التي عرفتها تونس والدول العربية بعد الانتفاضات الاجتماعية وثورات 2011 رغم تعثر مسار الانتقال الديمقراطي وتراكم الأخطاء ومؤشرات الإخفاق السياسي والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية..

وأقر المفكر الأمريكي بأن “أطرافا محلية وإقليمية ودولية ساهمت في إجهاض مسار الانتقال الديمقراطي السلمي عربيا وما سمي بـ”الاستثناء التونسي” من بينها بعض “صناع القرار في المنطقة” الذين عملوا على “إجهاض الجهود الجدية لبناء نموذج للتوافق السياسي والاشتراك في الحكم والاحتكام إلى الدستور والقوانين الديمقراطية “بمشاركة شخصيات وأحزاب إسلامية من بينها قيادات حزب النهضة التونسي بزعامة راشد الغنوشي ورفاقه الذين تحاورت مع بعضهم مرارا في واشنطن وفي المنطقة خلال العشرية الماضية “.

حوارات مع قيادات من النهضة؟

وكشف برومبارغ أن الغنوشي ورفاقه سمعوا خلال حواراتهم في واشنطن مع شخصيات أمريكية ودولية قبل نحو 10 أعوام انتقادات لما وصفه البعض بـ”المرونة المبالغ فيها” و”الاجتهاد المبالغ فيه” إلى درجة أن بعضهم سألهم: “ماذا تبقى من ثوابت الإسلام بعد كل اجتهاداتكم وتبريركم “للتوافق مع الآخر”، عند صياغة دستور 2014؟

ونوه الخبير الأمريكي بفصول كثيرة في ذلك الدستور قائلا: “كان دستورا أنجز بفضل جهود واضحة شاركت فيها تيارات سياسية علمانية وليبيرالية حداثية وأخرى محافظة وطنية عروبية إسلامية أو معتدلة.”.

وأفاد دانيال برومبارغ بأن الجامعيين والخبراء والحقوقيين في الولايات المتحدة والغرب وفي العالم أجمع تابعوا باهتمام “تجارب المصالحة والتوافق داخل البرلمان والحكومة والعمل المشترك بين ممثلي أحزاب وتيارات ونقابات مختلفة المرجعيات في تونس ما بعد انتخابات 2011”.

واعتبر أن المسار الذي سارت فيه النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التونسية العلمانية والإسلامية والوطنية المعتدلة يمكن أن يكون “نموذجا” رغم تعثره، لأن هذا المسار مهد لبلورة بوادر “عقد سياسي وعقد اجتماعي توافقي” ليس فيه تغول لأي حزب ولا لأي طرف مهما كان حجمه الانتخابي ومهما كان عدد الأصوات التي فاز بها في صناديق الاقتراع.. وكانت تلك خطوة انتقالية ضرورية لبناء “المشترك” ورفض إقصاء الأحزاب والأطراف السياسية التي لم تفز في الانتخابات بمقاعد كثيرة ..

نيلسون مانديلا عربي

لكن هل يمكن اليوم الحديث عن “مسار ديمقراطي تعددي” أو عن “انتقال ديمقراطي سلمي” بعد إجهاض التجارب الانتخابية والتعددية سياسيا في أغلب بلدان “الثورات العربية” بدءا من المنعرجات العسكرية والأمنية التي عرفتها مصر وليبيا واليمن وسوريا منذ 2013 وصولا إلى “قرارات 25 تموز/ يوليو 2021” في تونس التي اعتبرتها المعارضة “انقلابا على الدستور وعلى شرعية انتخابات 2019؟”.

الأكاديمي الأمريكي الذي يستعد لإصدار كتاب عن تونس وتجربتها الديمقراطية وفي الانتقال السياسي عقب على سؤالنا قائلا: عشرية ما بعد ثورة يناير 2011 شهدت غلطات كثيرة من بينها عدم بروز زعماء ونشطاء شجعان في حجم الزعيم الجنوب أفريقي الذي قاد مسار مصالحة وطنية وانتقال ديمقراطي واقعي ضمن مشاركة كل الأطراف دون إقصاء بما فيهات تلك التي كانت في صدارة المشهد السياسي قبل سقوط الحكم العنصري ونجاح حركة “المؤتمر الوطني”.. لذلك فإنه لا بد من بروز “نيلسون مانديلا جديد” في تونس وفي أغلب دول المنطقة..

وفي تونس وفي عدد من الدول العربية وقع الخلط بين “المسار الانتقالي الديمقراطي” و”التوافق الواضح حسب عقد سياسي” و”الحوار الوطني الشامل والصريح” من جهة والقرارات الظرفية التي كانت أقرب إلى “وقف إطلاق النار بين خصوم الأمس” من جهة ثانية..

واستنتج المفكر الأمريكي أن تونس ونخب دول المنطقة التي تؤمن بالتعددية والديمقراطية والإصلاح تحتاج إلى مرحلة من التفكير والنقد الذاتي والتأسيس لمسار انتقال ديمقراطي جديد.. وقد تحتاج تونس وبعض الدول “مسارا انتقاليا ثانيا وثالثا”…

“إقصاء الإسلاميين غير ممكن”

وبعد تعاقب الانقلابات عربيا منذ القرن الماضي على نتائج صناديق الاقتراع عندما يكون الفائز حزبا له مرجعيات إسلامية هل يمكن الحديث عن سيناريو المضي في المسار الديمقراطي الانتخابي دون البدء بإقصاء “كل الأحزاب الدينية” ومن يسمون “بالإسلاميين” أو قوى “الإسلام السياسي” ومنهم من شارك في العملية الانتخابية؟

ردا على هذا السؤال قال المفكر الأمريكي إن “التجربة أثبتت أن سياسيين في إسرائيل وفي الدول الديمقراطية الغربية الحليفة لها وفي المنطقة حاولوا تجاهل نتائج انتخابات 2006 في فلسطين عندما فازت بالأغلبية قائمات قريبة من حركة المقاومة الإسلامية حماس.. كما أنهم رفضوا في القرن الماضي وبعد ثورات 2011 الانتخابات التي كان الفائزون فيها محسوبين على “الاتجاه الإسلامي” أو ما يسمى بـ”أحزاب الإسلام السياسي”..

لكنه استطرد قائلا: “رغم ذلك أعتقد أنه لا يمكن إقصاء ملايين الناخبين من أنصار التيارات المحافظة والأحزاب الدينية والمترشحين من أنصار “الاتجاه الإسلامي” مهما كانت اختلافاتنا الفكرية والسياسية معهم.. وقد أثبتت التجارب فشل الحلول الأمنية في معالجة الظواهر الثقافية والسياسية وفي تجاهل ميولات قسم من الرأي العام ومناصرته لسياسيين يسميهم غيرهم بـ”المحافظين”.. كما أنه لا يمكن لأي انتقال ديمقراطي أن ينجح إذا لم يقترن بحوارات صريحة سياسية واجتماعية وثقافية وسياسية دون إقصاء”.

ودعا المفكر الأمريكي كل الفاعلين السياسيين إلى تقييم تجربة العشرية الماضية دستوريا وقانونيا وسياسيا والعمل على إنجاز “مسار انتقال ديمقراطي ناجع جديد “.. بعد تدارك “الأخطاء السابقة” ومن بينها الخلط بين “المصالحة الوطنية” و”قرارات التهدئة العابرة بين الفرقاء” ضمن منطق “وقف إطلاق النار في الحروب”.. مع التسليم بعقم سياسات الإقصاء لكل الأطراف بما في ذلك للتيارات الليبيرالية أو لمرشحي التيار الإسلامي والقوى المحافظة..