رغم أن نداء تونس عند تأسيسه في جوان 2012 كان عمليا استجابة لتفاعلات تطور المشهد السياسي بعد انتخابات أكتوبر 2011 ونتاج لقراءة بعض روافد نخبوية منها النقابي واليساري والدستوري والتجمعي لذلك المشهد ورغبة البقاء والاستفادة لبعض أركان الإدارة التونسية المتنفذة ورؤية بعض رجال أعمال ومديري شركاتهم ومصالحهم، إضافة لتجاوب مع رؤية قوى إقليمية ودولية وطبيعة إستراتيجيتها في التفاعل مع ترتبات الربيع العربي وثوراته التي أرادت دول خليجية وشرق أوسطية حرقها وغلق أقواسها، فان الحزب استطاع النجاح تكتيكيا ومرحليا ولكنه فشل فشلا ذريعا في القدرة على التمدد في المشهد السياسي كما أربكته الصراعات والتناحرات والتجاذبات في اتجاه أطراف المحاور الإقليمية، فكيف تذرر الحزب وأصبح في حالة سيلان تنظيمي وسياسي، وكيف تقلص حضوره السياسي، وما هي آفاقه المستقبلية في أفق الاستحقاقات الانتخابية بنسختيها التشريعية والرئاسية؟

أول أخطاء قيادات ومؤسسي نداء تونس والواقفين وراءه هو أنهم اعتمدوا عقلية التجميع بدون أن تحرص قياداته المباشرة على توفير الشروط الموضوعية لمفهوم الحزب السياسي، ذلك أن روافده الفكرية والسياسية والنقابية لم تكن قادرة على التخلص من مقولاتها الإيديولوجية التي كانت تتصارع حولها ومع منافسيها من ليبراليين وقوميين وإسلاميين وتيارات ماركسية مناوئة لها، في رؤيتها وطرحها الفلسفي والاجتماعي، وبالتالي كان طبيعيا أن تتفجر الصراعات والتناحرات بل وأن تسود لغة الهروات منذ الأشهر الأولى (الصراع على المناصب والتسميات في مارس 2015 والتلاسن ولغة العصي والعنف في أكتوبر من نفس السنة على غرار حادثة الحمامات المعروفة…)

لم تستطع محاذير الرئيس المؤسس الباجي قائد السبسي في التوفيق بين مكونات الحزب وخطوطه ورغم أنه نبه البعض في لقاءات منذ منتصف 2013 أن الحزب هو “فترينة وان التجمع هو الماكينة”، إلا أن مرزوق ويساريي النداء أرادوا الاستحواذ على المقاعد والمناصب في القصر والحكومة وفي هياكل الحزب المركزية وفي تنسيقياته الجهوية…

رغم أن الباجي وضع قاعدة أساسية واحترازية من البداية وهي “أن من يكون نائبا في كتلة الحزب لا يسمى لا في الحكومة ولا في القصر الرئاسي ولا أي من المسوؤليات الكبرى”، إلا أن البعض سرعان ما خالف تلك القاعدة وأربك هياكل الحزب التي تعددت وتناحرت وأصبحت مجرد مُسميات، بل وضاع الحزب وقراراته بين اجتماعات الهياكل المُختلف على أجنداتها وتوقيتها وموقعها في التجسيد العملي لإطارها التنظيمي والتوجيهي لأعضاء الحزب وأتباعه في الجهات بحيث أصبح البعد الغنائمي مُسيطرا على الأذهان وعلى العقليات …

غاب الحزب كمؤسسة عن التأطير ولعب أي دور فعلي ومفصلي وأصبحت المواقع في الحكومة والقصر رهانا أساسيا وأوليا وهنا تدخل “المتنفذون” وحكام الظل بشكل رئيسي وخاصة في تشكيل المحاور وفي تقديم هذا وتأخير ذلك، وأصبح الحزب بين رجال “شفيق” وبين رجال “لطيف”، وأصبح إرباك الحكومة خبزا يوميا حتى أن مجموعة مرزوق طالبت بإسقاطها منذ صائفة 2015 في اجتماع بمدينة المنستير…

زاد انشقاق أكتوبر 2015 الأمر سوء وتعدد الغاضبون وعوض تبيان القُدرة على تشكيل أربع حكومات مثلما تم الترويج له أثناء الحملة الانتخابية في صائفة 2014، أصبحت الحكومة وفي ركنها الندائي مُهتزة حتى تم تهديد رئيس الحكومة الحبيب الصيد بالخروج من رئاستها أو “تمرميده”، ورغم أن الصيد اعتمد على النهضة وعلى الإدارة في حكومتيه لاستقرار عملها في حده الأدنى، فان الشاهد الذي سُمي بناء على تٍرأسه لجنة 13 التي حاولت إصلاح أوضاع الحزب، وجد نفسه تحت الضغوط المتعددة فاستبطن استرجاع الصلاحيات ووضع النداء وأوامره على الرف…

بحلول الذكرى الخامسة لتأسيس الحزب أي في 16 جوان 2017 وجد مؤسسو النداء أنفسهم في خمس أحزاب بالتمام والكمال (نداء تونس – المستقبل – المشروع – بني وطني – تونس أولا)، ولم يتوقف نزيف الاستقالات والانشقاقات والصراعات وإرباك الكتلة والحكومة وأنشطة القصر السياسية واليومية…

مع بداية ماي 2018 تحول الصراع إلى رأس هرمي السلطة التنفيذية بمفعول وأسباب مرتبطة بنداء تونس والذي تسارعت خيباته ومؤتمراته واجتماعاته “الهتشكوكية” نحو مزيد من التذرر وتأسيس مُسميات أخرى على غرار “شق الحمامات” و”شق المنستير” بعد أن تم تأسيس “تحيا تونس” حول رئيس الحكومة وبرئاسته في مرحلة متقدمة، فانه لا يمكن تغييب أن القصر الرئاسي قد أدار ديوانه ثلاث مديرين رئيسيين ندائيين غادروه نحو أحزاب ثلاث مؤسسة على المقاس وللغاية وهي”تونس أولا”(رضا بلحاج) و”تحيا تونس”(سليم العزابي) و”أمل تونس”(سلمى اللومي)، كما أن داعمي الحزب الإعلاميين ورجال الأعمال المحوريين قد تحولوا إلى أحزاب بديلة على غرار “قلب تونس” لنبيل القروي أو “البديل التونسي”( فوزي اللومي) أو “أمل تونس” ( سلمى اللومي الرقيق)…

إن تسارع الأحداث وحضور الأجندات الانتخابية وتعدد المنافسين على القاعدة الانتخابية للحزب، تجعل مستقبله مهتزا وقد تنحصر كتلته النيابية القادمة على افتراض بقاءه قائما في الساحة السياسية، وسيظل ذلك مرتبطا بمدى قدرته على توظيف جزء من لوجستيك متوفر له سياسيا وإداريا واعتباريا، والثابت الأساسي أن حجم نداء تونس وبقائه لم يعد بيده بل بيد الآخرين من حيث رؤيتهم لدوره ومستقبله أو في التحالف معه واعتباره طرفا، وطبعا الحديث هنا مداره “نداء المنستير” والذي ربح أخيرا ومؤقتا معركة “الباتيندة” (Patente) والتي انتصر فيها مؤقتا المدير التنفيذي السابق ونجل الرئيس…

عمليا ستكون مهمة الأمين العام الحالي والمنتدب “علي الحفصي” صعبة وشاقة وتتطلب المراوغة والمناورة وانتظار هجومات خصوم الحزب ومناوئيه، وذلك أمر يعيه الحفصي ويستوعبه جيدا خاصة وانه رياضي في السابق ولم يكن يوما وجها سياسيا إلا بمنطق الانخراط في الحزب الحاكم المنحل في عهدي الاستبداد…

لا يملك حزب نداء تونس بديلا موضوعيا للسبسي الأب كمرشح للرئاسية، باعتبار أن ترشحه أمر جد مستبعد بسبب وضعه الصحي واستيعابه كخبير لطبيعة المرحلة وقراءاته للتجارب الماضية وترتبات ما حدث في المنطقة وخاصة في الجزائر، ولذلك سينتظر أعضاء الحزب ترشيح الرئيس لشخصية اعتبارية باسم الحزب أو من خارجه أي كمرشح مستقل، ولكن هذا الخيار أيضا سيبقى ضعيفا نتاج أن الأمر مقتصر موضوعيا على شخص غير راغب ولا متحمس أن يكون رئيسا مثلما لم يكن متحمسا أن يكون حتى وزيرا حاليا في حكومة الشاهد…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *