على إثر القانون، لم يختر بوش إلا صقره المفضل في الإدارة “بولتون”، وأرسله في رحلة طويلة وشديدة الأهمية حول العالم ليحاول الضغط على وإقناع أنظمة أكثر من 90 دولة لقبول القانون الأميركي كما لو أنه أحد قوانينهم الخاصة غير القابلة للمساس، وهي رحلة وصفها بولتون بنفسه بأنها أحد أفضل إنجازات حياته على الإطلاق، رغم عدم نجاحه في إقناع نصف الدول التي زارها تقريبا. لكن، وبينما كان ذلك إنجازه، فإن رحلته تلك باختلاف نتائجها أطلقت سلسلة من ردود الأفعال بعيدة المدى كان لها أبلغ الأثر في تكوين رأي عام دولي ضخم مؤيد للمحكمة ومناهض للسياسات الأميركية، وساهمت أيضا في تكوين جدار حماية للقوات الأميركية من الملاحقة أثناء غزو العراق بعدها بأشهر قليلة، وكذا بعد الغزو [ترفض واشنطن التصديق على معاهدة روما حتى اللحظة].

ولأن الصقر الجمهوري لا يتنازل عن مواقفه تقريبا، ورغم أن المحكمة الجنائية غضت النظر كليا عن انتهاكات القوات الأميركية في عهد بوش الابن حول العالم، وتجاهلت مسلسل التعذيب المتصل الذي قادته واشنطن في عواصم الشرق الأوسط وأقبية سجونها، وفي معتقلاتها غير الشرعية وكارثية السمعة وعلى رأسها “جوانتانامو”، رغم ذلك فإن بولتون واصل احتقاره للمحكمة، وعارضها بشدة في تحركها للتحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في دارفور جنوب السودان، إلا أن بوش تجاوز اعتراض بولتون في حادثة نادرة، وكان سفيره في الأمم المتحدة وقتها، وسمح للمحكمة بفتح ملفات انتهاكات دارفور، مطبقا سياسة جديدة تتعاطى مع المحكمة الدولية فيما يخدم المصالح الأميركية فقط.

ظل بولتون واسع النفوذ لأكثر من ثلاثة أعوام، ورغم ذلك فقد كوّن الكثير من العداوات جراء مواقفه الحادة وتصريحاته الأكثر حدة، كان بعضها مع أهم أفراد الإدارة الأميركية، كرئيسه المباشر ووزير الخارجية “كولين باول” والذي توارد أن بولتون كان يحجب عنه معلومات حساسة ويمرر له ما يدفع بقراراته نحو توجهات الأخير نفسها، وكخلافاته مع مستشارة الأمن القومي “كونداليزا رايس”، وحتى بوش نفسه، من تغير رأيه فيه قائلا إن بولتون “هو شخص غير جدير بالثقة بداية”، حسب رواية مجلة التايمز عام 2008، تصريح رد عليه بولتون ضمنا في العام نفسه واصفا إدارة بوش بأنها “إدارة منهارة فكريا لدرجة تصيب بالأسى”، فضلا عن عداواته مع مجتمع الاستخبارات، والذي رأى أن بولتون يقوض جهودا رفيعة المستوى لإبقاء الأوضاع مستقرة مع الدول التي تُصنّف في خانة أعداء واشنطن، كمهاجمته واتهاماته المستمرة لكوبا وكوريا الشمالية.

وقد نجحت هذه العداوات في نهاية المطاف في دفع بوش للتخلي عنه، خاصة بعد تعيينه لكونداليزا رايس في منصب وزيرة الخارجية عام 2005، والتي أبدت رغبتها في التخلص من بولتون وإرساله لنيويورك تجنبا لأي صدام محتمل بينهما، وفي بدايات العام نفسه، فبراير/شباط(12)، أُقيل “بولتون”، ثم رشحه بوش لمنصب السفير الأميركي للأمم المتحدة، في إحدى أكثر مفارقات السياسة الأميركية غرابة في العقدين الماضيين.

الصديق الإسرائيلي

كانت فترة “بوش” الأولى هي إحدى أكثر الفترات توترا في علاقات واشنطن مع المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، حيث ضربت العاصمة عرض الحائط بعدد لا بأس به من القوانين الدولية الخاصة بالحروب وحل المنازعات، فضلا عن تورطها في جملة من الانتهاكات الحقوقية جراء غزوي أفغانستان والعراق، لذا فقد تفاءلت المنظمة الدولية الأكبر بجولته الأوروبية في مستهل فترته الرئاسية الثانية، يناير/كانون الثاني لعام 2005، وارتفع سقف الآمال الخاصة بترميم العلاقات أعقاب مساهمة الأمم المتحدة الفعالة في إجراء أول انتخابات عراقية فيما بعد الغزو، لكن تلك الآمال سرعان ما ضُرب بها عرض الحائط عندما أعلن بوش أن مرشحه لمنصب السفير الأميركي للمنظمة هو “جون بولتون”.

وتروي الصحافية الأميركية “سامانثا باور”(13) أن العاملين بالمبنى الرئيس في نيويورك “ساروا في أروقته غير مصدقين، وهم من كانوا ينتظرون اسما مخضرما يعيد الدفء بين المنظمة وأكبر داعميها في العاصمة الأميركية”، فلطالما عُرف بولتون بكراهيته للأمم المتحدة وعدم اكتراثه بها على أفضل الظروف معلنا ذلك في أكثر من مناسبة، ملخصا قناعته في عبارة واحدة قائلا إن مبنى الأمم المتحدة 83 طابقا، فلو اختفت منها عشرة طوابق فلن يلاحظ أحد شيئا.

وفي ظل رجل يرى الدبلوماسية هدرا للوقت، ويرى أن استخدام المفاوضات مع الدول “المارقة” هراء، ويرى أن مقاعد مجلس الأمن الدائمة ينبغي أن تتقلص لمقعد واحد للولايات المتحدة فقط، في ظل هذه القناعات كان من العسير على أي أحد تقبل ترشيح بولتون لمنصب السفير، وبينما اكتفى الأمين العام وقتها “كوفي عنان” بالضحك قائلا إنه لا يريد مناقشة أمر ترشيح بولتون للمنصب، فإن الكونغرس الأميركي كان أكثر حسما، حيث لم ير ترشيح بولتون النور القانوني، وفشل بوش في الحصول على النسبة اللازمة للتصديق على الترشيح في ظل مجلس شيوخ ذي أغلبية ديمقراطية، لكن الرئيس الأميركي كان يرغب في إزاحة بولتون على الأرجح من وزارة الخارجية، لذا فقد استغل فترة تعطيل الكونغرس الصيفية وعيّنه سفيرا في أول أغسطس/آب 2005.

السفير الأمريكي  لدى الأمم المتحدة -آنذاك- يقدم أوراق اعتماد للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في نيويورك 2005 (رويترز)

كان التعيين متسقا مع السياسة الخارجية الأميركية في تلك الفترة، وركز بولتون على مشروعه الطامح لإعادة تأهيل مجلس الأمن، وأيضا إعادة تأهيل مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة، وحظي الأخير بالنصيب الأكبر من هجوم بولتون والذي لم يكن بدعا من توجهات الولايات المتحدة تلك الفترة، حتى للأجنحة اليسارية والليبرالية سياسيا وإعلاميا [على سبيل المثال اشتركت نيويورك تايمز في الهجوم وثمّنت توجهات بولتون بشأن المجلس]، وعلى كل حال فإن حقبة بولتون في المنظمة التي يمقتها سرعان ما انتهت عندما تنامى إدراك بأن الكونغرس سيوقف تجديده بعد استحواذ الديمقراطيين على الغرفتين (الشيوخ والنواب) أواخر عام 2006، لذا فقد قبل “بوش” استقالته في ديسمبر/كانون الأول من العام المذكور.

بدءا من العام التالي 2007 تحوّل بولتون إلى طريقه الخاص مرة أخرى ولكن بنكهة أكثر براغماتية، خاصة مع قدوم إدارة أوباما المناقضة لكل رؤى الصقر الجمهوري، وهي فترة أصبح فيها أحد الوسطاء السياسيين النافذين في العاصمة، فعاد إلى معهد أميركان إنتربريز كباحث أول، وأخذ مكانه في شبكة “فوكس نيوز” اليمينية كمحلل سياسي رئيس، وفي يناير/كانون الثاني لـ 2009 طالب بتفعيل “الحل الثلاثي” للقضية الفلسطينية، حل(14) يعود بموجبه قطاع “غزة” للإدارة المصرية، وتذهب الضفة الغربية للإدارة الأردنية، وتأخذ إسرائيل بقية الأراضي باعتراف عالمي، مضيفا أن حل الدولتين قد أثبت فشله، وواصفا مطالبة الفلسطينيين بإقامة دولة على أنه “خدعة”، وبعدها بعام واحد في 2010 أسس مبادرة “أصدقاء إسرائيل” رفقة إحدى عشرة شخصية دولية رفيعة المستوى، وهي مبادرة تُعنى بالدفاع عن “الدولة الإسرائيلية” ضد أي جهد قد يقوّضها عالميا، وما زالت المبادرة فاعلة حتى الآن.

ولأجل مد دائرة صلاته لمستويات أكثر تأثيرا في الطبقات السياسية لواشنطن، توسع بولتون في علاقاته مع القطاع الخاص(15)، حيث شهدت عشر السنوات الماضية عمله كمستشار لعدد من الشركات التقنية والعسكرية وشركات الطاقة، منها شركة “EMS” للاتصالات العسكرية قبل الاستحواذ عليها عام 2011 من قِبل مجموعة “هني-ويل”، وشركة الخدمات النفطية “دايموند أوف شور دريلينج” ذات الحضور القوي في الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وأيضا في المجلس الاستشاري لشركة بتروكيماويات تُدعى “حلول البلازما المتقدمة”، مجلس ضم بجانب بولتون “كريستوفر هارفِن”، رئيس شركة “سانيتاس الدولية”، وهي شركة لوبيات حامت حولها شبهات بعدم تسجيلها لبعض عملائها الدوليين مخالفة للقانون الأميركي الصارم بهذا الشأن(16).

بجوار ذلك، فقد حجز بولتون مكانه في منغوليا، وهي دولة آسيوية بمنزلة فاصل جغرافي طبيعي بين روسيا والصين، حيث تحوّلت منغوليا الغنية بالمعادن، وأحد أهم مصادر اليورانيوم العالمية، إلى نقطة التقاء وعمل ساخنة للمسؤولين الأميركيين السابقين وشركات اللوبيات أيضا، فعمل بولتون مستشارا للحكومة المنغولية بعقد مرتبط بشركة “كيج الدولية”(17)، وهي شركة لوبيات عملت لترويج اهتمامات النظام المنغولي أمام إدارة أوباما بدءا من ديسمبر/كانون الثاني لعام 2010، ويرأسها رجل الأعمال الأميركي الناشط في منغوليا “ليو جياكوميتو”، رئيس مجلس إدارة “منغوليا فورورد”؛ وهي شركة تنقيب عن اليورانيوم تضم في مجلس إدارتها “بولتون” أيضا، وقامت ببناء شبكة اتصالات قوية مع المسؤولين المنغوليين في وقت تنافسي، في ساحة تشهد حربا بين عمالقة الطاقة العالميين كـ “روسأتوم” الروسية و”أريفا” الفرنسية و”ريو تنتو” الكندية”، من يتنافسون جميعا على الاحتياطات المنغولية من المعدن النووي(18).

لذا، وفي خضم تلك العلاقات لم يكن ترشيح بولتون لمنصب مستشار الأمن القومي، في منتصف مارس/آذار للعام الماضي، محل ترحيب حار من المحافظين الجدد وصقور واشنطن فحسب، وإنما من أرباب عمله السابقين أيضا، لكن ذلك الترحيب لم يكن السمة المشتركة بين الجميع بطبيعة الحال، وكانت الأخبار غير سعيدة وبعثت توجسا في أرجاء العاصمة مؤثرة على بعض الجمهوريين أنفسهم، خاصة مع مواقف بولتون المعروفة والأكثر صرامة من توجهات ترامب كما فصلنا، وكونه يمتلك ما يفتقده ترامب تماما: العمق، والقدرة على اتخاذ القرارات “الجنونية” بشكل أكثر ذكاء ومهارة، والأهم؛ قدرته على دفع ترامب لحرب حقيقية في أي مكان في العالم.

الصقر

“يجب أن تنهي السياسة الأميركية الثورة الإسلامية الإيرانية.. إن الاعتراف بنظام إيراني جديد في عام 2019 من شأنه أن يزيح العار الذي حدث عندما شاهدنا الدبلوماسيين الأميركيين رهائن لمدة 444 يوما. ويمكن للرهائن السابقين قطع الشريط لفتح السفارة الأميركية الجديدة في طهران”

(جون بولتون)

 

 كان تعيين بولتون كمستشار أمن قومي، وبومبيو كوزير خارجية، بمنزلة تسليم فعلي لقيادة القرار السياسي من ترامب إلى الاثنين وبشكل نهائي

على مر تاريخها، لم تعرف الولايات المتحدة الكثير من الصقور(19) الذين يمكنهم قيادة أي رئيس لبدء حرب حقيقية تأكل الأخضر واليابس، وكانت الاستثناءات قليلة دوما وأتى على رأسها “ديك تشيني”، نائب “جورج بوش” الابن والمعروف في أميركا بالرئيس الحقيقي أثناء ولايتي بوش، لذا كان من الطبيعي أن تصاب الأروقة السياسية للعاصمة بالخوف عندما شرع ترامب في إستراتيجية يقضي بها على التوتر الدائم في البيت الأبيض منذ أن وطئه بقدميه، وهي إستراتيجية بسيطة تُعنى بالقضاء على المعارضة الداخلية له عن طريق تكوين مجلس حرب غير رسمي خاص به.

ولأجل ذلك كان تعيين بولتون كمستشار أمن قومي، وبومبيو كوزير خارجية، بمنزلة تسليم فعلي لقيادة القرار السياسي من ترامب إلى الاثنين وبشكل نهائي، وللمفارقة فإن الناجي الوحيد من “مذبحة ترامب الإدارية” والذي يميل لانتهاج الدبلوماسية ولا يدق طبول الحرب دائما؛ كان هو وزير الدفاع “جيمس ماتياس”، مع تساؤل وقتها عن الوقت المتبقي له في منصبه قبل أن يطيح به ترامب ليجلب أحد صقوره إليه، وهو ما حدث بعدها بثمانية أشهر، حيث يُنتظر مغادرة الجنرال “ماتياس” لمنصبه بعد أقل من شهر، نهاية فبراير/شباط القادم.

قبل بولتون، كانت كلمات ترامب أكثر صخبا وظهورا من أفعاله، وعلى عكس الشائع كان الرئيس الصاخب يتراجع في حربه التجارية التي يشنها على العالم، فأعفى الحلفاء من الرسوم الجمركية للمعادن، وبدأ بتسهيل الأمور في مفاوضات إعادة اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية “نافتا”، وضيّق نطاق تعريفاته الضخمة على الصين بعد أخذه بتقييم التأثيرات السلبية الكبيرة والمتوقعة على الأميركيين، ولم يأخذ خطوة تجاه طهران بما يتناسب مع الأجندة الإسرائيلية المرادة، وهي أجندة تُمثّل أول عبارة فيها الانسحاب من الاتفاق النووي، وفي كل ذلك افتقد ترامب للعمق المطلوب شكلا ومضمونا، وكذا القدرة على اختراق بيروقراطية العاصمة.

كانت مواقف بولتون واضحة دوما، فهو درع للإسرائيليين، ولا يرى “الدولة الفلسطينية” مشروعا محتملا بالأساس، ويصادق “مجاهدي خلق” ويرى فيهم حلمه بتغيير النظام الإيراني

مَثّل بولتون إضافة وفرت كل ذلك، الرجل الذي كان على قائمة الترشيحات منذ عام ترامب الأول لكنه رفضه لعدم إعجابه بشاربه الكث، وكان أول تحرك للمستشار الجديد والصديق الإسرائيلي الحميم تجاه عدوه الأساسي في طهران، لذا فقد نجح في إقناع ترامب -أواخر مارس/آذار وأبريل/نيسان- بإبطال الضمانات الأمنية الأميركية المعطاة لإيران في الاتفاق النووي، قبل أن يقود القارب الرئاسي لشاطئ إلغاء الاتفاق، أوائل مايو/أيار للعام الماضي في خطاب ترامب المتلفز الشهير، وهو إلغاء عُد بمنزلة نصر بولتون الأول بمنصبه الجديد، بعد أن قدم طريقة الخروج من الاتفاق النووي للرئيس الذي اشتكى قبلا أن فريقه “لم يقدم له أي طريقة للخروج منه”.

قبل بولتون أيضا، تزايدت التسريبات من البيت الأبيض من أعضاء مجهولين في الإدارة اتفقوا جميعا على أن الدستور الأميركي والمبادئ المؤسسة للولايات المتحدة يواجهان تهديدا مستمرا يتجسد في هيئة “رئيس مارق”، لكن بولتون في سبتمبر/أيلول الماضي غيّر ذلك التوجه، وكان أول خطاب متلفز عام لمستشار الأمن القومي بمنزلة صرخة حربية لمعركة شنها على المحكمة الجنائية الدولية، إثر رغبتها نهاية عام 2017 في فتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة ارتُكبت في أفغانستان عام 2003، متهما إياها وغيرها من الكيانات العالمية بأنها “مؤامرة غير شرعية من دعاة ومؤيدي توسيع نفوذ المؤسسات الدولية ونمط الحكم العالمي متعدد الدول”، مطالبا باستغلال الفرصة و”خنق المحكمة الدولية في مهدها”.

إلا أن عضو إدارة ترامب الوحيد في ذلك الوقت الذي لم يتعرض لأي هجوم إعلامي بعد توليه المنصب، لم يكن بصدد مهاجمة المحكمة الدولية على مقترح قيد التداول من عام سبق، لذا اعتقد أن خطابه غير الدبلوماسي بمنزلة صرف انتباه وتحييد للهجوم العنيف الذي تعرض له الرئيس في تلك الفترة، خاصة بعد أن وضح فيه بولتون أيضا أن إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن العام الماضي لم يكن فقط بسبب نية المحكمة الجنائية المعلنة مؤخرا بملاحقة إسرائيل، وإنما جاء الإغلاق كـ “عقاب عام للفلسطينيين، من يرفضون خوض مفاوضات بناءة مع الإسرائيليين”، حد تعبيره.

الخلاف الجوهري بين ترامب وبولتون يبقى بشأن الملف الروسي، فبينما يحافظ ترامب على سلوكه الودود تجاه الكرملين، يرى بولتون أن موسكو لا تسعى إلا لتقويض الدستور الأميركي

كانت مواقف بولتون واضحة دوما، فهو درع للإسرائيليين، ولا يرى “الدولة الفلسطينية” مشروعا محتملا بالأساس، ويصادق “مجاهدي خلق” ويرى فيهم حلمه بتغيير النظام الإيراني، ويروج لهم في واشنطن على أنهم معارضة نظام الملالي الوحيدة التي ينبغي للرهان الأميركي أن يستقر عليها، متجاهلا تاريخ المنظمة المسؤولة عن مقتل العديد من الأميركيين قبل “الثورة الإسلامية”، ومحافظا على ظهوره الدائم كمتحدث في راليهم السنوي بالعاصمة الفرنسية باريس، وهو رالي يتوارد أنه يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لمتحدثيه. ويختلف بولتون مع ترامب بشأن كوريا الشمالية، حيث يرى المفاوضات معها “أسوأ من هدر للوقت” كما كتب في مقال له على موقع “ذا هيل” قبلا، ويتمثل حل معضلة كوريا النووية بالنسبة له في بدء محادثة بين ترامب والرئيس الصيني “تشي جين بينج” ودفعه لرعاية حل “توحيد الكوريتين” ورفع الحماية الصينية عن النظام الشمالي، بينما تساعد واشنطن كوريا الجنوبية على غزو الشمال وإنهاء المشكلة من جذورها.

لكن الخلاف الجوهري بين ترامب وبولتون يبقى بشأن الملف الروسي، فبينما يحافظ ترامب على سلوكه الودود تجاه الكرملين، يرى بولتون أن موسكو لا تسعى إلا لتقويض الدستور الأميركي، وأن هذه “أفعال حرب حقيقية” كما كتب، ما يوجب ردا حربيا من أميركا، ويؤمن بولتون أن بوتين قد قام بخداع ترامب أثناء لقائهما على هامش قمة العشرين الاقتصادية صيف عام 2017، لذا وعلى الأرجح فإن هذا الخلاف كان من أسباب تعيين بولتون في منصبه أيضا، حيث أراد ترامب على ما يبدو من ذلك التعيين أن يحيد الاتهامات التي لا تتوقف عن علاقته المختلفة بروسيا وبوتين، عن طريق وضع أحد كارهي الروس في أعلى منصب أمني بإدارته، إلا أن ذلك الخلاف يتضاءل بشدة في ظل بصمة الصقر الجديدة الحالية، وربما الأخطر، على النظام الفنزويلي.

عراب الانقلابات
زعيم المعارضة الفنزويلي “خوان غوايدو” (الجزيرة)

عندما أعلن زعيم المعارضة الفنزويلي “خوان غوايدو”، منذ أيام قليلة، تنصيب نفسه رئيسا بالوكالة مستغلا بندا دستوريا يسمح لقائد المعارضة بتولي الرئاسة في البلاد، كان ترامب هو أول من اعترف به كرئيس مطالبا العالم باعتراف مماثل، نافيا شرعية نظام الرئيس “مادورو”، وقائلا إن بلاده ستستخدم كامل قوتها الدبلوماسية والاقتصادية للضغط من أجل “استعادة الديمقراطية في فنزويلا”، ثم تبعه “بومبيو” يوم السبت الماضي بقوله إنه “لا تأخير أو ألعاب مرة أخرى، حان الوقت لكل دولة للاختيار بين الوقوف مع قوات الحرية أو الوقوف مع نظام مادورو وفوضاه”(20)، لكن بولتون لم يتبع خطا دبلوماسيا كعادته، وكان أكثر وضوحا عندما شرح باختصار أن الأمر متعلق بالنفط(21) وما يمكن أن يجلبه للولايات المتحدة.

Embedded video

في حديثه لقناة الأعمال بشبكة فوكس  يوم الاثنين الموافق 28 من يناير 2019، قال بولتون إن الإدارة تخوض محادثات مع شركات النفط الأميركية الكبرى الآن العاملة في فنزويلا، أو الفنزويلية المالكة لحصص في السوق الأميركية كشركة “CITGO”، وهي شركة ضخ وقود أميركية تمتلك الحكومة الفنزويلية معظمها، وأنه سيكون من المفيد إن استطاعت الشركات الأميركية الاستثمار في فنزويلا واكتشاف واستخراج النفط هناك، وأضاف أن إدارة ترامب تعمل على الوصول بالحالة الفنزويلية الآنية لأفضل ناتج ممكن للولايات المتحدة واقتصادها.

يُمثّل التصريح إشارة بالغة الوضوح على تورط واشنطن الفعلي في دعم الانقلاب الناعم، على أفضل الظروف، أو تدبيره كاملا على أسوأها، ويُرجح الاحتمال الثاني خاصة بعدما نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالا(22) الجمعة الماضية توضح فيه أن تحرك “غوايدو” لتولي السلطة تم بترتيب على مدار الشهر الحالي مع أساطين إدارة ترامب: نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية بومبيو، وبالطبع جون بولتون، أكثر من يفضل تغيير الأنظمة المناهضة للمصالح الأميركية، ومن يطلق على فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا منذ زمن طويل مصطلحه الشهير “مثلث الطغيان اللاتيني” (Troika of tyranny).

في الملف الفنزويلي فإن توجهات ترامب وبولتون تتطابق بالكلية، فلطالما رأى ترامب أنه على الدول الغنية بالنفط أن تدفع ثمن الحماية الأميركية من نفطها، وهو ما صرح به علنا أثناء الثورة الليبية عام 2011، عندما قال إنه ينبغي لإدارة أوباما الذهاب لإنقاذ حيوات الليبيين واستئصال نظام القذافي بعملية عسكرية دقيقة، وبهذا ترتفع شعبية الأميركيين بين الثوار الذين سيسيطرون على البلاد، ومن ثم تطالب واشنطن بثمن هذه العملية أو 50% من النفط الليبي، وأضاف أن الثوار سيحبونهم لدرجة أنهم سيعرضون 75% من نفط البلاد للولايات المتحدة وليس نصفه فقط.

يتبنى بولتون وجهة نظر مماثلة كما أوضح في تصريحاته السابقة لفوكس، وهو يرى أيضا أن على ترامب إرسال قوات عسكرية لفنزويلا للإطاحة بمادورو وتأمين غوايدو، ورغم أن ترامب ليس متحمسا في الوقت الحالي للخيار العسكري تبعا لنقاط شعبيته المنخفضة بعد أطول إغلاق حكومي في تاريخ أميركا، فإن إرسال القوات الأميركية للحدود الفنزويلية ومن ثم للداخل ما زال خيارا على طاولته بالفعل، وقد ظهر بولتون مؤكدا ذلك على منصة غرفة المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض(23)، يوم الاثنين الموافق 28 من يناير 2019، وبيده مفكرته الشخصية مكتوب عليها “أفغانستان: نرحب بالمحادثات” و”5000 جندي في كولومبيا”، جملتان التقطتهما عدسة مصور وكالة أسوشيتد برس “إيفان فوتشي”، ويعتقد أن بولتون قد كتبها عمدا لتوجيه رسالة إلى نظام “مادورو”.

شارك بولتون في التحضير للانقلاب الناعم الحالي، ولأن ترامب كان مهتما دوما بفنزويلا منذ يومه الأول كرئيس، ووضعها على رأس جدول أعماله -مع إيران وكوريا الشمالية- طالبا إحاطة عن الدولة اللاتينية في اليوم الثاني لرئاسته، في ظل ذلك فإن الساحة كانت مهيأة بشدة لصقور البيت الأبيض لدفع خطتهم لتغيير نظام “مادورو” بعد انتخابات الرئاسة الفنزويلية منتصف العام الماضي، مايو/أيار، وقد اجتمع بعض مسؤولي الإدارة رفيعي المستوى في التوقيت نفسه مع قيادات في الجيش الفنزويلي في محاولة لتغيير تأييدهم لمادورو، ولكن هذه الخطة لم تنجح كثيرا على الأرجح.

لذا تم الدفع بخطة التغيير الناعم لطاولة ترامب، ثم بدأ التواصل مع المعارضة الفنزويلية عن طريق بولتون وبومبيو وبعض أعضاء الكونغرس أواخر ديسمبر/كانون الثاني المنصرم وأوائل الشهر الحالي، وتم تتويج هذه المجهودات بمكالمة هاتفية، بالليلة السابقة لإعلان غوايدو، من نائب الرئيس “بنس” للأخير أعلمه فيها بتأييد ترامب المطلق واعترافه به رئيسا إن قام بانتزاع الرئاسة بالإجراء الدستوري، وهي الليلة نفسها التي شهدت اجتماعا لبعض أعضاء إدارة ترامب، ومنهم بولتون، لتنسيق ما سيحدث في الحديقة الأميركية الخلفية بعد تنصيب مادورو رسميا كرئيس منذ قرابة ثلاثة أسابيع.

في هذه الأثناء، وبعد تعيين “إليوت إبرامز”، صديق بولتون الحميم والمعروف بـ “مساعد الوزير للحروب القذرة”، كمبعوث وزير الخارجية الأميركي لفنزويلا، ومع تاريخه الحافل في هندسة حربي نيكاراغوا والسلفادور وفضيحة إيران كونترا وغيرها، وتوجهات بولتون وصقورية بومبيو، مع كل ذلك فإن ذلك الثلاثي بات يُعرف في العاصمة الآن بـ “محور الشر” الخاص بترامب، وهو محور لن تتوقف بصماته غير السياسية عند فنزويلا على الأرجح.

بومبيو أقنع ترامب في عام واحد بتعيينه وزيرا للخارجية، ونجح في ذلك لأنه اكتشف مفتاح التعامل مع الرئيس وهو العلاقة الشخصية

برغم ذلك، فمن المرجح أن يطيح ترامب مستقبلا وقبيل انتخابات 2020 ببولتون من إدارته، ورغم أن ذلك يبدو للوهلة الأولى ترجيحا غير منطقي كون الانسجام الحالي لا يعطي إشارة على ذلك، فإن الإطاحة المحتملة ستأتي لأسباب عدة، منها تخلص ترامب من وجه سيجلب عليه متاعب إعلامية وشعبية لن تنتهي [بدأ بولتون في التسبب بذلك بالفعل]، ومنها صدام محتمل على الخلفية الروسية تحديدا، لكن السبب الأهم يكمن في شخص ربما يصعب هضم توقع تورطه في الإطاحة ببولتون، وهو بومبيو(24) نفسه.

بعكس بولتون، والذي لم يكن خيارا أولا أو حتى ثانيا لترامب في منصبه، فإن بومبيو لطالما مَثّل للرئيس الأميركي الفتى الذهبي القادر على حل المشكلات، وقد أكد بومبيو هذه القناعة لدى ترامب عندما وضعه الأخير على رأس الاستخبارات المركزية الأميركية في فترة وُصفت بأنها الأسوأ بين الرئيس والـ “CIA”. ففي تلك الفترة كان ترامب مقتنعا بشدة بأن الـ “CIA” تسعى لإسقاطه من خلال تسريباتها المتواصلة، لكن بومبيو نجح بعد تعيينه في تثبيت سفينة الاستخبارات وتهدئة الأوضاع بينها وبين البيت الأبيض، إلى حد وصفه من قبل بعض المعارضين لترامب وبعض العاملين بالسي آي إيه بأنه ذكي للغاية وعفوي.

فضلا عن ذلك، فإن بومبيو أقنع ترامب في عام واحد بتعيينه وزيرا للخارجية، ونجح في ذلك لأنه اكتشف مفتاح التعامل مع الرئيس -عكس معظم مسؤولي الإدارة السابقين- وهو العلاقة الشخصية، وبينما كان معظم أفراد الإدارة يتعاملون مع ترامب كرئيس تقليدي، كان بومبيو يستثمر في علاقته الشخصية معه أكثر من استثماره في عمله بشكل طبيعي.

وبينما يرى بومبيو في نفسه كما يرجح رئيسا مستقبليا، ويستغل عمله الجديد الذي سعى إليه كوزير للخارجية لبناء ذلك الميراث، فإنه سيصطدم لا محالة بالصقر شديد الحدة “بولتون”، والذي يسعى لإثبات راسخ، وللمرة الأخيرة على الأرجح في حياته المهنية، أنه يمكن لإدارة أميركية تبني اتجاهاته للتعامل مع الدول “المارقة” والعالم ومؤسساته، وأنها ليست اتجاهات متطرفة كما يُطلق عليها في نهاية المطاف، وسيكون ذلك الاصطدام بمنزلة مؤشر شديد الوضوح على مدى نجاعة بولتون من عدمها في إدارة الصراع المتوقع القادم، وهو صراع لا يمتلك فيه نسبة النجاة الوظيفية الأكبر على الأرجح.

الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *