بعد التقارب المُعلن بين تل أبيب وبعض عواصم العرب، وتفاهمات مع الداخل الفلسطيني ممثلاً في السلطة الفلسطينية، لم يعد لأنظمة وشخصيات وفاعلين عرب ذلك الحرج الكبير في التعامل العلني مع الكيان الصهيوني واستقبال قادته واستثمار نفوذهم الكبير على عواصم العالم الغربي، ولكن ما هي عمليا علاقة الاسرائليين بما يحدث في الجنوب الليبي من تطورات، ولماذا تنامت الصراعات الدولية في ليبيا وتحديدا بعد وصول بعض من قوات حفتر لمدينة سبها في الجنوب الليبي ؟

  • أحداث الجنوب وتنامي التعاون التشادي الاسرائيلي

انطلق حفتر هذه المرة وعلى عكس المرات الثلاث السابقة، بعيداً صوب الجنوب تاركاً رجاله وبعض مُمثليه يشاركون في حملة ضد السراج (فريق الذباب الالكتروني لحفتر يستعمل مئات الحسابات والصفحات)، ومتجاهلا جهود الأمم المتحدة، التي تطمح خلال الأسابيع القادمة إلى جمع الأطراف الليبية في الملتقى الوطني الجامع لتقرير مصير الانتخابات والدستور، والأغرب أنه لم يُعر اهتماما يذكر حتى لنتائج زيارة المبعوث الأممي في الفترة الماضية إلى سبها (جنوب شرق)، واستمر مرور أرتال عساكره صوب الحدود الليبية-التشادية لملاحقة مُقاتلي المعارضة التشادية الذين أصبحوا يتحصنون داخل مناطق ليبية في استضافة حلفائهم من قبيلة “التبو”، وصولاً إلى مناطق في العمق التشادي، بالتوازي مع قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بزيارة لــ”نجامينا” لاستكمال مشاورات ثنائية حول ملفات مشتركة من بينها طلب تدخل تل أبيب للمساعدة في تأمين الحدود مع ليبيا،  وذلك بعد شهرين من زيارة تاريخية قام بها الأخير إلى إسرائيل في نوفمبر  الماضي، لاستكمال مناقشة ملفات التعاون بين البلدين، مبيناً أن من بين تلك القضايا قضية الحدود مع ليبيا…

والأكيد أن حفتر هذه المرة لا يتحرك بمفرده، فالغارة التي شنتها طائراته على تمركز للمعارضة التشادية في منطقة “كوري بوكدي” والتي تبعد عن الحدود الليبية داخل الأراضي التشادية بـ100 كيلومتر تقريباً تشير إلى تنسيق مع النظام التشادي، وهو ما أكدته تصريحات المتحدث باسم قوات المعارضة التشادية، “محمد الطاهر ارديمي”، والتي أشارت إلى أن طيران حفتر شن غارة على موقع تابع للمعارضة التشادية لتقديم الدعم لحلفائه من قوات “العدل والمساواة” السودانية، لافتاً إلى وقوع اشتباكات، بين تلك القوات، وذلك يومي الأحد والاثنين الماضيين….

ولعل اللافت أيضاً هو توجه “الكتيبة 166” وكتيبة “خالد بن الوليد”، أبرز كتائب حفتر بكامل عتادهما إلى الجنوب الليبي، ضمن “عملية عسكرية جديدة”، وذلك بعد توجه طلائع عدّة وإمدادات عسكرية قبل أيام إلى الجنوب، دون تحديد أماكن تمركز تلك القوات وقواعدها، وتم ذلك بعد اجتماع موسع عقده حفتر في القاعدة العسكرية بالمرج، شرق البلاد، مع عدد من قادة قواته، لبحث خطط عسكرية للسيطرة على الجنوب الليبي….

وتُشير المعطيات إلى خلطة جديدة من التحالفات الجديدة تضم رئيس التشاد “إدريس ديبي إتنو” ورئيس حركة تحرير السودان، “مني اركو مناوي”، الذي ينحدر من أصول قبلية ينتمي لها ديبي نفسه، ربما كانت سبباً في ربط التحالف بينهما، وحفتر من جانب آخر، إلى جانب علاقة في الظل مع إسرائيل…

وكانت صحف إسرائيلية ودولية، من بينها موقع “ديبكا” الاستخباراتي، قد أكدت أن رئيس تشاد ناقش خلال زيارته لإسرائيل نهاية نوفمبر الماضي ملف الحدود مع ليبيا وقضية الحركات المعارضة لنظامه التي تنتشر في مناطق الحدود حتى عمق الأراضي الليبية، بل أكد الموقع أن “ديبي” طلب مشاركة إسرائيل في مقاومة تلك الحركات التي وصفها بـ”الإرهابية”، أما القناة العاشرة العبرية فقد أكدت أن “ديبي” قدم طلبات عاجلة لــ”نتنياهو” من بينها دعم أمني وعسكري عاجل لنظامه….

والثابت  أن توجه حفتر صوب الجنوب قد جاء بعد زيارات قام بها إلى تشاد للقاء إدريس ديبي إتنو، لتنسيق الجهود بهدف تضييق الخناق على القوات التي تعارض النظام التشادي ومحاولة إنهائها، في مقابل مصالح مشتركة تُمكن وتُتيح لحفتر السيطرة على الجنوب بمساعدة تشادية، وأيضا  من قوى دولية بشكل غير مباشر ومستتر، وهو ما يعني  أن أهداف حفتر متعددة ومتشابكة هو وحلفائه الجدد في الجنوب، وهو لم يعد يُعول فقط على حلفائه السابقين من قبائل “التبو”، الذين اعتمد عليهم كُلياً في الفترات السابقة، بل وجه كتائبه الأبرز للعملية الجديدة، كون مقاتلي المعارضة التشادية ينتمي بعضهم لهذه القبيلة، كما قد يعكس عدم ثقة قبائل الجنوب الأخرى فيه وعدم رغبتها في دعمه بمقاتلين من أبنائها…

ومن الواضح أن أهداف العملية الجديدة قد تتجاوز الجنوب الليبي المرتبط أساساً بدول جوار مثل الجزائر وتشاد والسودان…

وعمليا لم تعد علاقة حفتر بالإسرائيليين أو ربما توظيفه لهم، خافية على أحد، وهنا لابد من التذكير أنه صرح برغبته في التعامل مع إسرائيل في تصريحات في نهاية سنة 2014  وهنا لابد من التأكيد أن مستشاره السياسي السابق محمد البوصير قد أشار إلى وجود علاقات ممتدة لحفتر برجل المخابرات الإسرائيلي “آري بن مناشي”  كما أكد “البوصير” أن الضابط الإسرائيلي وفر لحفتر الاتصالات المباشرة مع الإسرائيليين وأنه قد أبرم معه عقداً بقيمة 6 ملايين دولار للترويج له في أوساط غرف صناعة القرار الأميركي….

  • الجنوب بين حفتر وحلفائه الإقليميين والدوليين

عملية حفتر العسكرية المسنودة بقوة هذه المرة هي الرابعة خلال أقل من عامين،  وان كانت حُجة حفتر أنه يحارب المرتزقة والعصابات الإجرامية والإرهابيين وهنا لابد من التأكيد على المسوغ في تصريحات حفتر حيث أكد أن خصومه متعاونين مع دول أجنبية لتغيير الطبيعة السكانية في مناطق الجنوب ومدنه المختلفة؛ التي تمتد على مساحات شاسعة وأراض صحراوية قاحلة…

وبالبحث عن المرتكز الاقتصادي في المعارك الأخيرة فهدف حفتر هذه المرة أيضا على حقول النفط ومنابعه في مناطق ومدن جنوب البلاد وملاحقةُ مسلحي المعارضة التشادية الذين استعان بهم هو نفسه في حروبه السابقة في مدينتي “بنغازي” و”درنة” ومنطقة الهلال النفطي في شمال ليبيا، ومما لا شك فيه أن للإماراتيين دور بارز في خطة حفتر للسيطرة على الجنوب الليبي، عبر الدعم بالأموال والعتاد والسيارات المسلحة، واستمالة القبائل القاطنة لتلك المنطقة بالأموال، فمنذ أسابيع (نهاية أكتوبر ثم بداية ديسمبر) عدة زار الإمارات وفد قبلي من الجنوب، وتشاور مع أطراف إماراتية حول إمكانية تقديم الدعم القبلي لتحركات المليشيات الموالية لحفتر في تلك المنطقة، ومعلوم أنه منذ أسابيع وصلت إلى قاعدة تمنهنت في ضواحي مدينة سبها آليات ومعدات حربية من معسكرات تابعة لحفتر في شرق البلاد، ولم يصل معها مسلحون من الشرق… والسبب أن حفتر يريد هذه المرة الاعتماد على مسلحين مليشياويين موالين له، ينتمون إلى قبائل من الجنوب، تمثل أطيافه السكانية ومناطقه المختلفة…

ومع ذلك فان الآراء منقسمة بين هذه القبائل حول جدوى هذه العملية وإمكانِ نجاحها، فعملية إطباق السيطرة الكاملة على الجنوب الليبي (الذي يمكن وصف تركيبته السكانية بأنها معقدة بعض الشيء، ومتخمة بالتناقضات العرقية والصراعات القبلية التاريخية) أمر صعب؛ يُجبر من يريد السيطرة عليه على ضرورة الدخول في تفاهمات مع مختلف القوى المحلية والقبلية التي لبعضها ارتباطات إقليمية بدول الجوار الأفريقي لليبيا. وهذه المكونات السكانية لم تسلم هي نفسها من الانقسام السياسي الذي تعيشه ليبيا منذ منتصف 2014 …

سطوة قبائل “التبو” التي لديها امتدادات قوية في تشاد؛ لن تجعل مهمة حفتر ميسورة وهي نظريا مستحيلة لان الصحراء ممتدة وستتيه القوات والأهداف وعلى فرضية حدوث تلك السيطرة لن تكون إلا مؤقتة، وسيوظّفها في الترويج لنفسه بصفته رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية قادمة، وسيؤيده في ذلك داعموه الإقليميون، وعلى رأسهم الإمارات وخاصة مع قرب عقد الملتقى الوطني الجامع…

ومن حيث النتائج فان دق طبول الحرب في الجنوب سيعمق جراحَه ويزيد من إنهاك ساكنيه، فتراجع الأوضاع المعيشية للمدنيين، وتجدّدُ الانتهاكات وارتفاع وتيرتها في تلك المنطقة، والنقص الحاد للبنزين والمحروقات.. حمل ذلك عائلاتٍ بأكملها على النزوح نحو مدن الشمال، بحثا عن أمن واستقرار لن يقع وخاصة بعد رفض العسكري المعروف “علي كنة” التحالف معه…

رغبة حفتر، ومن ورائه الإمارات ومصر، في إشعال مزيد من الحروب في ليبيا تتصادم بقوة مع جهود المجتمع الدولي خاصة بعد زيارة سلامة لمدينة سبها الأيام الماضية حيث أجرى مشاورات مع قادة سياسيين وقبليين جنوبيين، وقال بعد الزيارة  أن هناك صعابا كبيرة وظروفا حَرِجة يعانيها أهالي الجنوب الليبي بل أنه  دعا حكومة الوفاق والمجتمع الدولي إلى التحرك بسرعة وحزم لدعم الجنوب، واحتواء الأوضاع المتأزمة في مدنه ومناطقه المختلفة…

  • تنامي الصراعات وعلاقتها بما جرى ويجري في الجنوب

يُمكن القول أن الصراع في ليبيا مستمر بين الأطراف المحلية وبين الأذرع الإقليمية الخادمة والمشتغلة لقوى دولية التي ترغب في الحصول على الثروات الليبية الهائلة والنادرة، وبناء على ذلك ستتضارب و ستتقاطع المصالح مجددا بل وستعدد الساحات بين تصاعد وخفوت الجبهات خلال الأسابيع والأشهر القادمة ورغم أن المعركة الحقيقة أصبحت سياسية فان منطق خفوت ساحة واشتعال أخرى سيتواصل  وهو ما يفسر تجدد الخلافات الايطالية الفرنسية وحدة الخطاب بين البلدين وهو ما يكشف جوانب مخفية من صراع المصالح، كما ستتباين وستتبين التقاطعات المتعلقة بالتحركات العسكرية الحاصلة في الجنوب وخاصة إثر إعلان مجموعات مسلحة ولائها لحفتر بناء على إخلال الحكومة المركزية بواجباتها في مدن الجنوب حيث انعدم الأمن وغابت الخدمات ومقابل ذلك اعتمد حفتر وحلفائه الإقليميين سياسة شراء الذمم و في هذا الإطار تتنزل محاولات حفتر السيطرة على القاعدة العسكرية اللويغ (ثاني قاعدة من حيث الحجم في ليبيا و الواقعة جنوب مدينة القطرون) والمدينة الأخيرة هي آخر مدن الجنوب الغربي الليبي على الحدود مع النيجر والتشاد و التي تفصل بينها و بين القاعدة الفرنسية Madama الواقعة أقصى شمال النيجر قرابة 100 كلم،  وقاعدة اللويغ هي الآن تحت سيطرة قوة درع الصحراء و آمر هذه القوة هو إبراهيم الشحات أصيل مدينة القطرون (قوة قريبة من فبراير و موالية لحكومة الوفاق)

ومن خلال المعطيات والقراءات سالفة الذكر أعلاه، يمكن التأكيد أن الغرض من وراء محاولة السيطرة على القاعدة من طرف حفتر هو   البحث عن التمدد في فضاءات شاسعة للإيهام بالسيطرة على مساحات كبيرة من الجغرافيا الليبية غير آهلة بالسكان إثر تعثراته في الشرق الليبي وانقلاب بعض حلفائه هناك عليه، إضافة إلى عجزه عن التقدم العسكري للغرب و خصوصا في اتجاه العاصمة طرابلس التي هدد مرارا باقتحامها في سياق حربه الإعلامية و الكلامية ..

أما في الجنوب فان الهدف الأولي هو التحكم المباشر في أحد أهم مسارات الهجرة السرية العابرة من شمال إفريقيا نحو جنوب أوروبا و إيطاليا بالخصوص، وهنا يمكن التساؤل: هل سيتمثل دور حفتر المستقبلي في تجميع المهاجرين والقادمين من أثيوبية و إرتريا و جنوب السودان والتشاد و النيجر في قاعدة “اللويغ” ثم نقلهم إلى ميناء “رأس لانوف” النفطي للهجرة عبر البحر، وأثناء عبورهم للمتوسط عبر عمليات (الأكيد سيطلق عليها صفة “الإنسانية”)؟

ومن سيثب  أنه لن تكون هناك عمليات توظيف مستقبلية أو إعداد لوجستي لمقاتلين في اتجاه دول بذاتها وأنهم  لن يتم فرزهم في عرض البحر ثم تدريب بعضهم ثم إرجاع جزء منهم إلى التشاد أو غيره من البلدان لتوظيفهم في صراعات المنطقة…

بل أن السؤال الأهم: من قال أننا لسنا أمام حادثة شبيهة بحادثة الفلاشا الأثيوبيين والتي جدت أطوراها في ثمانينات  القرن الماضي والتي يذكرها كل من عايش تلك الفترة؟  ربما؟

المصدر: أسبوعية الرأي العام التونسية بتاريخ 31 جانفي 2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *