في الذكرى الثامنة لثورة الحرية والكرامة: مسيرة النهضة أو المنتدب الديمقراطي

العجمي الوريمي

ونحن في منتصف الأيام الحاسمة (17_12/14_1) لثورة الكرامة والحرية باكورة ثورات الربيع العربي أو ما أسماه الباحث البرتغالي (ألفارو دي فاسكنشليوس) الموجة الديمقراطية الثالثة ذات الصلة الوثيقة بمنعطف أوباما يطرح السؤال من جديد: هل كانت الثورة التونسية مؤامرة مدبرة من قوى خارجية قامت بتحضيرها في مختبرات مخابراتها وطبختها وفق وصفة دقيقة في مطابخ الغرب الإمبريالي؟ أم هي انجاز شعبي تونسي خالص وليد بيئته؟

وماهو دور الإسلاميين في أحداث الثورة؟ هل كان دورا ثانويا في حراك شعبي وشبابي بدون قيادة حزبية؟ هل كانوا أصحاب الدور الحاسم في إنضاج الانتفاضة والدفع بها إلى منتهاها؟ هل كانوا هم العنصر الأهم من وراء قرار بن علي والدائرة المقربة منه في القرار الذي اتخذ بترك الأزمة وراءهم والبحث عن مأمن وقتي في انتظار استعادة المبادرة ومسك السلطة بعد احتواء موجة الغضب والثورة المندلعة في مختلف جهات البلاد والتي انضمت إليها كل القطاعات؟

عدد أيام الثورة بعدد أعوام حكم بن علي …كان النظام يخسر كل يوم أكثر مما كسبه كل عام. تسارع التاريخ وبدت الأحداث مسرحية ملحمية تجري على ركح كبير في مسرح يتسع لجغرافية الوطن وكان الشعب بطل المسرحية الأوحد يتقدم نحو التتويج بمقدار ما كان ينزف ويحقق بمقدار ما كان جسد البوعزيزي يحترق.

في لحظة ما لم يعد ممكنا العودة للوراء لأن انكسار موجة الاحتجاج وانحسارها له نتيجة واحدة وحتمية هي انتقام النظام عبر التنكيل والمحاكمات أي أن البلاد ستدخل نفقا مظلما لا ضوء في نهايته إن كانت له نهاية.

هزيمة النشطاء والجماهير معناها أن النظام سيحكم قبضته على السلطة ويكتم الأنفاس.

كانت الشعارات تحث على المضي والمواصلة والتصعيد لأن كلفة التراجع والهزيمة ستكون كارثية ( لا خوف لا رعب السلطة ملك الشعب)…(يسقط جلاد الشعب يسقط حزب الدستور)

كانت الجماهير تراكم المكتسبات والسلطة تراكم الأخطاء. أخطاء اتصالية وأخطاء في إدارة الأزمة وأخطاء في تقديم الحلول وأخطاء في رص الجبهة الداخلية.

كل ما أراد النظام تفاديه وقع فيه: اتساع رقعة التحركات، إيقاف الدروس في التعليم الثانوي والابتدائي، انخراط قطاعات جديدة لإسناد القطاعات التي سبقت والتخفيف عنها، إطلاق الرصاص على المحتجين، سقوط شهداء وارتفاع عدد الجرحى..

أصبح النظام في ورطة حقيقية بين مواصلة القمع وتقديم تنازلات جوهرية.

اتسم أداء النظام بالارتباك وفشل في الإقناع داخليا وخارجيا وبدأ يخسر حلفائه وداعميه كما عجزت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل عن كبح جماح هياكلها عن الالتحام بالشعب وتأطير التحركات لا بإتجاه الضبط والاحتواء إنما باتجاه التجذر والاتساع.

بدأ التغيير المنشود في شكل براكين باطنية التحمت فيها الطبقات الجيولوجية (تلامذة وطلبة وعمال صف واحد في النضال)..( التشغيل استحقاق يا عصابة السراق)

لم يعد هناك من هو مستعد للدفاع عن المنظومة الفاسدة ومنظومة الاستبداد وتقلصت القاعدة الاجتماعية للسلطة بعد أن تعمقت الفجوة بين الشعب وبين الحكم وبعد أن أفلست اللغة الخشبية وعمت النقمة حتى تبرأت الأجهزة من رأس النظام وعائلته وأصهاره، وأصبح النظام في عزلة لا مخرج منها.

أين الإسلاميين؟وأي دور منجز أو منتظر؟

في اجتماع مع إطارات وزارته سنة 2010 قال أحد الوزراء لقد وقع في البلاد حدثان كان الرئيس (بن علي) يحرص على عدم حصولهما:

الأول عملية سليمان التي اسقطت أسطورة البلد الٱمن وادعاء القضاء على الإرهاب إذ كان يقول إن مشكلة الإرهاب هي مشكلة العواصم الغربية باريس ولندن وواشنطن.

الحادثة الثانية هي انتفاضة الحوض المنجمي التي استدامت وفشلت معها كل الحلول وأسقطت مقولة “التشغيل أولويتي” التي صدر بها بن علي لائحة نقاط برنامجه الانتخابي في محطتين انتخابيتين رئاسيتين.

فشل الحلّ الأمني، وفشل المنوال التنموي، وتبادل الناس بغالبية ساحقة النسخة الاكترونية لكتاب (حاكمة قرطاج) فرفع الستار عن مسرح قرطاج وبدت العائلة الحاكمة مكشوفة كما لم يحصل من قبل.

وفي مصر بدأت حركة (كفاية) تتجذر وأصوات الرفض للتوريث تتعالى في جرأة غير مسبوقة

“فاش نستناو؟” ماذا ننتظر؟ هكذا كان حال لسان جمهور واسع من التونسيين المتعلمين ومن الشباب وهم يكتشفون حقيقة العائلة الحاكمة

كان أقوى الأصوات رفضا ومعارضة للنظام هو صوت النهضة المحظورة وصوت زعيمها راشد الغنوشي، وظهر ذلك خاصة في تصريحات ومداخلات قياداتها في وسائل الإعلام العربية والدولية، وأيضا في مشاركة ميدانية واسعة لمناضليها وأنصارها في أكثر من جهة حتى وقع إيقاف عدد منهم، ولكن لم يكن هناك إمكانية لتبين حجم شعبية الحركة وحجم تعاطف التونسيين مع مشروعها وخطابها.

هناك استحالة لسبر أعماق التونسيين في ظل القمع الممنهج وشيطنة تيارات الإسلام السياسي وأبرزها حركة النهضة؟

كانت إستراتيجية النظام بعد أن أنجز خطة تجفيف الينابيع التي غطت سنوات التسعينات وثلثي العشرية الأولى من الألفية الثالثة هي رفض التمييز بين معتدلين ومتشددين في الحركة الإسلامية، ورفض فتح أي ثغرة في جدار رفض القبول بحركة النهضة أو تخفيف ملاحقة مناضليها وفرض الحصار عليهم.

كما عمد إلى تفريق قوى المعارضة بالترغيب والترهيب ومنع أي تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين لإحكام عزل النهضة، ولكنه فشل في ذلك أيضا (تجربة 18 أكتوبر مثالا – وعدد من الأنشطة والبيانات في الخارج…)

حاول النظام إرساء شرعيته على التصدي للخطر الإسلامي، وتقديم الطرف الإسلامي على أنه يدعو للعنف ويمارسه ولا يعترف بحقوق المرأة ويعاديها، ويستغل الدين لأغراض سياسية ويريد إقامة دولة تيوقراطية.

18 وأكتوبر اكتشاف أهمية الاختلاف وتأسيس الحق في النقاش

لقد كانت حركة 18 أكتوبر التي حققت فرزا بين المعارضة الحقيقية للاستبداد والمعارضة الصورية الخادمة للسيستام.

بدأت المنظومة الحاكمة منذ عقود تشهد ذروة تأزمها وقد جرت في تلابيب ظلها شريحة من النخبة الثقافة والسياسية التي يغدق عليها النظام فوائد دينه تجاه الشعب الذي اغتصبت حريته وحقوقه وصودرت أحلامه فكان يجازي من فتات فوائد الحقوق المنهوبة رموزا اختارت الانتهازية على النضال ورتق ثوب الحكم البالي عوض فضح عوراته فزادت في كشف عيوبه وعاهاته وربطت مصيرها بمصيره اعتقادا منها أنه يحظى بالغطاء الدولي وأنه يحكم قبضته على قصبة تنفس الشعب وعلى قوت المستضعفين واعتقادا منها أن الطبقة الوسطى لم يعد لها هامش للمبادرة إذ فقدت إمكانية الوقوف في صفّ المعارضة أو ممارستها إذ أنها تدريجيا أصبحت في حالة ارتهان للبنوك لحاجتها الحياتية للاقتراض أمام الناس التدريجي لمقدرتها الشرائية حتى باتت عاجزة عن الادخار أو الاستثمار أو الاستقلال بتمويل حاجياتها الأساسية.

حركة 18 أكتوبر كانت تعبيرا عن الحاجة إلى تقديم بديل ديمقراطي، بديلا يكون وسطا بين مشروعين ظلا إلى حد تلك اللحظة مشروعين متناقضين، شرط إمكان تبلور أحدهما هو تعارضه مع محتوى المشروع الٱخر وشرط إمكان تحقق أحدهما هو انتفاء وجود الٱخر.

هكذا كان حال مشروع الأسلمة في مواجهة مشروع العلمنة، وكلاهما يفتقر إلى الوضوح وإلى الإجماع والإقناع إذ تحتوي كل أطروحة منهما مناطق رمادية نتيجة الغموض وعدم النضج المفاهيمي، بل كانت توفر فرصة للنظام لاتهام معارضيه بغياب البرنامج والافتقار إلى الحلول في حين تقدم المعارضة المستأنسة والمدجنة نفسها على أنها قوة اقتراح.

كانت حركة 18 أكتوبر فرصة للأطراف المكونة لها من إسلاميين وعلمانيين ومستقلين لا فقط للتقارب وإيجاد أرضية سياسية مشتركة، وإنما لقيام كل طرف بمراجعات فكرية وسياسية إذ أن ذلك من مقتضيات الديناميكية الجديدة التي أنتجها إطلاق المبادرة السياسية غير المسبوقة في مضمونها ومداها، والتي كان يتوقع منها أن تحمل النظام على تقديم تنازلات تجاه معارضيه وتجاه المجتمع المدني. وقد كتب الباحث صلاح الدين الجورشي في إحدى مقالاته قبل الثورة بقليل أن بإمكان السلطة القيام ببعض الخطوات للتخفيف من وطأة التضييقات وإعطاء إشارات إيجابية على الإرادة السياسية في الانفتاح واحترام الحريات دون أن يكلفها ذلك شيئا أي دون أن تخشى انقلاب الموازين أو انفلات الأوضاع.

ورغم ما كانت تفتحه نضالات المعارضة من ٱمال في كسر الطوق المضروب على الحريات وما كانت تصنعه من أفق انتظار عند الشباب والقوى الحية وعموم المواطنين فإن نظام بن علي ظلّ متشبثا بنهج التضييق لا يراوح مكانه نحو التبشير بمناخات جديدة تضمن فيها وتحترم أبسط الحقوق والحريات مثل الحق في التظاهر والتنظم وحرية التعبير.

مع تباشير الخلاص وبداية بزوغ ثمار الزخم الثوري الجماهيري برز العنوان الإسلامي قوة تغيير وتجديد منتدبة لإنجاز الخيار الديمقراطي:

“عرض إسلامي لدولة زمنية” دولة مدنية ديمقراطية

دولة مابعد العلمنة وما بعد الأسلمة

العلمنة المحتضرة والاسلمة المنقرضة

الواقع بأوحاله وإخفاقاته السياسية والتنموية والايطوبيا بسرابها واستحالة إسقاطها على الاوضاع الجديدة

التقطت النهضة اللحظة التاريخية وكانت الأقدر على فك شفرتها وسط ذهول العالم وحيرة النخبة الوطنية التي لم تعد تمتلك لغة المرحلة.

لم تعد مفردات الحداثة المنحولة تسعفها إذ صارت قوالب جوفاء لأنها إلى حدّ تلك اللحظة كانت إيديولوجية إقصائية ولم يعد بإمكانها مواصلة تبرير زمن الأخطاء بالأخطار القادمة من التاريخ السحيق لأن أكبر خطر على النظام جاء من سياساته الفاشلة وأكبر فشل للنخبة جاء من مسلماتها المستوردة والمستهلكة .

للوضع الجديد لابد من خطاب جديد وفكر جديد وحامل جديد للأمل والحلم والفكرة.

كانت النهضة المتحررة للتو من مخاوفها وقيودها والواثقة بلاحدود أنها الأكثر شرعية وتجذرا واستعدادا للتجاوز حاملة لوعود تتجاوز زمنيا وتاريخيا ونفسيا وأخلاقيا طاقة كيانها التنظيمي، ولكنها بما هي انفتاح كلي على المستقبل رغم طابعها المحافظ عرضيا لا جوهريا أمكنها أن تمثل قوة الدفع الأساسية التي شلت حركة قوى الردة ومنعتها من سرقة الثورة ممن أنجزوها ودفعوا فيها أرواحهم ودماءهم.

وبقدر ما كانت إرادة الإسلاميين النهضويين صادقة في القطع من منظومة الاستبداد كانت مقتنعة وواعية بالضرورة التاريخية لمأسسة الحرية وإقامة البناء الديمقراطي على قواعد فكرية ودستورية ضامنة لتحويل الحرية إلى واقع ملموس معيش.

كانت حركة النهضة الأكثر استعدادا لحمل مشروع تأصيل الديمقراطية في البنية الفكرية الإسلامية وفي السياق التاريخي والمجتمعي التونسي بدرجة من الوضوح والحسم لم تبلغها من قبل إذ وجدت في بيئة التنزيل والتفعيل خير مصداق للتنظير الذي كرس له مرشدها وقادتها عقودا من التفكير والتبشير.

كانت النهضة في حاجة إلى إنهاء محنة الفصام بين الفكر والواقع. وكانت الدولة في حاجة إلى إنهاء حالة الجفوة والفجوة بين قاعدتها القانونية ومضمونها الديمقراطي والاجتماعي الذي وضعت في غربة عنه بفعل سياسات النظام التابع والمنبت ووضع في رفّ التاريخ الساكن ودفات الكتب ومقررات كليات الحقوق وكليات العلوم الإجتماعية والإنسانية في انتظار انتفاضة الجماهير المتعطشة للحرية والعدالة والكرامة.

ومابين فصام فكر عن واقعه واغتراب دولة عن مضمون تحديثها ودمقرطتها رشح التاريخ حركة النهضة لتحقيق مصالحة الدولة مع المجتمع، أو بالأحرى القيام مقام محرك تلك المصالحة في هيئة المنتدب الديمقراطي الذي نزع عن نفسه قشرة الإسلام السياسي دون أن يستحيل إلى حركة علمانية أو أن يتحول إلى مشروع علمنة ثانية، فما كانت الديمقراطية الحق علمنة بأي حال من الأحوال، ولا كانت تمهيدا لأسلمة وهمية جعلت ذريعة من خصومها لإقصائها والتنكيل بها وعزلها. كل ما يمكن أن تتيحه الأوضاع الجديدة هو الأسلمة السياقية لا التشريعية والعلمنة التاريخية لا الإيديولوجية والسياق المجتمعي والتاريخي في هذه الحالة سياق موحّد يتخلى عن الشعار والقشور ويبقي على اللبّ والمضمون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *