تعرضنا في الجزء الأول إلى مُختصر لأهم المعطيات التاريخية والجغرافية الخاصة بالمدينة، كما أوردنا أسباب وحيثيات استفاقة المجلس الرئاسي تجاه الوضع الراهن في المدينة، بينما نستعرض في هذا الجزء الأخير، خلفيات الاستهداف وأسباب التجاهل الكبير والمستمر للمجتمع الدولي لمآسي درنة وخاصة حصارها الراهن والمتعدد الأوجه و الأبعاد ؟

++ كيف وفر “مجلس شورى درنة” مبررات الحصار ؟

عمليا ما يجري في درنة هو وضع المدينة بين مطرقة قوات حفتر وسندان أنصار مجلس شورى المدينة، حيث وضع هذا الأخير المدينة في فخ مُبيَت بما جعلها لقمة صائغة لعداوة المحيط وقد استغل حفتر استغل ذلك ونصب لها فخا آخرا، وهو ما يعني أن المجلس هو أحد أهم المعطيات في توريط المدينة في هذا المنحى (الحصار)، رغم أن أنصار المجلس وقياداته لا يمكن وضعهم في سلة واحدة فكريا واجتماعيا وسياسيا وتنظيميا وبعضهم ساهم سابقا في طرد داعش منها …

أما من حيث الوقائع والحيثيات الراهنة فبمجرد أن تأكدت العناصر القيادية في المجلس، أنه لا مخرج لهم من الورطة التي وضعوا المدينة وأنفسهم فيها، أصبحوا يحاولون توسيع دائرة الصراع والتورط في حرب يبحث عنها حفتر ومحيطه الاستشاري، وهي حرب قد تتحول الى حرب فناء ودمار على كل المدينة….

ومن الواجب عمليا المسارعة بدفع حكماء ليبيا الى تجنيب المدينة مصير ما حدث لبنغازي وأن يدركوا جميعا عواقب الاستهتار والطيش وعدم القدرة على تقدير المسؤوليات تجاه مثل هذه المغامرات فلا حفتر ورفاقه سيجنون شيئا من حصار درنة ولا من اقتحامها ولا مجلس شورى المدينة سينتصر في كل الظروف، وعلى حكومة التوافق وعلى البعثة الأممية تجنب تكرار نفس المسرحية ونفس الإخراج الهزيل ان لم نقل بنفس المخرجين لما حدث في بنغازي من دمار وضحايا، وعلى أهالي درنة بل على كل الليبيين الوعي أن مخابرات إقليمية ودولية تسعى للوقيعة بين الليبيين أي بين طرفي الصراع على تخوم درنة وأن وحدة ليبيا ومستقبلها هما المستهدفان أولا وأخيرا، ولذلك فان طرح فكرة “قوة حماية المدينة” ليس حلا عمليا فدرنة مدينة ليبية ليست موضوع صراع ولا هي أرض يتقاتل فيها الليبيون، وهي مدينة ليبية لابد من أن يكون فيها أمن ليبي وقيادة سياسية ومجلس بلدي يؤمن الخدمات وذلك من أجل أن تعيش المدينة آمنة وثانيا لتتحول لرافد سياحي واقتصادي ويشارك أبناؤها في أنشطة المجتمع المدني والسياسي بما فيهم أعضاء مجلس شورى المدينة ممن لم تتورط اياديهم في دماء الليبيين….

++ خلفيات ما يجري في درنة

ما جري في درنة بل حولها ليس مرتبط فقط بأجندات حفتر ولا بمسوغات قد يكون وفرها ما يسمى بمجلس شورى المدينة ومعسكر الكرامة كما بينا أعلاه، وهو لا يرتبط فقط بتجاذب سياسي بل له أسباب وخلفيات تاريخية متعددة:

أ- الخلفيات المحلية: ذلك أن الصراع على درنة سياسي بالأساس، وهو نقل عملي للتجاذب الايديولوجي بين الإسلاميين والليبراليين عربيا وأيضا بين أنصار “17 فبراير” و أنصار “01 سبتمبر”، فبعض رجال حكومة الوفاق لم ينسوا أن حفتر قد حقق اختراقات سابقة في الزنتان و”صبراطة” وقريبا من الحدود التونسية ورغم محاصرة تلك الاختراقات فانهم يحلمون بصمود درنة للتأكيد أن حفتر لا يُسيطر على كل الشرق الليبي، بينما يريد حفتر التوسع شرقا للانطلاق خارجه في اطار أحلامه المستقبلية وهو أيضا لم يغفر للمدينة انها احتفلت بذكرى ثورة 17فبراير رغم منعه لذلك في مدن الشرق سنتي 2016 و2017، وهو ما حدا بالكاتب والمحلل السياسي الليبي صالح الشلوي يتساءل: لماذا لدرنة كمدينة أن تختلف عن البيضاء كمدينة؟ لماذا تحاصر الأولى بينما يكون في الثانية مطار دولي تقلع منه الطائرات إلى خارج البلد؟

ب- الخلفيات الإقليمية: وهي أيضا عديدة على غرار أطماع السيسي ونظامه في ليبيا وثرواتها وخلفيات تاريخية في درنة بالذات من حيث العلاقات الجغرافية والاجتماعية، وكل ذلك تؤكده الوثائق وحقائق التاريخ والجغرافيا، أما بعض أطراف إقليمية فتنظر الى موقعها الجغرافي والى مينائها المهم لوجستيا وسخاءها المجتمعي وأنها مدينة تكتسب قابلية لتصبح أجمل المدن العربية سياحيا واقتصاديا…

ت- الخلفيات الدولية: تمثل درنة استحضارا لأحداث تاريخية انكسرت فيها قوى دولية على احتلال المدن العربية والإسلامية وخاصة في الحقبة القرمنلية إضافة الى ان الأحداث الحالية في درنة قد يقع توظيفها للمضي في التقسيم العملي والعودة الى ما قبل سيناريوهات 24 ديسمبر 1952، كما تسعى بعض القوى الدولية الى قتل فكرة صمود مدن عربية مستقبلا أمام الاختراق الفكري والثقافي وأن يكون لها القدرة على التصدي للغزو الخارجي الناعم وأيضا المباشر ….

++ الخلفيات المباشرة لحصار درنة

عمليا تزامنت الحملة العسكرية والتحشيد لها مع صمت مُطبق لعدد من أعضاء مجلس رئاسة حكومة الوفاق الوطني رغم تحرَك بعض الأعضاء (وهو ما وضحنا حيثياته وتفاصيله في الجزء الأول)، وذلك بسبب اعتقادهم أن من يسيطر على المدينة “إرهابيون” كما ترى القوات المحتشدة حول المدينة ذلك أو هي برمجت ذهنيا وسلوكيا على ذلك، على غرار أحد نواب رئيس المجلس الرئاسي وعدد من وزراء الوفاق وبعض المسؤولين في عدد من الوزارات والمؤسسات بناء على تجاذب ايديولوجي واصطفاف مبني على خلفيات قبلية وتاريخية وولائية…

وعمليا كشفت الحملةُ العسكرية أن هناك ضوء أخضر إقليمي لاقتحام المدينة، وهو اذن عملي من قبل رعاة الانقلاب الإقليميين والدوليين اعتقادا من مُستشاريهم في الغُرف المغلقة أن ذلك سيترتب عليه تنامي الرصيد الشعبي لمعسكر الكرامة وزعيمه حفتر، والذي قد تعود ترتيبات اسناده كمرشح محتمل (وهو حق دستوري) لأي انتخابات رئاسية قادمة والتي قد تُجرى في نهاية السنة الحالية وفقا لترتيبات سياسية قد تُحبك أو ترتب في قادم الأسابيع ….

و هنا يطرح تساؤل مهم ورئيسي لفهم ما يجري على تخوم المدينة، هل المجتمع الدولي جاد عمليا في دعم حكومة الوفاق الوطني؟؛ وإلا كيف يتم السماح الفعلي لحفتر وفريقه بمواصلة عملياته العسكرية خاصة في ظل إصراره على عدم الاعتراف السياسي بحكومة الوفاق وتعطيل مصادقة مجلس النواب على تزكيتها كحكومة لكل الليبيين؟، ولماذا يأبى حفتر أن ينضوي تحت إمرة الرئاسي ولصالح من الإصرار على ذلك؟، وهل معنى ذلك ان هناك طريقا أخرى سوف يسلكها المجتمع الدولي للحل في ليبيا غير الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات قبل عامين أو هل تم في الخفاء سن خارطة طريق للعدة الى سيناريو القذافي2 وأن حفتر عاد الى منطق التلويح بشروطه ؟

و ماذا تعني مسارعة أعضاء في حكومة الوفاق الوطني ومحسوبون على حفتر ولائيا إلى منطقة الرجمة؟، وهل يعني ذلك أنها محاولة منهم لوضع أرجلهم هناك ينالون بها حظوة عند حفتر ظنا منهم أن سيناريو تخلي المجتمع الدولي على الاتفاق السياسي قد يصبح أمرا واقعا في مرحلة ما، خاصة وأن بعضهم يعتقد أصبح يشرعن عمليا لما قد يرتكب في حق سكان درنة من جرائم، بل أن البعض من أولئك يعتقدون أنهم يساهمون في تسهيل الأمر على حفتر مستقبلا ليضع أقداما له في العاصمة طرابلس وفقا لتحاليلهم وأمانيهم….

أما عن طبيعة التحشيد الحالي حول المدينة فله ماهية ثانية وهي وضع البلد لاحقا في أتون حرب أهلية وقابلية موضوعية للتقسيم، ذلك أن الإيحاء بالبدء في حرب لاقتحامها فان ذلك يعني موضوعيا إطالة أمد هذا الصراع والدخول في معركة ثانية في الشرق سيُبقى الجميع ينتظر متى تنتهي حتى يطبق الاتفاق السياسي ولعل القياس بما حدث في بنغازي والتي ظل حفتر نفسه يهدد بالسيطرة عليها طيلة ثلاث سنوات كاملة وكانت النتائج كارثية عمرانيا وسياسيا واجتماعيا باعتراف الجميع بل وانتجت مجرمي حرب مطلوبين دوليا على غرار الورفلي وآخرين …

++ في علاقة حصار درنة بآفق الحل السياسي في ليبيا

من الواضح أن المجتمع الدولي تشقه خلافات تجاه الحل في ليبيا نتاج الخلاف على التموقع على أراضيها عسكريا وفي مغانم الشركات الغربية في إعادة التعمير والاستثمار في ثروات غدامس الباطنية إضافة للسيطرة على مسالك الدخول الى العمق الافريقي، فتارة يتجه رهانه على المجلس الرئاسي وتارة يعتمد على قوات حفتر في شرق البلاد، وكأنه بذلك يعمد إلى ممارسة نوع من الضغوط على كليهما للخروج بحل لا يزال حبيس جعبته ربما يكون تحويرا وتعديلا في الاتفاق السياسي تقصى منه أطراف وتبقى أطراف أو تضاف إليه أخرى، وربما تكون انتخابات يهيئها ويمهد أرضيتها لمن يراه الغرب مناسبا للحكم، فهل ستكون حرب درنة والتهديد باجتياح المدينة ضغطا على المجلس الرئاسي أم أنه الرهان الأخير على الرجل المناسب الجدير بالحكم أو التجهيز لخطة بديلة يبرز من خلالها اشخاص لا نراهم في المشهد الحالي أو هم مُتوارين خلف هذا الطرف أو ذاك…، وفي علاقة بكل ذلك لا يدري أحد كم ستستمر الاحداث في درنة والتي لا يمكن لأي قوة أن تسيطر عليها إلا بعد سنوات لأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية رغم سوء الحال المعيشية التي أنهكت المواطنين وفي درنة حيث نقدر أنه لن ينتصر فيها منطق القوة على قوة المنطق، وهذه الأخيرة قد ترتكز على فعل ومبادرات جهة أو رجل ليبي رشيد يُجنب ليبيا الدمار مجددا ويدفعها نحو الوحدة والآخاء في قادم الأشهر لإجراء مصالحة تبني الغد وتدفن آلام وأحقاد الماضي، وحتى لا يضطر السراج أو غيره لترديد مقولة محمد يوسف المقريف سنة 2013 “لك الله يا ليبيا” …..

المصدر: صحيفة الرأي العام التونسية بتاريخ 17 ماي 2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *