الإسلاميون أمميون لا فرق بين حادثة وقعت على أرض الأندلس وأخرى عند أسوار الصين أو بين هارون الرشيد وسليمان القانوني أو بين الدولة الأموية والعثمانية. حدود مفتوحة من دون نقاط تفتيش. لكن الأمر لا يبقى بهذه السهولة حين يتعلق بمعالجات الحاضر كالحاجة (مثلا) إلى دور إقليمي تركي على الأرض العربية لإنقاذ المجتمعات من الطائفية والشعوبية حينها لا تخلو صفوف بعض الإسلاميين من نزعة قومية لا تختار لزمنها الحاضر ما تمجده أدبياتها في الماضي، أو نزعة أكثر ضيقاً (سايكوسبيكية) لا تندفع (عملاً وليس قولاً) لرتق مجتمعات دول أنشأتها سايكس بيكو لكي تتصرف هذه المجتمعات (أمام الخطر الطائفي الشعوبي) لا كعراقيين أو سوريين او لبنانيين وإنما كعرب.

القومية، في المقابل، نقيض الأممية وقد أفقدت الرقعة العربية عمقها الأممي الإسلامي وأصابت التاريخ الإسلامي بالعرج فالعرب يحجبون (من منظور قومي) جوانب من التاريخ الإسلامي لأنها حدثت في حقبة سياسية إسلامية غير عربية (سلجوقية أو عثمانية أو أتابكية) والأتراك فعلوا الشيء مثله في الحقبة الأتاتوركية. كان الفكر القومي مدخلاً غير صائب للقرن العشرين في وقت كانت الأمم تتجه فيه إلى التكتلات ولو على أسس زائفة. بدأ القرن العشرين بلونين: أسود وأبيض؛ استعادة الخلافة الإسلامية أو محاصرة الإسلام داخل المساجد، ويبدأ القرن الواحد والعشرين بظهور طيف جديد هو بوادر تفاعل الوسط الثقافي القومي (ولو على مستوى الأفراد والأقلام وليس الرؤوس) مع الدور الإقليمي التركي بهدف تصحيح الكفة الاقليمية لمواجهة التهديد الطائفي الشعوبي، هذا التفاعل يمثل مخاض مساحة ثالثة يقف عليها الطيف الأوسع للمجتمع من دون تصنيف فكري لأنها مساحة إنقاذ مجتمع وليست انتصاراً لمدرسة فكرية.

شكل البحث عن المساحة الثالثة في المجتمع العربي قضية القضايا بعد الانقلاب في اسطنبول عام 1909 بقيادة الاتحاد والترقي وخلع السلطان عبد الحميد والذي كان تدشيناً لحقبة (قومية) جديدة هددت علاقة العرب والأتراك. بخلاف الرواية الرسمية العربية للتاريخ (والمناهج المدرسية) فإن المجتمع العربي كان في عملية بحث مضنٍ عن أرضية (فكرية) مشتركة جديدة مع الأتراك قادرة على حفظ النظام الأمني الإقليمي (العثماني) وتمنع انهيار المجتمع أمام الأوروبيين. قاد حملة “المساحة الثالثة” علماء ووجهاء المجتمع العربي وفي طليعتهم أمير البيان والمفكر شكيب أرسلان (لبنان) والشيخ محمود شكري الآلوسي (العراق) والشيخ محمد رشيد رضا صاحب نفسير المنار ومجلة المنار (مصر)، والأديب والعالم الديني والسياسي عبد العزيز الثعالبي (تونس) والشيخ محمد عبده (مصر).

على الرغم من أن انقلاب 1909 مثل نهاية للخلافة من الناحية العملية إلا أن رغبة العرب في البقاء في تحالف إقليمي مع الأتراك لم تتبدل، واعتقد “حكماء العرب” أن مقومات التحالف مع الأتراك لا تكمن في الخلافة فقط وانما خارجها كذلك وفي البناء الاجتماعي المشترك، وأدركوا أن المجتمع لا يمكن أن ينجو من دون دولة تحميه لذا كانت الحفاظ على النظام الإقليمي العثماني (بصيغ جديدة تراعي خصوصيات المنطقة) والبقاء تحت خيمته هو الأولية التي لا تتقدم عليها قضية أخرى ولم يمنع (لكي تحقق) أن يكون الشريك هو الاتحاد والترقي القومي والعلماني الذي أنهى الخلافة.

لم يكن عند مفترق القرن العشرين إسلاميين وقوميين وإنما كان هناك حرص على الإسلام وحب للعروبة والقيم الاجتماعية المنبثقة منهما، وقد بذل حكماء المجتمع جهوداً فكرية كبيرة لارتسام مسار جديد مشتق من هذين المكونين يكون قادراً على الفوز بثقة الناس ونجحوا في ذلك في زمان ازدحم بالمدارس الفكرية وصارت أفكارهم ولا تزال مادة للبحث في الاجتماع السياسي في الجامعات الغربية. لم تنتهِ مهمة “الحكماء العرب” إلى نجاح وانهارت الدولة العثمانية وذلك لسببين: كانت الهندسة الإقليمية بأيدي الأوروبيين من جهة، ومن جهة ثانية كان الفتق القومي بين العرب والأتراك أكبر من أن تعالجه فكرة لم تنضج بالقدر الكافي.

القوميون اهتموا بالعناوين الوطنية ولم يهتموا بالعقيدة الإسلامية فأتى الشعوبيين من صوبهم واخترقوا الصفوف وهدموا الدولة والمجتمع. استرداد الدولة والمجتمع من الطائفية الشعوبية هي الأرضية المشتركة التي يقف عليها المجتمع ولابد لهذه الأرضية من فكر جديد يتخطى الخطوط الحمراء للإسلاميين والقوميين معاً. فرصة إيجاد المساحة الثالثة تعود بعد قرن بحظوظ أوفر يدعمها عاملان أساسيان: نضوج المجتمعين العربي والتركي وخروجهما (فكرياً واجتماعيا) من والصراع القومي، والموقع المهم لتركيا على المسرحين الاقليمي والدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *