على الرغم من محاولات اليسار الأوروبي التقليدي التمسك بمواقفه حيال روسيا، التي كانت ترفض “التصعيد الغربي” ضدها، منذ احتلال شبه جزيرة القرم الأوكرانية وضمّها في عام 2014، إلا أن الحرب الأخيرة على أوكرانيا بدأت تنعكس بصورة واضحة على هذا المعسكر.

وإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، كحالة أوروبية عامة، تطرح أيضاً سجالاً، وسط أجواء مشحونة ضد ما يمت لروسيا بالعموم، عن صراع أجيال اليسار في بعض أنحاء القارة العجوز.

وإذا كان بعض اليسار العربي يواجه مأزق التاريخ وجمود الحالة عند ما كانت عليه أيام الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، على الرغم من نهايات السوفييت والكتلة الشرقية، فإن اليسار الأوروبي وجد نفسه في ذات المأزق، لكن بنقاشات وسجالات لا تنحصر في “اللجان المركزية” و”المكاتب السياسية”، بل في الشارع وبين الناخبين، في سياق انخراط اليسار التقليدي في اللعبة الديمقراطية في الغرب.

وتبنّت بعض الأطراف الأوروبية قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، الرواية الروسية حول الحشود العسكرية، بأنها ليست تحضيراً للغزو.

لكن بعد بدء الاجتياح، انطلق نقاش غير مسبوق بين بعض اليسار الأوروبي التقليدي، وعند الأجنحة الستالينية (نسبة لزعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين) والتروتسكية (نسبة لأحد أبرز مفكري الثورة الشيوعية في عام 1917 ليون تروتسكي)، رغم أن الأخيرة تبدو متصلبة في موقفها المعارض لكل ما يتعلق بسياسات حلف شمال الأطلسي وواشنطن. وبدت الأجواء العامة المعادية لروسيا هزيلة إلى حدّ كبير، على الأقل في الشارع الإسكندنافي.

ارتباك اليسار الأوروبي

سواء تعلق الأمر بشيوعيي أوروبا ويسارييها أو دول الشمال الأوروبي، كما في صفوف حزبين برلمانيين مثل “حزب اليسار” في السويد و”اللائحة الموحدة” في الدنمارك، فإن ما يجمع معظم التيار اليساري الأوروبي هو موقف تقليدي يرفض العسكرة، ويعارض وجود حلف شمال الأطلسي.

وتنطلق تيارات اليسار، التقليدية والماركسية المتشددة، من مواقف تقليدية غير متغيرة تعتبر الحلف الغربي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، “عدوانياً”، وتتفهّم ما اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “تهديداً لبلده” من قبل حلف الأطلسي.

ومع أن الدول الإسكندنافية شهدت، في سياق أوروبي أوسع، سجالاً في الأعوام الماضية حول “العلاقات المشبوهة” لمعسكر اليمين القومي المتعصب مع الكرملين، فإن تسليط الأضواء أخيراً، طاول اليسار الذي ظهر “غامضاً” في مواقفه.

واضطر أكبر حزب يساري، “اللائحة الموحدة”، في البرلمان الدنماركي، إلى فرملة تصريحات بعض قيادييه وبرلمانييه القدامى عن “عدوانية الغرب” وعن تفهم دوافع بوتين في اجتياح أوكرانيا.

وهو الحزب الذي توسّعت شعبيته خلال السنوات الماضية، على خلفية برامجه من البيئة والعدالة والمساواة الاجتماعية وتبنيه سياسات تضامن عالمي.

مع العلم أنه تأسس بالأصل من شيوعيين وبقايا حزب “اليسار الاشتراكي” الذي حلّ نفسه في أواخر التسعينيات، ويعمل وفقاً لقيادة جماعية.

ومواقف الحزب التقليدية تشدّد على ضرورة إنهاء الحكم الملكي الدستوري والتحول إلى جمهورية، مع معارضة الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. وينطبق الأمر على شقيقه “حزب اليسار” في السويد، الذي لا يقبل تقارب استوكهولم العسكري مع الأطلسي، بل يتفهّم موقف موسكو.

ما يجمع معظم التيار اليساري الأوروبي هو موقف تقليدي يرفض العسكرة

ولاقت مواقف اليسار الدنماركي في “اللائحة الموحدة”، المختلفة عن حزب “الشعب الاشتراكي” العريق في موقفه المعارض لتفهم مخاوف روسيا، استهجاناً وهجوماً من رئيسة الحكومة، ميتا فريديركسن، التي تمثل يسار الوسط الاجتماعي الديمقراطي.

وصبّت المواقف السياسية والإعلامية وتعليقات المواطنين غضباً على أحد أبرز شخصيات الحزب (الآتي من صفوف الشيوعي الدنماركي)، عضو البرلمان، كريستيان يول، في الأيام الأولى للغزو الروسي.

وهو ما دفع قيادات الحزب الشابة إلى توضيح موقف “اللائحة الموحدة” ووضع حد ليول وغيره، في ظل ارتفاع شعبية الحزب في استطلاع للرأي أجراه مؤشر “فوكسميتر” بين 21 فبراير الماضي و27 منه.

ومنح المؤشر “اللائحة الموحدة” نحو 8.9 في المائة من نوايا المستفتين، علماً أنه من المقرر إجراء الانتخابات التشريعية في يونيو/حزيران 2023. فالضرر الذي أحدثه موقف الحزب المهادن لبوتين، دفعه سابقاً لرفض تزويد أوكرانيا بالذخيرة، ما انعكس على الوضع الداخلي فيه.

وأظهر السجال الأخير انقساماً بين جناح بقيادة شابة، أغلبها نسائي، دخل في المعترك البرلماني ويعرف قيمة صناديق الاقتراع لتطبيق برامجه، وجناح ماركسي عتيق، يمثله كريستيان يول وغيره من القيادات المخضرمة، المصرّة على أن “الغرب يريد إضعاف بوتين”.

وأهمية الحزب اليساري في البرلمان الدنماركي أنه يشكل قاعدة برلمانية لحكم يسار الوسط، وبالتالي كان هاماً لفريديركسن بروز مواقف واضحة عنه تؤيد إجراءات كوبنهاغن العسكرية والأمنية المتزايدة.

وهو ما دفع مسؤولة الكتلة البرلمانية عن “اللائحة” الموحدة ماي فيلدسن، والقيادية بيرنيلا سكيبر، للتدخل لوضع حد للجدل وتوضيح أن الحزب يدين الغزو الروسي ويؤيد سياسات حكومة يسار الوسط في شد الأحزمة العسكرية، بما في ذلك فرض الخدمة العسكرية الإلزامية وتطوير القدرات عند الجيش.

صراع أجيال اليسار

السجال حول التعاون العسكري الغربي وإدانة الغزو الروسي، وسط أجواء عامة تستهجن أي موقف يؤيد أو يتفهم موسكو، وجد صداه في استوكهولم أيضاً، حيث خفف اليسار السويدي البرلماني، وليس “الحزب الشيوعي”، من لهجته المنتقدة لاندفاع بلدهم نحو العسكرة.

فأجواء ما قبل الغزو الروسي، والتي استدعت قيام حكومة يسار الوسط، برئاسة ماجدالينا أندرسون، إلى تأهب عسكري ونشر قوات على جزيرة غوتلاند في البلطيق، جعلت يسار السويد يراجع تصلبه ويجاري الرأي العام في مواقفه المؤيدة لتقارب بلدهم، غير العضو في الأطلسي، مع الحلف الغربي.

حساسية الموقف أخذت أيضاً بيساريي فنلندا واشتراكيي النرويج إلى مواقف حذرة، وعدم الظهور كبعض أقطاب اليمين القومي المتطرف المتهمين بالتعاون مع الكرملين.

راجع اليسار السويدي مواقفه مجارياً الرأي العام في دعم الغرب

حالة يسار الأوروبيين الشماليين لا تختلف كثيرا عن وضع اليسار في بقية القارة. فعلى سبيل المثال تغير موقف حزب “دي لينكه” اليساري الألماني بشكل جذري عما كان عليه قبل بضعة أسابيع.

وسياسات برلين التي كانت في العموم حذرة حيال علاقاتها الخاصة بموسكو، على الأقل طيلة فترة مستشارتها السابقة أنجيلا ميركل، وتغيّرت تماماً مع أولاف شولتز، لم تشكّل تحدياً كبيراً لليسار الألماني، غير المصنف باليسار الثوري، في سياساته التي تشبه تلك التي للشماليين، المتوجسة من تحالف الاطلسي وإظهار بعض تفهم لسياسات بوتين.

وغير بعيد عن ألمانيا شهد اليسار الفرنسي، تحديداً لدى المرشح للانتخابات الرئاسية، المقررة في إبريل/نيسان المقبل جان لوك ميلانشون، تغيّراً في المواقف التي كانت تقول إنه لا يمكن للرئيس الروسي، بوتين، غزو أوكرانيا إلى مواقف منددة وداعمة للتحركات الغربية.

وفي الواقع اعتاد الأوروبيون على نقاشات عن أصدقاء الكرملين في معسكر اليمين القومي المتشدد، فأمثال الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية مارين لوبان والمجري فيكتور أوربان والبريطاني نايجل فاراج والدنماركيين ماريا كراروب (تحولت من حزبها اليميني المتشدد، الشعب الدنماركي، إلى عضو برلمان مستقل بسبب موقفها المؤيد لبوتين أخيراً) ومارتن ميسيرشميت من “الشعب الدنماركي”، وغيرهم في القائمة الطويلة من اليونان وإسبانيا إلى النمسا وألمانيا والسويد، كانوا يبدون بصوت عال إعجاباً ببوتين وينسجون علاقة وثيقة بمحيطه.

وبعضهم، كما في الحالة السويدية ضُبط بميول نازية، ما اضطر حزب “ديمقراطيو السويد” إلى تجميد عضويتهم، خصوصاً بعد أن طاولته فضائح تصل إلى حد الاتهام بـ “التجسس لمصلحة موسكو”.

اليوم، وبعد أسبوعين من الحرب وأجواء التجييش الواضحة، بما في ذلك اقتناص الفرصة لتوسيع التعاون العسكري والأمني، كإعلان الدنمارك أنها ستجري استفتاء شعبياً للتخلص من تحفظات التعاون الأمني والعسكري مع الاتحاد الأوروبي، وبناء قواعد عسكرية أميركية، يبدو الوضع مختلف لليسار الأوروبي.

فالخشية من الظهور كبيادق روسية، وتلمس اتجاهات الرأي العام، وتحت وقع صدمات الحرب الأولى منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) على أرض القارة عجل على ما يبدو من ظهور صراع الأجيال اليسارية.

ومن إسكندنافيا إلى ألمانيا ففرنسا وإسبانيا، وغيرها، يظهر جيل شاب جديد في صفوف اليسار الأوروبي ينافس ويتخلص من “المعسكر القديم”.

وبالطبع لا يمس ذلك التيار اليساري (الشيوعي) المصنف “ثورياً”، بل في الأغلب تيار اليسار الذي يشكل ما يشبه “جبهة” عرفت طريقها إلى البرلمانات بدلاً من الأحزاب التقليدية، كالحالة الدنماركية.

في المجمل، يقتنص جيل اليسار الجديد الأوروبي فرصة المتغيرات لطرح نفسه على قدم المساواة مع الأحزاب التقليدية التي هي في وقع المسؤولية في البرلمانات، والعين بالتأكيد على صناديق الاقتراع المتعلقة ليس فقط بمواقف وسياسات خارجية، من بينها الموقف من روسيا والصراع الجاري في أوروبا، بل ببرامج تتعلق بقضايا محلية وعالمية أخرى، مثل قضايا المناخ وسياسات التضامن الدولي المرتبط بعلاقة القارة الثرية بجيرانها الأقل ثراء.

 

المصدر :العربي الجديد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *