صدور كتابه “مذكرات ضابط أمن” أحدث ضجة في الأوساط الإعلامية والسياسية التونسية والفلسطينية على حد سواء، تسابقت وسائل الإعلام المحلية والعربية على إجراء لقاءات معه، في محاولة لتسليط الضوء على مزيد من التفاصيل التي كشفها بين صفحات مذكراته التي ناهزت 500 صفحة.

كان الاهتمام الإعلامي والشعبي بما كشفه المقدم النوري بوشعالة بين دفتي كتابه مبررا منطقيا، الرجل يعد من بين القيادات السابقة التي خدمت في أحد أبرز الوحدات التابعة للأمن الرئاسي في تونس والمعروفة بجهاز حماية الشخصيات والمؤسسات، ما جعل روايته شهادة تاريخية عن كواليس حقبة الرئيس الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وأسرار عمل الأجهزة المختصة و”السيادية”.

لكن أهمية ما جاء في مذكرات المقدم بوشعالة لا تنحصر في وصفه ضابطا أمنيا رفيع المستوى، بقدر ما تعلقت بصلاته الوطيدة بالقيادات الفلسطينية إبان استقرارها في تونس منذ سنة 1982، ما أسبغ على مهامه بعدا دقيقا وحساسا من خلال إشرافه على تأمينهم وحمايتهم، خصوصا الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي جمعته به علاقة شديدة الخصوصية طوال سنوات، جعلته من بين أبرز المقربين إلى أبوعمار وأحد المطلعين على خفايا وأسرار كثيرة، بعضها ما يزال مثار جدال طويل على غرار كواليس اغتيال الشهيد أبو جهاد.

الحوار الصعب 

“قدر لي أن ألتقي المقدم النوري بوشعالة سنة 2011 في مصادفة قدرية بحتة وضعت الرجل في طريقي، لتفتح أمامي وقتها نافذة مذهلة على المعلومات والوقائع التاريخية التي دفعتني إلى خوض محاولات شاقة لإقناعه بنشر جانب من مذكراته التي لم تكن قد اختمرت بعد فكرة تدوينها في كتاب.

كان حوارا معقد التفاصيل، امتد ساعات، وعلى مدار أكثر من جلسة وبدا أشبه بمبارزة بين صحفي يشحذ كل طاقاته الذهنية سعيا إلى التقاط كل إشارة أو معلومة أو فاصلة وضابط ما يزال ملتزما بواجب التحفظ يضع على لسانه ألف عقدة وطوق لفرز وغربلة المعطيات المسموح بتداولها من وجهة نظره.

من المقاولات إلى السلك الأمني

يأخذ المسار المهني والإنساني للمقدم المتقاعد النوري بوشعالة منحى مثيرا للاستغراب، فالرجل الذي ترجع أصوله إلى مدينة صفاقس، بدأ حياته في سنوات شبابه بالعمل مع والده في مجال مقاولات البناء، ما مكنه من تحقيق عائدات مادية جيدة كانت تتيح له في فترة وجيزة تكوين رأس مال خاص وتطوير مشروع مستقل في المجال ذاته.

مثّل الإعلان عن مناظرة صلب وزارة الداخلية أواخر الستينيات من القرن الماضي، لانتداب عناصر جديدة بالأسلاك الأمنية المنعرج الذي غير حياته إلى الأبد، بعد أن قرر التقدم للمشاركة “على سبيل التجربة”، ليدخل معها المؤسسة الأمنية وحياتها العسكرية الملتزمة بالانضباط والدقة والصرامة.

تدرج بوشعالة في الرتب والمسؤوليات بشكل سريع، إذ وقعت ترقيته إلى رتبة ناظر أمن وتكليفه بمهام آمر فصيل بالفوج الثاني لفرق حفظ النظام العام، كما خاض عدة دورات تدريبية في العلوم الأمنية الحديثة خارج تونس.

سنة 1973 كانت عنوان النقلة المهنية الأضخم والأبرز في حياة الرجل بعد تعيينه ضمن جهاز حماية الشخصيات والمؤسسات وهي وحدة خاصة لتأمين رئيس الجمهورية والشخصيات الرسمية ومرافقة كبار الضيوف من السياسيين والدبلوماسيين الأجانب خلال زيارتهم إلى تونس، ليدخل المقدم النوري بوشعالة عوالم جديدة تقاطعت عبرها المهام الأمنية بكواليس السياسة وحكاياتها.

تدريب سري للفلسطينيين

ترجع أصول العلاقة الوطيدة والاستثنائية التي ربطت المقدم بوشعالة بالثورة الفلسطينية وقياداتها إلى ما قبل استقرار منظمة التحرير الفلسطينية بتونس سنة 1982 بعد مغادرتها بيروت، حيث أشرف بشكل شخصي إبان عمله بأمن رئاسة الجمهورية على تدريب فصيلين من المقاتلين الفلسطينيين تعبيرا عن التزام تونس بدعم الثورة الفلسطينية.

وقع تدريب الفصيلين الفلسطينيين على مرحلتين بين سنتي 1978 و1979 ضمن ترتيبات سرية وخاصة لنقلهم إلى تونس وإقامتهم ومن ثم تسفيرهم لاحقا وذلك بالتنسيق بين الجانب التونسي ومنظمة التحرير.

صدام حسين … مسدس للذكرى

استضافت تونس أشغال القمة العربية سنة 1979، في خضم التحولات التي جعلت منها عاصمة الدبلوماسية العربية، إثر تجميد عضوية مصر لدى الجامعة العربية.

كُلف المقدم بوشعالة حينها بمرافقة وحماية رجل العراق القوي صدام حسين في أول حضور له  في أشغال القمة العربية، بعد أشهر من صعوده إلى دفة الحكم خلفا للرئيس أحمد حسن البكر.

ردا على سؤالي عن كواليس الأيام الأربعة التي رافق خلالها صدام، أشار المقدم بوشعالة إلى أن “المهيب الركن” كما كان يناديه أعضاء مجلس قيادة الثورة في العراق، “كان رجلا قليل الكلام حتى مع مرافقيه من عناصر الحرس الجمهوري”، الذين كانوا يتبعونه في كل تحركاته ويرابطون أمام غرفته بالفندق خلال وجوده بها.

“كانت بعض تصرفات صدام غريبة ولا يمكن توقعها رغم هدوئه في الظاهر وقوة شخصيته”، أضاف محدثي خلال استحضاره خطوط شخصية الرئيس العراقي الراحل وسلوكه الذي كانت سببا في “أزمات ومفاجآت عديدة” خلال انعقاد القمة.

فقبل أيام من قدومه إلى تونس فوجئ المشرفون بمطار تونس قرطاج بوصول طائرة صدام حسين الخاصة محملة بخمس سيارات مصفحة وسيارة إسعاف مجهزة لمرافقة الزعيم العراقي خلال إقامته وكانت تجهيزات المطار غير مؤهلة للتعامل مع هذه الحمولة ما حتم الاستعانة بإمكانيات الجيش الوطني لنقلها.

مفاجآت صدام لم تتوقف عند هذا الحد، فقبل ساعات من وصوله من بغداد فوجئ الجميع بطائرة ثانية تقل فريقا أمنيا خاصا مكونا من 145 شخصا مجهزين بأسلحتهم، الأمر الذي كاد يتسبب بأزمة سياسية ودبلوماسية بسبب تمسك السلطات التونسية، على رأسهم الرئيس السابق بن علي الذي كان حينها مديرا عاما للأمن الوطني، بعدم السماح لهم بالدخول إلا بعد تسجيل قائمة أسلحتهم وأرقامها التسلسلية وحجم  الذخيرة الموجودة معهم وهو ما رفضه العراقيون بشكل قطعي، لينتهي السجال بعد اتصالات ماراثونية بعودة المجموعة الأمنية الخاصة على نفس الطائرة إلى العراق.

كشف لي المقدم بوشعالة أن صدام “كان الاستثناء بين الرؤساء العرب”، بعدما دخل قاعة مؤتمر القمة مصطحبا مسدسه الشخصي الذي كان يرفض  التخلي عنه بشكل قاطع.

كان الرئيس العراقي الراحل مشهورا بأريحيته مع عناصر الأسلاك الأمنية والعسكرية وهو ما تجسد في هدية تذكارية خاصة قدمها لمحدثنا قبل عودته إلى بغداد تمثلت في مسدسه الشخصي الذي كان اسم صدام منقوشا على مقبضه.

في الجزء الثاني

سنتحدث عن أسباب اختيار ضاحية حمام الشط لإقامة القيادات الفلسطينية في تونس.

كيف نجا أبوعمار من الغارة الصهيونية في أكتوبر1986 بفضل حسه الأمني؟

إنها المصادفة التي كادت تنقذ حياة أبي جهاد قبل ساعات من اغتياله …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *