موظف عمل مع «النظام القديم» واليساريين والإسلاميين
تونس: كمال بن يونس

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد الشعب والمراقبين عندما رشّح لتشكيل الحكومة الحالية وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة هشام المشيشي وتجاهل 21 شخصية رشحتها الكتل البرلمانية والأحزاب، بينها بعض زعمائها وخبراء اقتصاد لديهم حضور دولي. وطرح كثيرون نقاط استفهام عن الدلالات السياسية والأمنية لترشيح وزير داخلية لرئاسة الحكومة. لكن المفاجأة الكبيرة الثانية كانت ترحيب غالبية الأطراف السياسية والبرلمانيين والإعلاميين بهذا الترشيح.

لوحظ أن بلاغات معظم الأحزاب اليسارية والليبرالية والعلمانية وحزب «حركة النهضة» وقياداتها نوهت بخصال هشام المشيشي وبينها «استقلاليته الحزبية ورصيده في الإدارة التونسية»، وفي الصف الثاني في مؤسسات الحكم عند ترؤسه مكاتب عدد من الوزراء منذ 2014، منهم عدد من رموز «النظام القديم» و«اليسار الراديكالي» و«النهضة».

أيضاً، نوّهت البيانات بـ«نزاهته وحياديته وانفتاحه على كل العائلات السياسية» خلال الأشهر الماضية، عندما عيّن مستشارا قانونيا للرئيس سعيّد ثم وزيراً للداخلية، فلم يعرف عنه أن تورط في النزاعات الحزبية والمعارك السياسية وصراعات أجنحة الحكم.

في المقابل استهدف قطاع من جمهور مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الشخصيات السياسية الرئيس التونسي بسبب تجاهله الأسماء التي اقترحتها الكتل البرلمانية في بلد ينص دستوره بوضوح على أن نظامها السياسي «برلماني معدل»، وأن البرلمان هو الذي يصادق على الحكومة ويراقبها.

– من «الجهات المهمشة»

لقد نوه عدد من السياسيين والجامعيين، كعالم الاجتماع والوزير السابق سالم الأبيض وزهير المغزاوي البرلماني وأمين عام حزب الشعب، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» بـ«جرأة» الرئيس الذي رشح لرئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ البلاد شخصية ولدت في بلدة بوسالم، الفقيرة. وهي من «المدن المهمشة» في محافظة جندوبة القريبة من الحدود الجزائرية، حيث ترتفع نسب البطالة والفقر والأمية والجريمة مقارنة بالنسب الوطنية.

هذا الاختيار يسجل لأول مرة في تاريخ تونس التي تداول على المناصب العليا في الدولة فيها خلال الـ65 الماضية ساسة كان جلّهم من محافظتي سوسة والمنستير في منطقة الساحل السياحية، موطن الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي اللذين حكما البلاد بين 1955 و2011. وكان البعض الآخر من العاصمة تونس موطن الرئيس السابق الباجي قائد السبسي والرئيس المؤقت عام 2011 فؤاد المبزّع ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر. وكان تعيين إلياس الفخفاخ، أصيل مدينة صفاقس «عاصمة الجنوب والوسط الشرقي للبلاد»، رئيسا للحكومة قبل 5 أشهر، «التمرد الأول الذي قام به قيس سعيّد على الأعراف» عبر تجاهله لأبناء الساحل والعاصمة.

ومع تراكم معضلات البطالة والفقر والتهميش في المحافظات الداخلية للبلاد، وخاصة في الشمال الغربي، مثل جندوبة موطن هشام المشيشي، يرى مراقبون متخصصون أن رئيس الحكومة المكلف قد يحصل على «هدنة» من قبل زعماء النقابات والمنظمات التي تتزعم منذ 2010 الاحتجاجات الشبابية العنيفة على البطالة والفقر والتهميش والرشوة والفساد وتطالب بـ«حق الجهات الداخلية في مشاريع تنموية فورا».

– لا يحمل جنسية ثانية

من جهة أخرى، توقف عدد من المراقبين والشخصيات السياسية عند خصوصيات أخرى للمشيشي من بينها كونه لا يحمل جنسية ثانية خلافاً لعدد من رؤساء الحكومات السابقين من الشخصيات التي رشحتها الأحزاب لخلافة الفخفاخ. وكانت وسائل الإعلام والمنابر السياسية قد انتقدت حمل كبار السياسيين التونسيين جنسيات ثانية، منها الفرنسية، بينهم عدد من رؤساء الحكومات السابقين كيوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ. ومع أن القانون والدستور يسمحان لحامل «أكثر من جواز سفر» بالاحتفاظ بجنسيته التونسية، شنت المواقع الاجتماعية حملة إعلامية على عدد من مرشحي الأحزاب لخلافة الفخفاخ بحجة أن «الجنسية المزدوجة التي قد تؤثر على الولاء وعلى الصفقات التي يبرمها مع الدولة التي يحمل جنسيتها». ويبدو أن هذه الحملة ضغطت عند اختيار المشيشي.

– ابن الإدارة.. وموالٍ للدولة

وقد نوهت شخصيات سياسية من رموز الدولة والحزب الحاكم قبل 2011 بما وصفته بـ«وطنية»، هشام المشيشي خريج «المدرسة الوطنية للإدارة في الجامعة التونسية»، وهي المؤسسة التي كانت دوما تابعة إدارياً لرئاسة الحكومة وموالية سياسيا للدولة والحزب الحاكم، ويوظّف خريجوها عادةً في مراكز القرار في مختلف الوزارات.

كذلك، يمنع على أي معارض أن يدرس في هذه الجامعة ـ ويطرد إذا ما أوقف بشبهة ممارسته أنشطة سياسية معادية لنظام الحكم. ومن ثم، فوضعية طلبتها لا تختلف كثيرا عن وضعية طلبة مدارس ضباط الأمن والجيش الوطني. لذا يصعب أن تجد بين خريجي «المدرسة الوطنية للإدارة» شخصيات بارزة من رموز المعارضة اليسارية والقومية والإسلامية، خلافا لخريجي بقية الكليات.

وقد شهدت المواقع الاجتماعية الرسمية لعدد من كوادر الدولة والإدارة منذ عقود، بينهم الوزير الطيب اليوسفي، مدير مكتب رئاسة الحكومة قبل انتفاضة 2011 وبعدها، ترحيباً بتعيين هشام المشيشي باعتباره «ابن الإدارة التونسية ـ ولم يتورط أبداً في الصراعات الحزبية التي استفحلت منذ انتفاضة 2011 وأساءت إلى مصالح البلاد وشعبها». كذلك نوه المدير العام في وزارتي التعليم العالي والخارجية سابقا الأكاديمي سعيد بحيرة بعدد من خصال المشيشي ومنها كونه «خبيرا في الإدارة والقانون وخريج المدرسة الوطنية للإدارة وجامعات الحقوق والقانون في تونس وفي مدينة تولوز الفرنسية».

هذا، ويجمع المراقبون أن من بين أسباب اختيار الرئيس سعيّد للمشيشي مستشاراً قانونياً في رئاسة الجمهورية في العام الماضي ثم وزيرا للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ، خبرته القانونية والإدارية وتخرّجه في الجامعة التي كان سعيّد أستاذاً فيها لمدة ربع قرن، بكلية الحقوق والعلوم السياسية تونس 2.

وما يُذكر أنه إذا كان الدستور يعطي الرئيس حق مشاركة رئيس حكومته في اختيار وزيري الدفاع والخارجية فإن سعيّد نجح في فبراير (شباط) الماضي في تعيين عدد من خبراء القانون على رأس عدة وزارات في حكومة الفخفاخ، بينهم المشيشي في الداخلية ونور الدين الري في الخارجية، وعماد الحزقي في الدفاع، وثريا الجريبي في العدل. وهو ما دفع بعض المنتقدين من التحذير من «الاستعاضة عن ديكتاتورية النظام القديم بديكتاتورية القضاة وخبراء القانون».

– عمل مع الإسلاميين واليسار

لكن نقطة قوة هشام المشيشي التي «قد تصبح يوما نقطة ضعفه الكبرى» حسب الكاتب الصافي سعيد هي أنه «مستقل عمل في الصف الثاني للحكومات السابقة مع سياسيين من مختلف التيارات». وحقاً، كان المشيشي مستشاراً ومسؤولاً في «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» التابعة للدولة. كذلك خاض منذ 2014 تجارب إدارية وسياسية في الصف الثاني في الحكومة، وترأس دواوين عدد من كبار الوزراء بينهم محمود بن رمضان اليساري والأمين العام السابق لـ«منظمة العفو الدولية» في لندن والقيادي السابق في الحزب الشيوعي ثم في حزب «نداء تونس»، وعماد الحمامي الناطق الرسمي السابق باسم «حركة النهضة»، ونايلة شعبان الحقوقية اليسارية والناشطة النسوية.

– رئيس حكومة شاب

في الوقت نفسه نوه مراقبون بكون رئيس الحكومة المكلف «من جيل الشباب»، فهو من مواليد عام 1974، أي أنه أصغر من سلفه إلياس الفخفاخ بسنتين وأكبر من يوسف الشاهد بسنة واحدة. وهكذا تطوى مرحلة «رؤساء الحكومات المخضرمين» الذين قادوا البلاد في المرحلة الماضية، مثل محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي وحمّادي الجبالي والحبيب الصيد. أيضاً قد ينهي هذا التكليف مرحلة الجمع بين المسؤوليات الحكومية ولعب دور في عالم المال والأعمال مباشرة أو عبر أحد أفراد العائلة، كما شهدت تونس خلال العقدين الماضيين. ثم أنه يضع حدا للجمع بين رئاسة الحكومة والإشراف المباشر وغير المباشر على مكاتب استشارات وخدمات دولية ودراسات لديها عقود مع سفارات أجنبية في تونس أو مؤسسات دولية، خلافاً لما كانت عليه وضعيات بعض رؤساء الحكومات والوزراء في السنوات السابقة. ويبدو أن من أسباب استبعاد تكليف مرشحي الأحزاب والكتل البرلمانية لرئاسة الحكومة أن عددا منهم يشتبه في تورطهم في قضايا «تضارب مصالح» و«الشراكة مع مؤسسات أوروبية ودولية وعربية».

– يعرف الملفات الأمنية

إلا أن البعد الأهم في السيرة الذاتية لهشام المشيشي هي مروره بوزارة الداخلية لمدة 5 أشهر. والسؤال الكبير الذي طرحته وسائل الإعلام والشخصيات السياسية من مختلف الأطراف بعد تصريحات الرئيس سعيّد عن «المخاطر الأمنية الداخلية والخارجية» التي تهدد البلاد هو: هل يعتبر الرئيس أن على رأس أولويات الحكومة المقبلة الملفات الأمنية، ولذلك اختار أن يرشح وزيرا للداخلية؟

معظم المصادر ترجح ذلك، خاصة أن معلومات شبه مؤكدة تؤكد أنه اقترح أول الأمر على وزير الدفاع عماد الحزقي تكليفه بتشكيل الحكومة، لكن الحزقي اعتذر «لأسباب شخصية». ولكن هل سينجح هشام المشيشي وحكومته في رفع التحديات الأمنية والاجتماعية الكبيرة التي قد تستفحل بسبب مضاعفات جائحة «كوفيد – 19» ولا سيما على الاقتصاد والسياحة؟ الإجابة تبدو رهينة عوامل كثيرة، بينها «سيناريوهات» تطور علاقات قصر قرطاج الرئاسي بالبرلمان والحكومة وشركاء تونس الدوليين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *