يواصل رئيس الحكومة المُكلّف من حركة النهضة، الحبيب الجملي، مشاوراته مع الأحزاب والشخصيات الوطنية، بشأن تشكيل الحكومة واختيار فريقه الوزاري القادم، ولئن تشهد هذه المشاورات، تفاعلات من اغلب القوى السياسية، سواء بالنقد أو بالتجاوب الايجابي، فان في سياق هذا المسار الحكومي الذي يبدو معقّدا ومرهقا للجميع ومحكوما بحسابات الربح والخسارة وبالطموحات المبالغ فيها أو “المنفلتة” أحيانا او بالآمال المعلّقة على حكومة قد تمرّ بـ”الديمقراطية” ولكنها ستواجه مخاطر فشل مضاعفة بامر الواقع وحقيقة الميدان وهي التي ترث “تركة” ثقيلة من سنوات طويلة للفشل وللعبث الحكومي، تبرز على – هوامش- مسار تشكيل الحكومة، ومعارك البرلمان التي انطلقت منذ الساعة الأولى لانعقاد جلسته الافتتاحية، أحزاب “صنعت الحدث” بشكل مختلف.. ومنها بالأساس حزبي الدستوري الحرّ وقلب تونس..

فحزب الدستوري الحرّ الذي اختار أن ينعزل سياسيا، ويغرّد بعيدا عن الأحزاب المتوثبة للحكم وحتى الأحزاب التي اختارت جبهة المعارضة منذ البداية لكنها قلبت بالتعاطي الإيجابي مع الأحزاب التي تنوي الحكم، وفضّلت التعبير عن آرائها ووجهات نظرها في مختلف الملفات رغم أنها لا تنوي المشاركة في الحكم أو لا أحد يكترث لإشراكه في هذا الحكم، ولكن الدستوري الحرّ ورئيسته عبير موسي أختار أن يشهر في كل المواقف الـ”لاءات” وأن يتمترس في جبهة رفض وممانعة أكثر من جبهة المعارضة..
وعلى عكس الدستوري الحرّ الذي رفض كل الدعوات لتشريكه في النقاشات العامّة، فان حزب قلب تونس، يسعى بكل جهد لكي يكون جزءا من “الصورة العامّة” ومن واجهة الحكم والسلطة رغم انه مرفوض من الجميع الى درجة أن اكثر من قوّة حزبية، علّقت مشاركتها في الحكومة، على شرط عدم مشاركة حزب قلب تونس!
اعتزال الجميع..
رفضت عبير موسي أول أمس دعوة رئيس الحكومة المُكلف الحبيب الجملي للمشاركة في مشاورات تشكيل الحكومة. رغم تأكيدها أنها تلقت مكالمة هاتفية من كتابة الحكومة، ولكنها ترفض رفضا قاطعا المشاركة في هذه المشاورات، وقالت ”ألّحوا علينا المشاركة في المشاورات لكننا رفضن ذلك رفضا قطعيا”، كما اكّدت موسي أن الحزب لن يصوت للحكومة وأن ذلك الموقف يأتي انسجاما مع رفضهم المشاركة في أي حكومة تكون حركة النهضة طرفا فيها.. ومنذ الحملة الانتخابية أكّدت موسي أن حزبها لن يتحصّل على الأغلبية فإنها لن تشارك في حكومة بها حركة النهضة وأنها ستصطف في المعارضة.
وكانت رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي قد رفضت دعوة للقاء رئيس الجمهورية قيس سعيّد وذلك في اطار اللقاءات والمشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية مع قادة الأحزاب الفائزة في الانتخابات وقد برّرت وقتها رفضها لقاء رئيس الجمهورية بأن الدعوة كانت للحزب وليس لشخصها بل بصفتها رئيسة الحزب الدستوري الحر مؤكدة أن للحزب مواقفه وثوابته وخطوطه الحمراء وكل خطوة أو موقف يجب أن يتخذ في اطار هياكل الحزب، ولكن في النهاية رفضت موسي لقاء رئيس الدولة..
كما سجّلت عبير موسي ظهورا قوّيا ومثيرا للجدل مع أوّل جلسة برلمانية حيث رفضت أداء اليمين الدستورية، بدعوى عدم حضور كل النواب جلسة أداء القسم و”اشتبكت” شفاهيا مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي.. كما شهدت الجلسة العامة المخصصة لانتخاب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب مشادة كلامية حادة بين النائبة عن الحزب الدستوري الحر عبير موسي والنائب عن ائتلاف الكرامة زياد الهاشمي وصلت إلى حد تبادل الشتائم… حيث قامت موسي بوصف نواب ائتلاف الكرامة بالدواعش على خلفية اتهام نواب بوجود محاولة تدليس خلال التصويت، ليجيبها النائب زياد الهاشمي عن ائتلاف الكرامة بقوله “انت الإرهاب نفسه”.. وهذا التلاسن وارتفاع منسوب التوتّر والاحتقان بين نواب الدستوري الحرّ ونواب حركة النهضة وائتلاف الكرامة خاصّة يؤشّر الى أن أيام البرلمان ستكون “ساخنة جدّا ” خلال الخمس سنوات القادمة..
كما ان مبدأ الرفض المطلق الذي لا يقبل استثناءات والذي تتبناه رئيسة حزب الدستوري الحرّ عبير موسي، وقرار الاعتزال والعزلة عن مكوّنات المشهد السياسي الذي اختاره الدستوري الحرّ كـ”سلوك سياسي” سيضع هذا الحزب الذي يعتبر اليوم قوّة برلمانية هامّة في الزاوية اذا استمرّ تعاطيه السلبي مع أحزاب الحكم والمعارضة، فاذا اختار أن يكون في المعارضة فان قواعد العمل السياسي تحتّم عليه، التقارب مع بقية قوى المعارضة حتى يكون بالفعل معارضة بناءة ومؤثّرة وليس مجرّد جبهة رفض ذات سلوك سياسي عدمي.. لأن هذه العزلة قد تقلّص تأثيره في المشهد السياسي وفي صنع القرار حتى ولو من موقع المعارضة التي بدأت تتضح ملامحها بالنسبة للفترة القادمة .

محاولة فكّ العزلة وتجاوز النبذ!
على العكس تماما من الحزب الدستوري الحرّ ، فان حزب قلب تونس يحاول بكلّ قوّة وجهد أن يفكّ العزلة من حوله بعد أن أبدت أغلب الأطراف السياسية مواقف رافضة للتعامل أو التعاطي معه رغم تموقّعه كثاني كتلة برلمانية في المجلس، ورغم حجم التمثيلية المهم الاّ ان ذلك لم يشفع للحزب للتواصل مع باقي القوى الأقّل منه حجما كما لم يمنحه مساحة في المشهد العام تجعله مؤثّرا وقوّيا وقادرا على املاء شروطه وتحديد تموقعه السياسي في الحكم او في المعارضة.
فحركة النهضة التي استعملت مخزونه البرلماني في جلسة البرلمان الافتتاحية، واستعانت به “كجوكر” لمفاجأة “أصدقائها” القدامي وأساسا حركة الشعب والتيار الديمقراطي، لتستطيع إيصال راشد الغنوشي الى رئاسة مجلس نواب الشعب، عادت من جديد لترفع في وجه قلب تونس “فيتو” المشاركة في الحكم حيث صرّح راشد الغنوشي، أن ”النهضة لن تُشارك في حكومة يُشارك فيها قلب تونس” وذلك في محاولة منه للانسجام مع مواقف الحملة الانتخابية حيث تعهّدت حركة النهضة بانها لن تتحالف مع أحزاب تلاحقها شبهات فساد في إشارة منها الى التهم التي لاحقت رئيس الحزب نبيل القروي بشان التهرّب الضريبي وتبييض الأموال، وسجنه في تلك الفترة ليعاد اطلاق سراحه قبيل الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
ورغم أن قلب تونس، نجح في مرحلة أولى في “عقد صفقة سياسية ناجحة” مع حركة النهضة مكّنته بالظفر بمقعد النائب الأوّل لرئيس البرلمان، الاّ ان ذلك لم يسعفه لرفع الفيتو عليه في تشكيل الحكومة، وحتى استقباله من طرف رئيس الحكومة المُكلّف الحبيب الجملي، كأوّل حزب سياسي، يلتقي به لقاء مطولا جمع القروي والجملي ودام اكثر من ساعتين الاّ أن ذلك لم يضعه رسميا على طاولة الأحزاب المعنية بتشكيل الحكومة بعد تمسّك أغلب الأحزاب المعنية بالحكم ومنها حركة النهضة والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحركة الشعب بـ”نبذ” قلب تونس واشتراط مشاركتها في الحكم بعدم مشاركته فيه، ليبدو لقاء الجملي بالقروي كمناورة سياسية أراد من خلالها رئيس الحكومة المُكلّف اثبات ان له استقلالية كاملة في التحادث والتشاور مع جميع الأحزاب دون استثناء، ولكن موقف حركة النهضة المتصلّب تجاه مشاركة قلب تونس في الحكومة، قد يجعل الجملي يعدّل توجهاته في اختيار فريقه الحكومي حيث لا يمكنه التضحية بكل الأحزاب مقابل الاحتفاظ بقلب تونس.
وبدا واضحا، ان لقاء الجملي بنبيل القروي، لم يذب الجليد، ولم يُسقط حواجز الرفض من حول قلب تونس، الذي ما زال يتأرّجح بين سلطة ترفضه وتنبذه أغلب مكوّناتها المحتملة، ومعارضة لن يقوى على الصمود فيها كحزب ، حيث يهدّد اختيار صفّ المعارضة وحدة الحزب وتماسكه الداخلي وهو الذي ضمّ شخصيات معروفة بحبّها للسلطة وللتموقع، ناهيك وانه ينهل مباشرة من رصيد حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 والخائب في انتخابات 2019.
وفي كلتا الحالتين، تبدو وضعية “قلب تونس” معقّدة، وهو ممزّق بين سلطة يريدها ويملك مؤهلاتها من خلال تمثيليته البرلمانية ولكنها تنبذه وتلفظه، وبين معارضة يبدو حسابيا بعيدا عنها ولكنها تتربّص به كقدره وتضعه في امتحان تماسك داخلي صعب قد لا يصمد خلاله، ومثله الحزب الدستوري الحرّ ، الذي اختار المعارضة، ولكن أي معارضة يريد وهو الذي اعتزل الجميع ورفض التواصل مع الجبهة فهل يستطيع بـ17 نائبا فقط أن يقف كحزب معارض قوّي في وجه أغلبية حاكمة يعاديها أيديولوجيا وسياسيا؟ وبينه وبينها خصومة “تاريخية” قبل أن تكون خصومة رؤى وبرامج.

الصباح نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *