اتسعت موجة احتجاجات الخبز في السودان أمس، ووصلت إلى العاصمة الخرطوم؛ حيث استخدمت قوات الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق محتجين قرب القصر الرئاسي. كما فرضت السلطات حظر التجول في مدينة القضارف (شرق)، التي شهدت مظاهرات عنيفة، أحرق خلالها المحتجون الغاضبون عدداً من المرافق، لتضاف إلى مدينة «عطبرة» التي فُرضت فيها الأحكام العرفية، وأغلقت مدارسها، إثر إشعالها شرارة الاحتجاجات في البلاد. ورفعت القوات الأمنية درجة استعدادها إلى اللون «الأحمر» في الخرطوم.

وحسب آخر التقارير، أسفرت المواجهات بين المحتجين وقوات الشرطة إلى سقوط عدد من القتلى، تراوحت بين 6 إلى 8 على الأقل، وعشرات الجرحى في مختلف ولايات البلاد. واضطرت السلطات إلى إعلان حالة الطوارئ في مدينة واحدة بشمال البلاد على الأقل، وحظر التجول في أخرى. ولم يصدر تعليق رسمي على الأحداث أو أعداد القتلى والجرحى.

وتواصلت الاحتجاجات التي اشتعل فتيلها أول مرة في مدن عطبرة والدامر وبربر (شمال السودان)، وبورتسودان (شرق)، والنهود (غرب)، لتنضم إليهم مدن القضارف (شرق)، وكوستى وسنار (جنوب)، ودنقلا وكريمة والمتمة والباوقة (شمال). وذلك حسب بيان صادر عن حزب «الأمة» القومي المعارض. ووصلت الاحتجاجات أمس، العاصمة الخرطوم؛ حيث شهدت احتجاجات في شارع الجامعة، سارعت قوات مكافحة الشغب إلى تفريقها، ما أدى إلى وقوع إصابات جراء استخدام الرصاص المطاط. وشهدت الاحتجاجات عمليات «حرق رمزية» لمكاتب «الحزب الحاكم» ومكاتب إدارية حكومية.

وبات متوقعاً أن تتصاعد وتيرة الاحتجاجات في المدن السودانية، وخاصة الخرطوم، اليوم، بعد صلاة الجمعة، في الوقت الذي انتشرت فيه أعداد كبيرة من الشرطة في أنحاء المدينة، ولوحظ انتشار أفرادها بثياب مدنية على عربات نصف نقل يجوبون الطرقات وبأيديهم أسلحة خفيفة، إضافة إلى تشديد إجراءات التأمين بقوات كبيرة وبشكل لافت في كثير من المناطق الاستراتيجية، ونقلت مواقع صحافية أن القوات الأمنية رفعت درجة استعدادها إلى اللون «الأحمر»، لمواجهة السخط الشعبي والاحتجاجات.

وخرج طلاب جامعة الخرطوم، القريبة من القصر الرئاسي، في مظاهرة شارك فيها مئات الطلاب، وأغلقوا «شارع الجامعة» وكادت تصل القصر الرئاسي، بيد أن قوات الشرطة فرّقتها بالغاز المسيل للدموع، كما سد طلاب جامعة النيلين شارع الحرية والشوارع الفرعية، هاتفين «سلمية سلمية ضد الحرامية، والشعب يريد إسقاط النظام»، ومظاهرات أخرى متفرقة، ويقدر عدد المشاركين في كل مظاهرة بالمئات.

وشهدت مدينة «القضارف» أعنف المظاهرات، أحرق خلالها المحتجون الغاضبون عدداً من المرافق.

وبحسب لجنة الأطباء المركزية، وهي تجمع طبي معارض، فإن 6 أشخاص على الأقل لقوا مصرعهم، 3 منهم في مدينة القضارف، أصيب أحدهم بالرصاص، حسب غرفة العمليات بالمستشفى، فيما توفي متظاهر واحد في مدينة بربر (شمال البلاد)، ولقي تلميذان مصرعهما في مدينة «كريمة»، بيد أن شهود عيان ذكروا أن القتلى في القضارف وحدها بلغوا 7، ولم يصدر تأكيد بأعداد الضحايا من جهة رسمية.

وذكرت اللجنة أن طوارئ مستشفى مدينة القضارف تلقت 3 إصابات بطلق ناري في البطن، وإصابتين في الصدر، وعدداً من الإصابات في الأرجل، وإصابة طالب بجامعة الخرطوم برصاصة مطاطية في الرأس، ويعاني طالب آخر من كسور تحتاج لبتر.

وتجددت الاحتجاجات في عطبرة شمالي البلاد لليوم الثاني، وواصلت التنديد بالغلاء وتردي الأوضاع الاقتصادية على الرغم من حالة الطوارئ التي أعلنت في الولاية، وتراجع السلطات عن أسعار الخبز التي أعلنتها وفجرت الغضب الشعبي، كما واصلت مدينة بورتسودان بشرق البلاد الاحتجاج لليوم الثاني على التوالي، وانضمت للاحتجاجات مدن «بربر، المتمة، الباوقة» بشمال البلاد.

وبحسب شهود، شهدت مدينة «دنقلا» شمالي السودان، احتجاجات عنيفة، أحرقت خلالها الجماهير الغاضبة مقر «الحزب الحاكم»، ومبنى إدارياً، ومحطة وقود، بحسب والي ولاية نهر النيل حاتم الوسيلة، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية. وفي مدينة الدامر (زهاء 300 كيلومتر شمال الخرطوم)، أحرق المحتجون مقر الحزب الحاكم بالمدينة.

وتناقلت وسائط التواصل الاجتماعي السودانية، أعداداً كبيرة من الفيديوهات والصور للاحتجاجات، تضمنت عمليات لإحراق مقار الحزب الحاكم، وصوراً لأشخاص مصابين بالرصاص، ودعوات من مؤيدين للحكم بحسم المتمردين.

ودعت أحزاب معارضة ومشاركة في الحكومة قواعدها للمشاركة في الاحتجاجات، فيما أقرّ حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم بحق المواطنين في التعبير، بيد أنه استنكر ما أسماه «محاولة زعزعة الأمن والاستقرار» وممارسة التخريب، وقال المتحدث باسمه إبراهيم الصديق في تصريحات نقلتها الوكالة الرسمية أول من أمس: «من حق أي مواطن التعبير عن رأيه سلمياً، ولكن ما جرى في عطبرة لا يتسق مع مفهوم السلمية». وأضاف أن ما شهدته مدينة عطبرة محاولة من «فئة محدودة» لم يسمها تسعي لـ«إشعال الفتنة بتدبير من حزب عقائدي عجوز، هدفه الأساسي أن يعيش الوطن في حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي»، وهي إشارة صريحة للحزب الشيوعي السوداني، الذي تعد «عطبرة» أحد معاقله الرئيسة.

ولم تصدر تعليقات رسمية على تصاعد الاحتجاجات طوال اليوم، لكن مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن وقوف أفراد من الجيش إلى جانب المواطنين في بعض المدن، فيما نقلت «فيديو» للاحتجاجات يطالب فيه شخص مجهول الشرطة بضرب المحتجين، كما تناقلت تصريحات لمسؤولين ولائيين هددوا فيها المواطنين «بالبتر» حال خروجهم في مظاهرات.

واعتبر وزير المالية، معتز موسى، الأزمات التي تشهدها البلاد والارتفاع الكبير في أسعار السلع والخدمات، وشح النقود والوقود والخبز والأدوية، تحديات أساسية، وواقعاً يستحق التنويه.

وأرجع الرجل الذي يشغل في الوقت ذاته منصب رئيس الوزراء، ما يحدث في البلاد إلى اختلالات موروثة في الاقتصاد، واصفاً الحالة السودانية بأنها نادرة، وقال: «توجد وفرة، لكن كل شيء غالٍ، وهذا تشوه في الاقتصاد». وقال في لقاء مع الصحافيين أول من أمس: إن أزمة السيولة وشح النقود في البلاد، تسبب فيها تزايد نمو الاقتصاد، دون حدوث نمو مماثل في حجم الكتلة النقدية، وتعهد بطباعة فئات أعلى من العملات لمواجهة الأزمة.

وعزا موسى نقص الخبز وارتفاع أسعاره إلى الفرق بين السعر المدعوم وأسعار السوق الحرة، وقال: إن المخابز لا تلتزم بالكميات المدعومة، وتبيع الدقيق المدعوم بالسعر الحر، رغم أن حكومته تدعم الخبز بنحو 35 مليون جنيه يومياً تذهب إلى غير المستحقين.

وبرر الوزير الأزمة الطاحنة في الوقود إلى «التهريب»؛ لأن حكومته تبيع المشتقات البترولية بأسعار تبلغ أقل من 10 في المائة من قيمتها في السوق الدولية؛ ما يشجع تهريبها داخلياً وخارجياً، وذهابها إلى جهات لا تفيد اقتصاد البلاد، وقال: «نحن في حاجة إلى ضبط وتوجيه دعم الوقود».

واتهم موسى من أطلق عليهم «السماسرة والوسطاء» بالتلاعب بأسعار العملات الأجنبية، والتسبب في تآكل قيمة الجنيه السوداني، وفي رفع أسعار السلع والمنتجات بما يضر بالمنتج والمستهلك معاً.

ووجّه تحذيرات حادة لتجار العملات، وهدد بسنّ قوانين صارمة لمواجهتهم، بعد أن اتهمهم بتكوين «شبكة مؤسسة»، وقال: «تجار العملة معروفون، وعليهم الخروج من السوق السوداء إلى العلن وفتح صرّافات لتبديل العملات بالأسعار المعلنة. ومنذ بداية هذا العام، ظلت الأسواق تشهد ارتباكاً لم يشهده تاريخ السودان الحديث، وخلال الأسبوع الماضي وحده خسر الجنيه السوداني خلال ساعات نحو 20 في المائة من قيمته، وتضاعفت تبعاً لذلك أسعار السلع بصورة جنونية. وعانت البلاد من ندرة غير معهودة، وشحت فيها السلع الرئيسية؛ ما حول حياة الناس إلى «جحيم من طوابير النقود والوقود والخبز»، فعمّ بينهم غضب مكتوم تفجّر في الاحتجاجات الأخيرة.

وبسبب الأزمة، تراصت السيارات في محطات الخدمة في انتظار الوقود «شبه المعدوم»، وغابت وسائط النقل العام، وتكدس الآلاف من العائدين إلى منازلهم في المواقف العامة بانتظار حافلة نقل لا تأتي، فاضطرت الحكومة إلى توجيه الهيئات الحكومية وأجهزة الأمن لنقل المواطنين في حافلاتها.

ولا تزال «الطوابير» مكدسة أمام ماكينات صرف النقود الآلية للحصول على بعض أموالهم المودعة في البنوك دون جدوى، في حين امتلأت المخابز بالحالمين بـ«كسرة خبز»، والسعيد فيهم من يحصل على «رغيفة» هزيلة لا تشبع جوع طفل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *