في تحقيق مطول، رصدت صحيفة الغارديان البريطانية نشأة وتطور حركة مقاطعة إسرائيل، التي تعرف اختصاراً باسم “بي دي إس”.

 

وفي التقرير الذي أعده نيثان ثرول، يمكن للقارئ العودة لجذور النشاط الفلسطيني لمواجهة الاحتلال بداية، ثم توافد النشطاء الدوليين للتظاهر في الأراضي المحتلة، ليتطور الأمر إلى حركة منظمة تنشط في عدد كبير من مناطق العالم، وخصوصا العالم الغربي.

 

ويشار إلى أن هذه الظاهرة تسببت بقلق إسرائيلي من نتائجها، ما دفع الحكومة الإسرائيلية لوضع خطط لمواجهتها، كما بدأت بإبعاد النشطاء في الحركة ومنعهم من الدخول، كما تحركت الإدارة الأمريكية، وخصوصا على مستوى الولايات، لوضع إجراءات وقوانين تحظر المقاطعة، سواء كان على مستوى الشركات أو في المؤسسات التعليمية.

 

وفيما يلي الجزء الأول لتحقيق صحيفة الغارديان:

 

بي دي إس (حملة مقاطعة إسرائيل): كيف تمكنت حركة غير عنفية مثيرة للخلاف من إحداث تحول في الجدل الإسرائيلي الفلسطيني؟

ترى إسرائيل في حملة المقاطعة الدولية خطراً وجودياً محدقاً بالدولة اليهودية. أما الفلسطينيون فيرون فيه ملاذهم الأخير

ما فتئت حركة مقاطعة إسرائيل، التي تعرف اختصاراً باسم “بي دي إس” (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، تدفع بالعالم نحو قليل من الجنون. فمنذ تأسيسها قبل 13 عاماً، كونت الحركة لنفسها من الأعداء تقريباً بقدر ما لدى الإسرائيليين والفلسطينيين مجتمعين من الأعداء. لقد أعاقت الحركة جهود الدول العربية لإنهاء مقاطعتها هي، والتي استمرت لعقود في سبيل مزيد من التعاون المكشوف مع إسرائيل، وعيّرت حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله من خلال تنديدها بتعاونها الأمني والاقتصادي مع الجيش الإسرائيلي وإدارته العسكرية، بل وأزعجت منظمة التحرير الفلسطينية بسطوها على موقعها كممثل شرعي للفلسطينيين ومدافع عنهم يحظى بالاعتراف الدولي حول العالم.

ثم أسخطت (الحركة) الحكومة الإسرائيلية من خلال سعيها لتصويرها كما لو كانت مصابة بالجذام في أعين الليبراليين والتقدميين، وأغاظت ما تبقى من معسكر السلام الإسرائيلي من خلال دفعها الفلسطينيين للانتقال من خوض نضال ضد الاحتلال إلى خوض نضال ضد التمييز العنصري، وحفزت على شن حملة مضادة معادية للديمقراطية من قبل الحكومة الإسرائيلية، لدرجة أرعبت الليبراليين الإسرائيليين خوفاً على مستقبل بلدهم. وسببت صداعاً كبيراً للحكومات المانحة للفلسطينيين في أوروبا، والتي تتعرض للضغط من قبل إسرائيل حتى لا تتعامل مع المنظمات التي تدعم حركة “بي دي إس” داخل المناطق الفلسطينية، وهو طلب مستحيل إذا ما أخذنا بالاعتبار حقيقية أن جميع مؤسسات المجتمع المدني الرئيسية تقريباً في غزة والضفة الغربية تؤيد هذه الحركة.

في زمن تتحمل فيه المؤسسات التجارية مسؤوليات اجتماعية، شهّرت حركة “بي دي إس” ببعض كبار المؤسسات التجارية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي (مثل إير بي إن بي، ري/ماكس، إتش بيه)، وساعدت على دفع مؤسسات كبيرة أخرى نحو الخروج من الضفة الغربية. وسببت إزعاجاً كبيراً للمنظمات الأكاديمية والرياضية من خلال تسييسها ومطالبتها باتخاذ موقف تجاه الصراع وما ينجم عنه من شقاق كبير. وأغضبت الموسيقيين والفنانين الفلسطينيين الذين يعملون مع المؤسسات الإسرائيلية، إذ اتهمتهم بتوفير غطاء فلسطيني لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل.

وفي بريطانيا، أوجدت حركة “بي دي إس” حالة من الهيجان والاضطراب داخل المحاكم والمجالس المحلية، وأدخلتها في نزاعات حول مدى قانونية المقاطعة المحلية للبضائع الواردة من المستوطنات. أما في الولايات المتحدة، فقد تسببت حركة “بي دي إس” في إجازة ما لا يقل عن عشرين ولاية لمشاريع قوانين أو في إصدار أوامر تحظر مقاطعة إسرائيل أو مستوطناتها، أو تجرم من يفعل ذلك وتعاقبه، الأمر الذي أدخل حلفاء إسرائيل في خصومة مع المدافعين عن حرية التعبير، مثل اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، وأطلقت العنان للجدل داخل الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة، والتي قام بعض كبار الكنائس منها بسحب استثماراتهم من الشركات التي تجني أرباحاً من الاحتلال. وباتت لعنة على إدارات الجامعات التي أجبرت على التعامل مع الشكاوى التي يتقدم بها أساتذة وطلاب في جامعاتهم؛ يتظلمون من أن حريتهم في التعبير تتعرض للجم والمصادرة، وكذلك مع مزاعم الصهاينة من المتبرعين للجامعات ومن الطلبة فيها بأن حرم الجامعة لم يعد حيزاً “آمناً” بالنسبة لهم. وجذبت الليبراليين باتجاه دعم أكبر للفلسطينيين، مما حول إسرائيل وبشكل متزايد إلى قضية حزبية في الولايات المتحدة؛ ترتبط بالديمقراطيين أقل مما ترتبط بترامب والمسيحيين التبشيريين واليمين المتطرف.

 

انقسام بين اليهود

وفي أوساط الشتات اليهودي، أوجدت حركة “بي دي إس” انقسامات جديدة داخل يسار الوسط الذي يتعرض لضغوط شديدة من قبل اليمين والحكومة الإسرائيلية المساندة للاستيطان من جهة، ومن قبل اليسار غير الصهيوني من جهة أخرى. وقد دفع ذلك الصهاينة الليبراليين نحو التساؤل لماذا يقبلون في بعض الأحيان بمقاطعة المنتجات الواردة من المستوطنات، ولكن لا يقبلون بمقاطعة الدولة التي أوجدتها وتمدها بمقومات الحياة؟ وأجبرت أنصار إسرائيل الأكثر انتقاداً لها على تبرير معارضتهم لممارسة أي من أشكال الضغط السلمي على إسرائيل، في حين أن غياب الضغط الحقيقي لم يفعل شيئاً لإنهاء الاحتلال أو التوسع الاستيطاني. وهذا يضع المسؤولية على عاتق الصهاينة الليبراليين إزاء الدفاع عن مساندتهم، ليس لفكرة ما الذي يأملون أن تؤول إليه إسرائيل في يوم من الأيام، ولكن للممارسات الفعلية التي تصدر عن الدولة، بما في ذلك مصادرة أراضي الفلسطينيين لبناء المستوطنات اليهودية عليها، واعتقال المئات من الفلسطينيين دون محاكمة أو توجيه تهم لهم، وإنزال العقاب الجماعي بحق ما يقرب من مليوني إنسان يعيشون تحت حصار مضى عليه أكثر من عقد من الزمن، وانعدام المساواة في كل مناحي الحياة بين اليهود والفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل. لقد حرمت حركة “بي دي إس” أنصار إسرائيل الليبراليين من إيجاد مبرر مفاده أن الاحتلال الشاذ أو الحكومات اليمينية هي المسؤولية بشكل أساسي عن ممارسات الدولة غير الديمقراطية.

ولعل الأهم من كل ذلك أن حركة “بي دي إس” تحدت حل الدولتين الذي بات محل إجماع لدى المجتمع الدولي. وبهذا تكون قد أزعجت قطاعاً بأسره قام على أساس عملية السلام في الشرق الأوسط، ويشتمل على المنظمات غير الربحية والبعثات الدبلوماسية ومؤسسات البحث والدراسات؛ لأنها تقوض الفرضية الذي قامت عليها، ومفادها أن الصراع يمكن أن يجد طريقه إلى الحل ببساطة من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والقدس الشرقية وبقية الضفة الغربية، دون التطرق إلى قضية حقوق مواطني إسرائيل من الفلسطينيين وحقوق اللاجئين.

بالنسبة لكثير من يهود الشتات، باتت حركة “بي دي إس” رمزاً للشر ومستودعاً للرعب، وقوة شريرة تنقل الجدل الإسرائيلي الفلسطيني من تفاوض لإنهاء الاحتلال ولتقسيم الأرض إلى جدل حول الجذور الأقدم والأعمق للصراع: أي التهجير القسري لمعظم الفلسطينيين وإقامة الدولة اليهودية على أنقاض قراهم التي تعرضت للغزو والقهر. لقد أعاد بروز حركة “بي دي إس” إلى الحياة أسئلة قديمة حول شرعية الصهيونية، وكيف يمكن تبرير تفضيل حقوق اليهود على حقوق غير اليهود، ولماذا يستطيع اللاجئون في الصراعات الأخرى العودة إلى ديارهم ولكن ليس في هذا الصراع. والأهم من ذلك كله، أنها سلطت الضوء على قضية شائكة لا يمكن بحال تجاهلها إلى الأبد، ألا وهي ما إذا كان بإمكان إسرائيل – حتى فيما لو انتهى احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة – أن تكون ديمقراطية ودولة يهودية في نفس الوقت.

 

مقاومة سلمية

في مدينة بيت لحم القديمة، وعلى امتداد ممر القناطر القريب من السوق ومن ميدان المهد، يرتفع مبنى مشيد من الحجر الجيري عمره مئات السنين؛ يؤوي الآن المقر الرئيسي لمنظمة فلسطينية اسمها أمانة الأراضي المقدسة، وهي منظمة مكرسة لمقاومة الحكم الإسرائيلي سلمياً. يوجد في الطابق العلوي مكتب لمؤسس هذه المنظمة غير الربحية، واسمه سامي عوض. تغطي رفوف المكتب مؤلفات لكبار المنظرين والنشطاء في وسائل الاحتجاج والعصيان المدني، مثل جين شارب، والمهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ الابن، وكل هؤلاء تتجلى بشكل واضح تجاربهم وآراؤهم فيما يلقيه (عوض) من محاضرات أو ما ينشره من كتابات، بل وحتى في معرض حديثه العادي مع الآخرين.

كثيراً ما يلتقي سامي عوض مع وفود من اليهود الإسرائيليين والأمريكيين، وعلى غير ما هو معهود لدى كثير من النشطاء الفلسطينيين، لا تجده يتحرج من الحديث عن الصلة اليهودية بأرضه، حيث يقول: “بإمكاني أن أنكرها حتى قيام الساعة. ولكنها راسخة جداً وعاطفية جداً”. في نفس الوقت تجده يتحدث بصراحة عن الاحتلال وعن العنصرية، بينما يصر على أن إسرائيل لن تمنح الفلسطينيين الحرية ما لم تجبر على ذلك، وقال لي: “لا يوجد أبداً جماعة مستبدة تقرر بنفسها الالتزام بالمعايير الأخلاقية وتغيير سلوكها. لا بد من أن يحدث شيء ما: حراك، مقاومة، مقاطعة”.

لم يفتأ اليهود والعرب يقاطع بعضهم بعضاً منذ الأيام الأولى للصهيونية. وفي السنوات التي سبقت تأسيس إسرائيل، شنت الحركة الصهيونية حملات لمقاطعة العمال العرب، ورفض المنتجات الزراعية العربية، واستثناء العرب من التجمعات السكانية المخصصة لليهود دون غيرهم، وتحريم بيع العرب أراضي مملوكة لليهود. وفي عام 1922، دعا مؤتمر فلسطين العربي الخامس إلى مقاطعة البضائع اليهودية، ثم بعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، قاطع المحامون الفلسطينيون المحاكم الإسرائيلية، ونظم المدرسون إضراباً تحت شعار “لا تعليم تحت الاحتلال”، فردت إسرائيل على هذه وعلى غيرها من أعمال العصيان المدني بالاعتقالات والغرامات، وفرض القيود على الحركة والسفر، وإغلاق الدكاكين وحظر التجول، بل وإبعاد المدرسين والمحامين ورؤساء البلديات ورؤساء الجامعات.

كان مبارك عوض، وهو عم سامي، واحداً من رواد المقاومة الفلسطينية السلمية في ثمانينيات القرن الماضي. ومما فعله (مبارك) عوض أنه حث الفلسطينيين على إعادة الفواتير التي تكتب فقط باللغة العبرية، وعلى رفض الاستدعاءات التي تأتيهم من المحاكم، وعلى رفع العلم الفلسطيني، وهو الفعل الذي كان ينتهي بصاحبه إلى السجن. واستلهاماً لتجربة غاندي في مقاطعة القماش البريطاني، شجع على استبدال المنتجات الإسرائيلية بمنتجات فلسطينية.

من الانتفاضة إلى المقاطعة

 

إلا أن البرنامج الذي دعا إليه مبارك عوض وروج له غيره من النشطاء لم يجد فرصة للتبني والتنفيذ بشكل كامل؛ إلا عندما بدأت الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال في عام 1987. حينها بدأ، وعلى نطاق واسع، استخدام الوسائل والآليات التي طالما دعا إليها داخل غرف الدراسة ومن خلال الدوريات الأكاديمية، وذلك بفضل الحركة الشعبية التي حظيت بدعم ومساندة الأحزاب السياسية الرئيسية، فقاطع المستهلكون البضائع والخدمات الإسرائيلية، واستنكف عمال القطاع الصناعي الإسرائيلي عن الذهاب إلى العمل، وأغلقت الدكاكين أبوابها بشكل جماعي، وسحب الزبائن أموالهم من المصارف الإسرائيلية، ورفض السكان دفع الضرائب واستقال معظم جباة الضرائب ورجال الشرطة من الفلسطينيين. وذكر بنك إسرائيل حينها أن إسرائيل تكبدت، بسبب مقاطعة الفلسطينيين، 650 مليون دولار أمريكي (أي ما يعادل 1.4 مليار دولار بقيمة اليوم)، فقط في السنة الأولى من الانتفاضة. وُجهت إلى مبارك عوض تهمة “إشعال التمرد ضد الدولة”. ومثله مثل العشرات الآخرين، أبعدته إسرائيل خلال السنة الأولى من الانتفاضة.

أرسل سامي عوض من قبل والديه إلى كانساس لإكمال دراسته، وعندما عاد إلى بيت لحم في عام 1996، كانت المدينة قد تغيرت وتبدلت بسبب عملية أوسلو للسلام. فقد انتقل الآلاف من مسؤولي منظمة التحرير ومقاتليها من المنافي في العالم العربي؛ إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحوا الآن موظفين في الإدارة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثاً. استبدلت ثقافة المقاومة بثقافة التعايش، وترعرعت حينها صناعة السلام بفضل تدفق الأموال الأجنبية لتمويل جماعات الحوار والمبادرات التي كانت تنبثق عن المنظمات غير الحكومية وبين الناس من الطرفين.

ومثله مثل معظم الفلسطينيين، كان سامي عوض متفائلاً يرنو إلى السلام الذي بات وشيكاً. إلا أن تفاؤله تبدد خلال عامين، فالإدارة الفلسطينية الناشئة التي تأسست بعد توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 بدت أبعد ما تكون عن المنظومة الديمقراطية التي يمكن أن تؤدي إلى بلد مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأقرب إلى دولة بوليسية آخذة في التضخم. كان يسمع كلاماً لا ينتهي عن السلام والتعايش، ولكن ما كان يراه على الأرض كان مزيداً من العزل وفرض القيود على حريته. كانت الأراضي الفلسطينية المحكومة ذاتياً في الضفة الغربية عبارة عن جزر صغيرة مقطعة الأوصال، تعدادها 165، تحاط كل منها ببحر من الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وضمن هذا البحر من الأراضي – التي تشكل ما نسبته 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية ويحظر دخولها على الحكومة الفلسطينية – ذهبت إسرائيل لتصادر الأراضي لإنشاء المستوطنات وتهدم المباني الفلسطينية، وتقدم الحوافز المالية لزيادة عدد السكان داخل المستوطنات. بدأ سامي عوض يتساءل: إذا كانت أوسلو هي الطريق إلى حل الدولتين، فهل يرغب فعلاً في الوصول إلى الوجهة التي ينتهي إليها ذلك الطريق؟

وعندما اندلعت الانتفاضة الثانية، في أيلول/ سبتمبر من عام 2000، بما شهدته من تفجيرات انتحارية فلسطينية واعتداءات إسرائيلية وهجمات بالصواريخ، توقف تماماً الحوار، وانتهت مبادرات صنع السلام التي كانت تقوم بها مجموعات مثل أمانة الأراضي المقدسة. وأصبح التركيز، بالنسبة لسامي عوض، ينصب على المقاومة السلمية، والتي لم تكن حينها تحظى بالشعبية ولم تكن بأي حال بسيطة. كانت تلك أكثر الفترات دموية في تاريخ الاقتتال الإسرائيلي الفلسطيني منذ حرب عام 1948. فقد قتل في المواجهات ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني وألف إسرائيلي. وبسبب عسكرة الانتفاضة، أصبحت مواجهة إسرائيل بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك المقاومة السلمية، أمراً في غاية الخطورة.

ورغم ذلك، تمكن سامي عوض وغيره من النشطاء من اقتطاع حيز ضئيل للمقاومة السلمية. ولقد تظاهر احتجاجاً على مصادرة الأراضي في الضفة الغربية، ثم بعد عام 2002، تظاهر ضد بناء ما يطلق عليه الإسرائيليون السياج الأمني ويطلق عليه الفلسطينيون جدار التمييز العنصري. إنه حاجز مكون من مزيج من الجدر المصنعة من الكتل الخرسانية التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية أمتار، ومن السياجات والأسلاك شائكة. يخترق هذا الحاجز الضفة الغربية والقدس، فيفصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ويعزل القرويين عن قراهم. ولقد نجم عن الجدار ضم فعلي لما يقرب من 10 في المئة من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وفي القدس الشرقية عزل الجدار ثلث السكان الفلسطينيين تقريباً عن مدارسهم وعياداتهم الطبية وأماكن عملهم. ويمكن للمرء أن يشاهد حشود المقدسيين وسكان الضفة الغربية عند الساعة الرابعة والخامسة فجراً وهم يحشرون كالماشية عبر نقاط تفتيش أشبه بالأقفاص، حتى يعبروا إلى الجهة الأخرى من الجدار.

ومع تصاعد العنف في الانتفاضة الثانية، نمت الحملة الدولية للتضامن مع الفلسطينيين. ففي الشهور الأولى من الانتفاضة، أقام الطلاب في جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي نقاط تفتيش شكلية، ورفعوا يافطات طالبوا من خلالها بسحب الاستثمارات من إسرائيل، دولة الأبارتيد (التمييز العنصري). وفي عام 2002، وقعت هيئة التدريس في جامعة هارفارد على عريضة تطالب بسحب الاستثمارات من إسرائيل. وأما في مدينة ديربن، في جنوب أفريقيا، فطالب ممثلو ما يقرب من ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية كانوا يشاركون في مؤتمر دولي ضد العنصرية برعاية الأمم المتحدة؛ “المجتمع الدولي بفرض سياسة العزل الكامل والتام ضد إسرائيل باعتبارها دولة أبارتيد (تمييز عنصري)”. ما لبثت حملات المقاطعة والمطالبة بسحب الاستثمارات أن انتشرت في أرجاء جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، وحازت على دعم العديد من الأكاديميين الإسرائيليين، وأعداد ضخمة من الفلسطينيين.

وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، ذهب النشطاء الدوليون والإسرائيليون يعلنون دعمهم وتأييدهم، وكان لوجودهم في العادة دور مهم في حمل الجيش الإسرائيلي على التصرف بدرجة أكبر من الحذر، الأمر الذي وفر قدراً من الحماية للمتظاهرين الفلسطينيين. كان سامي عوض ما يزال حينها يعمل مع الإسرائيليين، ولكنه بات يصر على أن أي تعاون معهم ينبغي أن يقوم ليس على التعايش، وإنما على التعاون في المقاومة، على أن يتقدم الفلسطينيون الصفوف. تعرض لإطلاق الغاز المسيل للدموع، وكذلك للضرب ثم الاعتقال، حاله في ذلك حال غيره من أعضاء الجماعات النشطة في هذا المجال، مثل حركة التضامن الدولي، والفرق المسيحية لصنع السلام، وحركة “فوضويون ضد الجدار” التي يقودها إسرائيليون.

بعد قضاء أسبوع أو أكثر بين القرويين الفلسطينيين، كان النشطاء الأجانب يعودون إلى جامعاتهم وكنائسهم ونقاباتهم العمالية، ليتحدثوا عن وجود حركة فلسطينية للمقاومة السلمية قلما سمع بها الناس، مؤكدين على أن هذه الحركة يمكن أن تُسند وتُدعم من خلال مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها. كانت أول عملية سحب للاستثمارات تقوم بها مؤسسة علمية جامعية في الولايات المتحدة هي تلك التي بادرت بها كلية ساوث هامبشاير، علماً بأنها كنت أيضاً الجامعة الأمريكية الأولى التي تسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا في عهد نظام التمييز العنصري. والذي قاد هذه المبادرة كان طالب بكالوريوس إسرائيلي اسمه ماتان كوهين، والذي أصيب حينما كان في السابعة عشرة من عمره برصاصة في عينه أطلقها عليه جندي إسرائيل بينما كان يتظاهر ضد حاجز العزل. وهكذا، مهد النشاط السلمي المرافق للانتفاضة الثانية السبيل لما أصبح من بعد حملة عالمية لمقاطعة إسرائيل.

 

و في ما يلي الجزء الثاني من ترجمة “عربي21” لتحقيق صحيفة الغارديان:

بي دي إس (حملة مقاطعة إسرائيل): كيف تمكنت حركة غير عنفية مثيرة للخلاف من إحداث تحول في الجدل الإسرائيلي الفلسطيني؟

ترى إسرائيل في حملة المقاطعة الدولية خطراً وجودياً محدقاً بالدولة اليهودية. أما الفلسطينيون فيرون فيها ملاذهم الأخير

 

تأسست حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات “بي دي إس” بإعلان بيان مبادئ عرف باسم “نداء بي دي إس” في التاسع من تموز/ يوليو من عام 2005، وكان ذلك بمثابة الملاذ الأخير. فقد تعرض الفلسطينيون لهزيمة ساحقة على أيدي الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية، وتوفي رمز الحركة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات. وأما خلفه محمود عباس، فكان أكثر الناس التصاقاً بعملية أوسلو للسلام من أي فلسطيني آخر. بدت زعامة عباس كما لو أنها تبشر باستراحة من العنف، ولكنها في نفس الوقت وعدت بالعودة إلى استراتيجية النشاط الدبلوماسي والتعاون، وهي الاستراتيجية التي لم تجد نفعاً في إنهاء الاحتلال. لو أريد للضغط أن يمارس على إسرائيل لمنح الفلسطينيون حريتهم، فلا مفر من أن يأتي الضغط من القواعد الجماهيرية ومن الخارج.

صدر نداء “بي دي إس” بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للرأي الاستشاري التاريخي الصادر عن محكمة العدل الدولية، وكانت المحكمة قد قررت أن الجدار الفاصل الإسرائيلي لم يكن قانونياً، وأنه يتوجب على إسرائيل تفكيكه فوراً وتقديم تعويضات لأولئك الذين تضرروا بسببه، وأن كل دولة موقعة على معاهدة جنيف الرابعة وهذا يعني تقريباً أن كل دول العالم ملزمة بضمان أن تتقيد إسرائيل بالقانون الدولي الإسرائيلي. إلا أن إسرائيل تجاهلت الحكم الصادر عن المحكمة، ولم تبادر لا منظمة التحرير ولا المجتمع الدولي ببذل أي مسعى حقيقي لتنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة. وفي هذا السياق، قالت لي إنغريد جرادات، وهي واحدة من الأعضاء المؤسسين لحملة “بي دي إس”: “لو أنه صدر عن المجتمع الدولي إجراء لتطبيق قرار محكمة العدل الدولية لما وُجد نداء بي دي إس”.

بادر ما يزيد على 170 من المنظمات الفلسطينية داخل المناطق المحتلة وفي إسرائيل وفي الشتات إلى إقرار نداء “بي دي إس”. تنتمي هذه المنظمات إلى كافة ألوان الطيف، ففيهم الإسلاميون واليساريون وأنصار حل الدولتين وأنصار حل الدولة الواحدة. واشتملت القائمة أيضاً على القوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية – الكيان الذي ينسق مع كافة الأحزاب السياسية المهمة – إضافة إلى النقابات المهنية البارزة ولجان مخيمات اللاجئين وجمعيات الأسرى، والمراكز الفنية والثقافية، وجماعات المقاومة السلمية، بما فيهم أمانة الأراضي المقدسة التي يرأسها سامي عوض. والآن، يشكل 29 من هذه الكيانات اللجنة الوطنية لـ”بي دي إس”، أو ما يعرف اختصاراً باسم “بي إن سي”، وهو بمثابة المجلس القيادي لهذه الحركة. 

 

حملات منظمة

لم يكن الإبداع الأهم لنداء “بي دي إس” متمثلاً في الأساليب التي دعت الحركة إلى انتهاجها. ففكرة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات كانت قد انتشرت على نطاق واسع في عام 2005، بل تم من قبل اقتراح تطبيق العقوبات وحظر السلاح، بما في ذلك من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. ما كان جديداً في موضوع “بي دي إس” هو أنها لجأت إلى تنظيم حملات مختلفة للضغط على إسرائيل ووحدت كلمتها حول ثلاثة مطالب واضحة، يناط بكل واحدة منها مكون رئيسي من مكونات الشعب الفلسطيني. أولاً، الحرية لسكان المناطق المحتلة، وثانياً، المساواة لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين، وثالثاً، العدل للاجئين الفلسطينيين في الشتات – وهي المجموعة الأضخم – بما في ذلك حقهم في العودة إلى ديارهم.

كان نداء “بي دي إس” بمثابة تحد ليس فقط لإسرائيل، بل أيضاً للقيادة الفلسطينية، حيث مثل إعادة تأطير مفاهيمي للنضال الوطني، وجاء أكثر انسجاماً مع المواقف الأصلية لمنظمة التحرير، قبل أن تجبر من خلال إلحاق الهزيمة العسكرية بها وبسبب الضغوط الدولية وبفعل البراغماتية السياسية؛ على التخلي عن هدف إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة والخضوع لفكرة حل الدولتين بديلاً عن ذلك. أرادت القوى الدولية تصوير حل الدولتين كما لو كان هدية تمنح للشعب الفلسطيني، ولكن الهدية من وجهة نظر الفلسطينيين كانت بوضوح ممنوحة لإسرائيل؛ لأن حل الدولتين كان يعني بالنسبة لهم تخلي سكان البلاد الأصليين عن 78 في المئة من أراضيهم. كان العرب في الأيام الأولى للصهيونية في نهايات القرن التاسع عشر يشكلون أكثر من 90 في المئة من السكان، ثم باتوا يشكلون أكثر من ثلثي السكان في عام 1948 قبيل حرب استقلال إسرائيل. في ذلك العام تم تفريغ الأراضي التي أصبحت فيما بعد إسرائيل من 80 في المئة من سكانها الفلسطينيين، والذين منعوا بعد ذلك من العودة إلى ديارهم. تأسست منظمة التحرير الفلسطينية بعد ما يقرب من 16 عاماً، وتحديداً في عام 1964، قبل أن تحتل إسرائيل أياً من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. ولذلك كان الهدف الأساسي للقضية الفلسطينية هو تحرير الوطن بأسره وعودة كافة السكان الأصليين. 

 

حل الدولتين

وبانطلاق الانتفاضة الأولى ثم توقيع اتفاقيات أوسلو، التي أنهت الانتفاضة في عام 1993، بات كثير من الفلسطينيين على استعداد للقبول بصيغة حل الدولتين، ليس لأن ذلك الحل بدا منصفاً لهم، وإنما لأنه كان أقصى ما بإمكانهم الأمل في الحصول عليه. ولكن مع بروز تفاصيل مختلف المقترحات المتعلقة بعملية السلام بدأ يظهر للعيان كم هي متعفنة تلك الصفقة. كان الفلسطينيون ملزمين بالتخلي ليس فقط عن 78 في المئة من وطنهم، ولكن أيضاً عن الأراضي التي استولت عليها المستوطنات الكبرى داخل الأراضي المحتلة. كما كان عليهم التخلي عن السيادة في أجزاء كبيرة من القدس الشرقية المحتلة، عاصمتهم المستقبلية، وعن البلدة القديمة التي تقع بالكامل في القلب منها. وكان يتوجب عليهم الموافقة على أن أي معاهدة سلام يتم التوصل إليها لن تسمح بعودة معظم اللاجئين إلى ديارهم على النقيض من معظم اتفاقيات السلام الأخرى التي تم التوقيع عليها؛ منذ أن تفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون للوهلة الأولى على مسودة الاتفاق النهائي في عام 1995. وكان يتوجب عليهم التخلي عن أي مطالب يطلبونها من إسرائيل، بما في ذلك المطالبة بحقوق متساوية لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين، والذين كانوا يشكلون أكثر من خمس السكان. وفي المقابل، كان الفلسطينيون سيحصلون على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة طالما وصفها رؤساء وزراء إسرائيل – من إسحق رابين إلى بنيامين نتنياهو – بأنها “دولة ناقصة” أو “كيان أقل من دولة”.

أثناء المفاوضات مع إسرائيل، وافقت منظمة التحرير على كل واحد من هذه التنازلات، رغم أن قلة قليلة منها، إن وجدت، كانت مسنودة بالقانون الدولي. وعندما تبين في النهاية أنه حتى هذه التنازلات لم تكن كافية للوصول إلى إنهاء الاحتلال، بدأ عدد متزايد من الفلسطينيين يفقدون حماستهم واهتمامهم بفكرة حل الدولتين. لم يكن ذلك ناجماً فقط عن كون الفكرة الأصلية من حل الدولتين قد ذوت لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرف على ملامحها، بل إن النسخة المتآكلة منها حتى بدت الآن مجرد سراب.

عندما صدر نداء “بي دي إس” كان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة قد مر عليه ما يقرب من أربعة عقود، ولم يكن ثمة مؤشرات على قرب انتهائه. تضاعف عدد المستوطنين تقريباً منذ أوسلو، ووصل في عام 2005 إلى نصف مليون تقريباً. معظم هؤلاء لم يكونوا يقيمون في مساكن متنقلة على قمم التلال، وإنما داخل مدن تشتمل على مراكز تسوق كبيرة وعلى حدائق ومسابح عامة وطرق سريعة متعددة المسارات تربطهم بسهولة تامة بإسرائيل، حتى بدت فكرة ترحيل حتى ثلث هذا التجمع السكاني الآخذ بالنمو تدريجياً غير واردة. وما فعلته الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية لم يتجاوز مجرد فرك أصابعهم. لقد وعدوا الفلسطينيين بأن الوضع سينتهي سريعاً بتأسيس دولة مستقلة لهم. 

ومع مرور الوقت أضحى حل الدولتين شعاراً مفرغاً من كل مضمون. وكلما بدا أقل قابلية للتطبيق ارتفعت الأصوات المبشرة به، ولكن طالما أنه ظل من الممكن أن تتخيله الأذهان، فقد رفضت القوى الدولية الكبرى المطالبة بأن تمنح إسرائيل الفلسطينيين مواطنة وحقوقاً متساوية. وبذلك تحول مفهوم الدولتين من حل ممكن لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي إلى ذريعة أساسية لحرمان الفلسطينيين من المساواة. كما أنه بات العذر الرئيسي لإبقاء أغلبية الفلسطينيين في المنافي. فللحفاظ على أغلبية إسرائيل اليهودية يجب أن يظل اللاجئون قابعين في المخيمات خارج حدود إسرائيل إلى أن توجد الدولة الفلسطينية القادرة على استيعابهم.

 

دولتان أم دولة واحدة؟

قدمت حركة “بي دي إس” بديلاً عن ذلك، حيث رفضت الحديث عن حلول وهمية، سواء كان حل الدولتين أم حل الدولة الواحدة. لم تكن المشكلة الأهم من وجهة نظرها تكمن في اتخاذ قرار بشأن ما نوع الترتيب الذي ينبغي أن يحل محل النظام الحالي، وإنما في إجبار إسرائيل على تغيير هذا الوضع بشكل كلي. وترى الحركة أن الجدل حول حل الدولتين مقابل حل الدولة الواحدة هو بمثابة الانهماك في إحصاء عدد الملائكة المتواجدين على رأس الدبوس، فطالما أن إسرائيل مرتاحة بما يكفي لكي تستمر إلى الأبد في احتلالها للمناطق الفلسطينية فلن تجد نفسها مضطرة للاختيار بين هذا الحل وذاك.

كان رد فعل إسرائيل على حركة “بي دي إس” بطيئاً، ولكن حينما وصل كان قوياً وحازماً. يوسي كوبرواسر، والشهير باسم كوبر، هو الذي قاد جهود الحكومة الإسرائيلية ضد حركة “بي دي إس” حتى عام 2014. يعمل كوبر الآن في مركز القدس للشؤون العامة، وهو عبارة عن مركز أبحاث محافظ يديره دوري غولد، سفير إسرائيل السابق في الأمم المتحدة وهو صديق قديم ومقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كوبرواسر، الذي خفف شعر رأسه ويملك صوتاً مبحوحاً، ولديه القدرة على جذب محدثه بأسلوبه الحاسم في الحديث. يتكلم العربية بطلاقة هو وزجته تسيونيت (وهي بالعبرية تعني “صهيونية”) التي ولدت في إسرائيل لأب وأم من يهود العراق. كان كوبر يدير قسم الأبحاث في وكالة الاستخبارات العسكرية أثناء الانتفاضة الثانية، ثم عين مديراً عاماً لوزارة الشؤون الاستراتيجية في عام 2009.

 

“تهديد استراتيجي” لإسرائيل

كوبرواسر هذا هو الذي حول الوزارة إلى مركز قيادة إسرائيلي لما يطلق عليه المعركة ضد “بي دي إس”. بدأ العمل في وظيفته مباشرة بعد الحرب على غزة في نهايات 2008 ومطلع 2009، والتي قتل فيها 13 إسرائيلياً وما يقرب من 1400 فلسطيني، مما رفع وتيرة نشاط بي دي إس إلى أعلىالمستويات. وفي سبتمبر / أيلول من عام 2009، تلقت سمعة إسرائيل العالمية ضربة شديدة وجهها لها تقرير الأمم المتحدة حول الحرب، والذي حررته بعثة تقصي حقائق كان يترأسها القاضي الشهير من جنوب أفريقيا، ريتشارد غولدستون. خلص التقرير إلى أن إسرائيل والمجموعات الفلسطينية المسلحة ارتكبت جرائم حرب، وأن إسرائيل نفذت “هجمات متعمدة ضد المدنيين” وذلك “بنية نشر الرعب”. كما وجد التقرير أن الحصار المفروض على غزة (ويقصد به سلسلة الإجراءات التي تحرم الفلسطينيين من وسائل العيش ومن التوظيف ومن المساكن والمياه، وتحرمهم حرية الحركة وحق مغادرة بلدهم والرجوع إليها”) شكل ما يحتمل أن يكون جريمة ضد الإنسانية.

قال كوبرواسر إن تقرير غولدستون كان أول تنبيه لإسرائيل بالطبيعة الخطيرة للتهديد الذي يشكله ما تطلق عليه “نزع الشرعية”. في أواخر عام 2009، اعتبر نتنياهو “نزع الشرعية” واحداً من ثلاثة أمور خطيرة تهدد إسرائيل إضافة إلى برنامج إيران النووي وانتشار الصواريخ والقذائف داخل غزة وفي لبنان. منذ ذلك الحين، بات شائعاً أن تسمع كبار السياسيين الإسرائيليين يصفون “بي دي إس” ونزع الشرعية بالتهديد الوجودي أو الاستراتيجي.

إلا أن بعض المعلقين في يسار الوسط الإسرائيلي، وكلهم يعارضون بي دي إس، لديهم نظرة تتسم بالريبة تجاه الحملة التي تشنها الحكومة دولياً ضد بي دي إس. ويعتقد هؤلاء أن هذه الحملة منطلقة أساساً من اعتبارات سياسية محلية، ويشيرون إلى أنه منذ تأسيس “بي دي إس” قبل 13 عاماً، زادت التجارة الإسرائيلية مع العالم الخارجي في واقع الأمر، ويقولون إن علاقات إسرائيل الدبلوماسية مع الهند والصين والدول الأفريقية وحتى مع العالم العربي قد نمت. ويرى كثير من المعلقين الإسرائيليين من التيار العام بأن حركة “بي دي إس” والسياسيين الإسرائيليين من اليسار ومن اليمين على حد سواء؛ يعملون بشكل يشبه حالة من التعايش المتبادل، حيث يهدد اليسار الإسرائيلي بأن “بي دي إس” ونزع الشرعية سيتسببان في “تسونامي دبلوماسي” دولي ضد إسرائيل” بينما يقوم اليمين الإسرائيلي بما تعود عليه من نشر للخوف حول الأخطار الخارجية المحدقة لكي يحصل لنفسه على الدعم اللازم محلياً وخارجياً. وفي هذه الأثناء، تشير حركة “بي دي إس” بلهفة إلى كل تصريح إسرائيلي تطغى عليه المبالغة باعتباره دليلاً على نجاحها هي.

 

حقوق الفلسطينيين ومزايا المستوطنين

إلا أن كوبرواسر يقول إن التهديد الذي تشكله “بي دي إس” حقيقي جداً، وأن تجاهلها أو التعامل معها كما لو كانت مجرد إزعاج بسيط سوف يخفق، ويضيف: “حتى عام 2010، جربنا تلك السياسة، وكانت النتائج غير جيدة”. ويقول إن الأهم من ذلك أن قياس تأثير “بي دي إس” من خلال حجم تجارة إسرائيل كان خطأ كبيراً. ويؤكد أنه “ليست القضية الأساسية هي ما إذا كانوا سيقاطعوننا أم لا، وإنما ما إذا كانوا سينجحون في اختراق الخطاب الدولي وزرع فكرة أن إسرائيل غير شرعية كدولة يهودية”.

 

أكثر من عشرين في المئة من مواطني إسرائيل الذي يبلغ تعدادهم 8.8 مليون نسمة هم من الفلسطينيين. وهؤلاء هم الناجون الذين بقوا ومن ينحدر من أصلاب هذه الأقلية التي ظلت داخل حدود إسرائيل أثناء حرب 1948. ومن هؤلاء حنين الزعبي، الفلسطينية البالغة من العمر 49 عاماً، وهي مواطنة إسرائيلية من الناصرة، تشغل مقعداً داخل البرلمان، أو الكنيست الإسرائيلي، منذ عام 2009، وتشتهر بتأييدها لحملة “بي دي إس”. تعتبر حنين الزعبي من أشد منتقدي إسرائيل داخل الكنيست، حيث تندد بشكل منتظم بسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين وتتهم إسرائيل بأنها دولة أبارتيد (تمييز عنصري). يكتظ موقع يوتيوب بمقاطع الفيديو التي تظهرها وهي واقفة بهدوء أمام المنصة تحاول التحدث، ولكنها تتعرض للمقاطعة والتشويش والتضييق من قبل البرلمانيين الإسرائيليين الساخطين عليها، والذين يُسمع بعضهم وهو يصرخ في وجهها قائلاً “خائنة” أو “اذهبي إلى غزة”. بل بلغ الأمر بعضو الكنيست عن الليكود ميري ريغيف أن طالبت بإبعادها من البلاد. وكانت حنان الزعبي قد تعرضت لتحقيق جنائي بتهمة التحريض، وعُلقت عضويتها في الكنيست عدة مرات، كان آخرها في شهر آذار/ مارس؛ لأنها قالت إن قتل الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي جريمة قتل.

وبينما تسمح إسرائيل للمواطنين الفلسطينيين من مثل حنان الزعبي بالتصويت في الانتخابات وباحتلال المناصب الحكومية، إلا أن الدولة ظلت باستمرار ترى في تملك المواطنين الفلسطينيين للأرض تهديداً محدقاً بها، ولذلك فقد نفذت خططاً حكومية رسمية لتهويد المناطق العربية وتقليص الوجود العربي فيها. يذكر أنه بعد حرب عام 1948، لم يبق سوى 20 في المئة من الفلسطينيين في المناطق التي أصبحت فيما بعد إسرائيل، وربع هؤلاء الذين بقوا كانوا من المهجرين داخلياً. أبقت إسرائيل مواطنيها الفلسطينيين عرضة لحظر التجول وقيود الحكومة العسكرية حتى عام 1966، وصادرت تقريباً نصف أراضيهم، وسنت قوانين تحول دون مطالبتهم باستعادتها، وما زالت سارية حتى هذا اليوم.

يقيم عشرات الآلاف من الفلسطينيين في قرى كانت قائمة قبل قيام إسرائيل، ولكنها تعتبر “غير معترف بها” من قبل الدولة، ولذلك يتعرض سكانها لهدم منازلهم وللإخلاء الإجباري بينما لا تكاد الدولة توفر لهم شيئاً من خدماتها، ولا حتى الماء أو الكهرباء. وإزاء فرض الدولة قيوداً تحد من تنمية وتمدد البلدات العربية، يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى التقدم للحصول من خلال المزاد على وحدات سكنية داخل التجمعات السكينة اليهودية، إلا أن طلباتهم تواجه مراراً وتكراراً بالرفض. هناك المئات من التجمعات السكانية المخصصة حصرياً لليهود، وهذه لديها لجان قبول تملك صلاحيات قانونية برفض الطلبات بناء على “التوافق الاجتماعي”، وهو ما يوفر ذريعة لإقصاء غير اليهود وحرمانهم. وفي ذلك تقول حنان الزعبي: “ما نواجهه نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل هو الأبارتيد (الفصل العنصري) وليس فقط التمييز. تحاول إسرائيل القول: “إننا إسرائيل الطيبة التي تضطر لعمل أشياء سيئة في الضفة الغربية وقطاع غزة”. لا، انظر إلى الطريقة التي تعامل بها إسرائيل مواطنيها (العرب) الذين لا يلقون الحجارة!”.

 

عربي21

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *