فاجعة جديدة هزّت التونسيين بعنف، وذهب ضحيتها عشرات الشبان، عندما غرق بهم المركب المهترئ وهم يمنّون أنفسهم بالوصول إلى الضّفة الشّمالية من البحر الأبيض المتوسّط. لكنّهم للأسف، لم يبرحوا المياه الإقليمية عندما وقعت الواقعة، فابتلعت أمواج البحر أغلبهم، وخرج المحظوظون منهم منهكين، لا يكادون يصدّقون أنّهم نجوا من الموت. وتعبت فرق الإنقاذ في انتشال جثث الغرقى، وهي تصارع أمواج بحر عاتية، وظروفا طبيعية صعبة.

وهبّت الأسر المنكوبة إلى مدينة صفاقس، بحثا عن مصير فلذات أكبادهم، في طقس رمضاني وأجواء يخيّم عليها الحزن. المحظوظ فيهم، من وجد جثّة يناجيها ويواريها التراب. فمازال مصير الكثيرين ممن امتطوا ذلك المركب مجهولا.

فواجع غرق المراكب التي تَحْمِل المغامرين بالهجرة لا تكاد تنقطع. لا نكاد نودّع فاجعة، حتّى تطلّ أخرى تحمل أسماء ضحايا جدد، وأسر جديدة منكوبة. كنّا نسمع عنها من قبل، لكنّها بعد الثّورة (2011) حلّت بيننا ولم تغادر، وكأنّها قرّرت المقام بيننا، طعنا في الثّورة، وإمعانا في تعذيبنا بنوع جديد من المحن. فبعد سلطة الإستبداد والقهر السياسي، ها هي سلطة القهر الإجتماعي تتربّع فينا، ونعلن جميعا عجزنا عن احتضان أبنائنا وتلبية الحدّ الأدنى من حاجاتهم. وها هي نسبة غير قليلة من شبابنا تُقبِل على الموت غرقا، إقبالها على الهجرة إلى الشّمال، بينما يبدع بعض سياسيينا في شراء المواقف والولاءات، بمبالغ خيالية، قادرة على أن تزرع الإبتسامة في شفاه المحرومين من شبابنا.

أحلام الهجرة إلى الشّمال مازالت تشدّ نسبة كبيرة من شبابنا. لم تمنعهم أخبار الغرق والموت، التي لا تكاد تغيب عن نشرات الأخبار، من الإصرار على “الحرق”. بل إنّ “ثقافة الحرق” أصبحت تستقرّ فيهم، وتنمو، وتتسلّل إلى أفراد أسرهم، وعامة النّاس.

* * * * *

قبل ثمانية أشهر فقط، حصل حادث مماثل، وفي عرض سواحل جزيرة قرقنة أيضا. عندما اصطدم القارب الذي يحمل المهاجرين السريين بوحدة عسكرية. ونجا من ذلك الحادث 38 شخصا، وهلك الباقون، وعددهم على الأرجح أكثر من الناجين.

وقتها، تولّت فرق الحرس الوطني بصفاقس التحقيق مع الناجين، لفهم ما جرى. وقبل أن يتركوا سبيلهم، سألوهم: هل اعتبرتم من هذا الحادث، أم تفكّرون في إعادة المحاولة للهجرة غير الشرعية؟ وأجابوا جميعا: نعم، سنحاول الكرّة مستقبلا !

أعجز عن فهم مدى استفادة مؤسساتنا الوطنية من تلك التقارير التي تعدّها المؤسسات الأمنية حول هذه الظاهرة، وغيرها من الظواهر الخطيرة التي تفتك بشبابنا ومجتمعنا. يبدو أنّ العقل الأمني استأثر بها، ومنع غيره من الإطلاع عليها، فضلا عن الإستفادة منها.

تحدّثت إلى ثلاثة ممن نجوا من ذلك الحادث، واكتشفت عجبا. أكّدوا أنّهم سيواصلون المحاولة، رغم أنّهم يعرفون أنّ حظوظ النجاة من الموت غرقا، أقلّ من فرص الوصول إلى الضّفة الأخرى.

حدّثوني عن أجواء السفر المرعبة تلك، واكتشفت أنّ لهؤلاء الشباب عالما آخر، يختلف تماما عن تونس التي نعرفها.

قالوا إنّهم خلال رحلة الموت تلك، كانوا يتحدّثون بما يلهيهم عن مخاطر البحر، لأنّهم عاجزون عن فعل أيّ شيء تجاهها، وأنّ الأفضل لهم، صرف النّظر عن الموت الذي يحيط بهم من كلّ جانب.

قالوا وهم يتزاحمون في مركب الموت: ليحدّثنا كلّ واحد عمّا دفعه إلى الهجرة “فرارا” من تونس. وتداولوا على الحديث. قال أحدهم، إنّه كره العيش بدون دخل ثابت، ومستقبل يبعث فيه أمل الحياة الكريمة. وتحدّث عن تجاربه المرّة مع من شغّلوه عندهم وبخسوه حقّه. وتحدّث آخر، عن معاناته من النفقة على زوجته المطلّقة، وهو لا يجد ما ينفق على نفسه. وتحدّث ثالث عن فرصة العمل التي انتزعها في مناظرة نجح فيها، ولكن مسؤولا نافذا حرمه منها ومنحها لقريب له. وتحدّث رابع عن الألم الذي سكن والديه، لما يعانيانه من فقر وخصاصة، وعجزه عن سدّ حاجتهما للعيش، فضلا عن حلمه بالزواج. وتواتر سرد المآسي الاجتماعية، كلّ يروي قصّته، بل مأساته. وكان “الرايس” يوقف بلطف هذه الحكايا من حين لآخر، ويدعو إلى الغناء “لتبديل الجو”. فترتفع الأصوات، وتضرب الأكف حتى تكاد تؤثر على توازن القارب، ثم يعودون للحديث عن مآسيهم.

عندما كان أحد هؤلاء النّاجين يتحدّث إليّ، سمع نداء صديق له، فاستأذنني ثم جاء به بعد لحظات.

قال الوافد الجديد مخاطبا صديقه: الجماعة الذين حرقوا من بنزرت، وصلوا البارحة. نعم وصلوا إلى إيطاليا. ثمّ التفت إليّ وقال: كيف تعجب من أمرنا؟ وما الذي يشدّنا إلى تونس؟ عندما يصل الواحد إلى إيطاليا، يُنقل إلى مركز إيواء، فيجد الطعام والفراش، ويُمكّن من الإتصال بذويه ليطمئهم على حاله. هناك، في إيطاليا، بل في أوربا كلّها، يحترمون آدميتك، يضمنون لك حقوقك. نحن هنا محرومون من حقّ الحياة الكريمة، فماذا قدّم لنا الوطن الذي تتحدّث عنه؟

أخذ عنه الكلمة صاحبه وقال: إذا أعادت أوربا واحدا منا إلى تونس، فإن (الرئيس) السبسي يقبض مقابل كلّ عائد ألف أورو. نعم ألف أورو يضعها السبسي في جيبه مقابل إعادة أيّ فرد منّا (هكذا قال، وهو يقصد الدولة وليس شخص الرئيس). إنّهم يتاجرون بنا سواء كنا داخل البلاد أو خارجها.

* * * * * *

ثقافة خطيرة جدا تنتشر حولنا، في صفوف الشباب العاطل. تنهشهم أمام أعيننا نهشا. أدركت فيها أنّ “ثقافة الحرق” عندنا، تجاوزت كثيرا مثيلتها في المغرب، رغم الفوارق الكبيرة بين البلدين سواء الجغرافية أو الإجتماعية. وفهمت وأنا أتحدّث معهم، جانبا مهمّا من أسباب التحاق شبابنا بداعش وغيره من التنظيمات الإرهابية.

شباب يائس، فقد الأمل في حكومات بلاده، ومؤسسات بلاده، ونخبة بلاده، بل يعتبرها متآمرة عليه، متاجرة به. وصدق من قال “كاد الفقر أن يكون كفرا”.

البطالة والحرمان تصنع الكفر بالوطن، وتغذّيه. فمتى تصحو حكومتنا وأحزابنا وسياسيونا؟

قبل أسبوعين فقط، دعا وزير داخليتنا إلى تشديد العقوبة على من يجتاز الحدود بصورة غير شرعية، وطلب تغيير العقوبة من مخالفة الى مرتبة الجنحة.

أجهزة الأمن تبحث حاليا عن مدبّري تلك الرحلة من سواحل قرقنة، وقالت إنّها اعتقلت بعضهم.

وماذا بعد أن يتمّ تغليظ العقوبة على مدبّري الرحلات البحرية الممنوعة، ومجتازي الحدود دون ترخيص؟ هل يوقف ذلك موجة الهجرة السرية؟

خصال مهمّة تتوفّر في المقبلين على قوارب الموت، مازلنا عاجزين عن الإستثمار فيها: حبّ الحياة الكريمة، والإقبال على العمل والشّجاعة في قبول التضحية بالنّفس. وهل يقدم على هذه الهجرة من لا يحبّ العمل ويستهين بالكرامة ويخاف من الموت؟ لكنّنا تركناهم لعصابات الإرهاب والتهريب.

نعم، هو مشكل صعب ومعقّد، ولكن، هل بدأنا في حلّه؟

للأسف الشديد، مازال بعض مسؤولي البلاد، بل كثير منهم، يسارعون إلى الحلّ الأمني ويتوقّفون عنده، وكأنّ الثورة لم تقع. مازالت عقليات كثيرة في بلادنا، تنهل من ثقافة الإستبداد، وترفض أن تسمع شبابنا، وتفهم معاناتهم وآلامهم، وتعتبر استقرارهم الاجتماعي عنصرا أساسيا في استقرار البلاد وأمنها.

مازال مفهوم الأمن الوطني عندنا، محصورا فيما صاغته ثقافة الإستبداد فينا، محصورا في أمن رجال الدولة، ومؤسسات الدولة. ومازالت خدمة المواطن وتلبية حاجاته الأساسية، غائبة عن معجم أمن الوطن ومصالحه العليا.

توصد في وجوههم أبواب العمل الشريف والمنتج، ويحرمون من العيش الكريم، ثم يجرّمون ويعاقبون إذا بحثوا في إمكانية الهجرة، رغم ما يحيط بها من مخاطر جدية على حياتهم!

ثم نسأل بعد ذلك، لماذا يلجأون إلى الهجرة السرية؟ ولماذا يلتحقون بالتنظيمات المتطرّفة؟ ولماذا لا يشاركون في الانتخابات؟

شبابنا هو الذي أوقد شعلة الثّورة وسقاها من عمره وراحته، وانتظر من الحكومات التي تعاقبت بعد سقوط نظام الإستبداد، أن يُنصَف ويجد بعض حاجته، فإذا بالحكومة تبحث له عن عقوبات أشد في حالة تجاوزه حدود البلاد! والسياسيون يبحثون في أسباب عزوفه عن الإنتخابات!

أليس هذا قتلا مضاعفا، لشباب هم في عزّ العطاء؟ أليست هذه المواقف إمعانا في تجاهل حاجاتهم ومطالبهم، وعقابا قاسيا لهم، يضاعف من حقدهم على الدولة ومؤسساتها، وعلى النّخبة ومشاغلها، ويزيد في لوعة أسرهم؟

حرام علينا جميعا، أن نقتل هذا الشباب مرّتين: مرة بإهماله، ومرة ثانية بتحميله مسؤولية ما جنته عليه سياسات حكوماتنا المتعاقبة، وتفكيرنا الجمعي الذي مرد على تجاهله؟

إذا تقاعسنا وفشلنا في احتضان شبابنا وتلبية حاجاته الأساسية، فلا نضاعف تبرّمه منّا بتحميله مسؤولية ذلك، لأنّنا بهذا التصرّف، نوغل في قتله مرّتين، ولا يكون حصاد ذلك إلاّ زقوما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *