بقلم الاستاذ سعيد بحيرةالشتاء التونسي عاصف من قديم الزمان…فيه تحك الركب و يواجه المواطن حقيقة وضعه المادي بعد أن غفل عنه طوال الصيف الصاخب بالاعراس و الترفيه و الارتخاء و الغفلة…تماما على شاكلة النملة و الصرصار….و في ظروف معيشة الإقتصاد العتيق كان الناس يتمتعون بفسحة من الانتعاش بعد حصاد الصيف و جني الزيتون و الثمار.. و تمتد هذه الفسحة حتى أواخر الخريف…لكنها تبدأ في الافول و الزوال مع نهاية شهر نوفمبر عندما يطل ديسمبر الأصم بايامه الصعبة و يعلن زمن ندرة المليم و نفاذ الحبوب….هذا النسق من الحياة تغير و تبدل مع نمط الحياة العصرية الذي اقحم المرتب القار و استنبط الخدمات المتنوعة و ابتكر دورات إنتاج جديدة كسرت أغلال الدورة الإنتاجية القديمة و حررت الإنسان من اصفاد فصول الوفرة و فصول الندرة…و اعتقدنا أن شتاءنا سيصبح أحسن طلعة و أبهى صورة و يودع وجهه العبوس الذي يزرع انقباض النفوس….لكن هيهات….بقي شيء من ذلك كامنا في عناد يتحين فرصته للانطلاق…و قد جاءنا هذه الأيام على وقع الإلهام من الكامور المنتصر على الدولة..و مادام التمشي نجح و بلغ مبتغاه فلماذا لا نعتمد نفس الخطة؟…و انطلقت الشبيبة نحو الفانات و الحنفيات لتغلقها أو تلوح بغلقها..و لم نكن نعرف أن لبلادنا كل هذه الفانات !!! غاز و بترول و ماء ..ثم حبوب و تمر و سمك …ثم موانئ و طرقات و مسالك …و انحبس الإنتاج و توقف التزويد في انتظار الحصول على الشغل و التنمية…و أعلن الشتاء حالة الغليان و الهيجان!!!هل أصبح الأمر قدرا محتوما على التونسيين؟؟ و هل هي المطلبية العفوية التي نعرفها من زمان…ام أنها آلة التحريض تتحرك تحت غطاء المطلبية المشروعة؟؟ و هل يستقيم تعطيل الإنتاج و تحقيق التنمية و المطالب؟؟ أليس في ذلك تناقض و تنافر لا يخفى عن أحد؟؟ و بأي حق نحرم الناس من وسائل العيش كالغاز و المحروقات؟؟ و كيف لجهة أن تتحكم في ثروة وطنية و تترك الدولة تغرق في الديون و ترتهن سيادتها التي دفعت في سبيل استردادها أرواح الشهداء ؟؟ إنها مفارقات عجيبة لم تحدث في غير بلدنا…و لعله من اللطف أن يكون ذلك كذلك لأن عديد البلدان الأخرى شهدت العنف الجارف و الحروب الأهلية و الصراعات القاتلة…و لعل في ذلك مؤشر على شيء من الوعي المتقدم الذي يتيح الاحتجاجات و يمنع الانفلاتات…و لذلك نقر بأن تجنب التعامل الأمني الصرف كان مبررا حتى و إن بدت الدولة ضعيفة و غير قادرة على ضبط الأمور…فالمواجهة يطلبها المتسترون بالاحتجاجات و الذين في جعبتهم مخططات و لا يعيرون اهتماما لما يمكن أن ينجر عن الفوضى..و من بين هؤلاء من يضع ساقا قرب الفانا و أخرى قرب الدولة…إن بلادنا تواجه الأزمة تلو الأخرى منذ عشر سنوات و هي تستنجد في كل مرة بمخزونها الحضاري و بقواها الحية و الخيرة لتتجاوز المحن…و بلادنا وقعت في فخ نظام سياسي و انتخابي ينتج الأزمات و يغذيها..و هي تتطلع إلى استكمال بناء الديمقراطية و ومؤسساتها لكنها تجد نفسها رهينة لهذا الوضع الذي يأبى إستكمال البناء و يصر على أخذ الوقت الذي يناسبه لمزيد التمكن و الانغراس…و مع ذلك تظل الكأس نصف مليانة ريثما تنجلي المحنة و يتم التصحيح.سعيد بحيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *