علي اللافي – كاتب ومحلل سياسي

*** تمهيد

• “شعب واحد في بلدين”، مقُولة توارثتها الأجيال منذ عقود تعبيرا عن عمق علاقات الاخوة والتآزر بين التونسيين والليبيين، ولكنها أيضا قيلت بعد أن شعر الجميع ان كسر الحدود المُقامة والتي كرستها اتفاقيات “سايس بيكو” ليس ممكنا في الوقت الراهن هو أمر مؤجل في حد أدنى، ونفس تلك المقولة تبيّنت أهمّيتها متانتها الفعلية عندما استقبل التونسيون سنة 2011 مئات الآلاف من اللّبيين وتقاسموا معهم في الجنوب الشرقي خاصة بيوتهم وأرزاقهم وكل ما يملكون، وهي مقولة طالما رددها الرئيس الراحل “الباجي قائد السبسي” طوال السنوات الماضية في كل مناسبة يطرح فيها أمامه الملف الليبي أو أي من تفاصيله وجزئياته…

• إلا أن الأيام الماضية ورغم ثبوت استقبال بلادنا للملتقى الليبي للحوار بين طرفي الصراع برعاية أممية فان بعض لوبيات مالية وسياسية مُرتهنة لأطراف اقليمية سعت وتسعى بطرق خفية ومُتسترة على خيوطها لضرب المصالح الاستراتيجية لتونس عبر توتير الأجواء بين التُونسيين واللّيبيين وخاصة في المعابر الحدودية وفي تعطيل اتفاقيات وبروتوكولات للعلاقات في مُختلف المجالات من خلال بعض ممارسات إدارية وبيروقراطية وصل بعضها لحد الاستفزاز المُباشر للأخوة اللّيبيين والذين عبروا عن استيائهم في صمت وبطُرق وقنوات خاصة (عمليا حتى لا يُوتّرون أكثر ما هو موتر أصلا وحفاظا منهم على أواصر العلاقات التاريخية العريقة والضاربة في التاريخ)…

• عمليا تعُود بعض تلك الخطوات الى مربعات أفعال استفزازية مثيلة ومُكملة لتلك التي خطتها وكرستها حكومة التكنوقراط سنة 2014 بهدف خدمة نفس تلك الأطراف سالفة الذكر أعلاه من حيث الطبيعة والولاء خاصة وأن بعضها ما هو إلا مُمتط لموجة الثورات المضادة باحثا عن المنافع وأن يكون منتفعا بعطايا كان يكسبها أيام أنظمة الاستبداد سيئة الذكر…

• وبناء على ما سبق ذكره، وبغض النظر عن الحيثيات والتفاصيل لمربعات المحاولات المتكررة لتفخيخ العلاقات التونسية الليبية ومحاولات الإيقاع بين تونس والمنطقة الغربية خاصة، يبقى السؤال الأهم والرئيسي اليوم هو: لماذا يصمت البعض وخاصة النخب والأحزاب والبرلمانيون عن كل ذلك؟، وكيف تتم بعض أحداث وممارسات بدون إجراءات رادعة وبدون أي ردود فعل تنتصر للمصالح الاستراتيجية لتونس؟، وخاصة في ظل الوعي الكامل بأن اللّوبيات تتحرّك في الخفاء لخدمة مصالحها والإبقاء على المياه الراكدة حتى تصب العطايا من هنا وهناك لصالحها وعبر خدمة اسيادها في عروش عربية عديدة وفي غرف المحافل والشركات العابرة للبلدان والقارات، وهل سنعي أنه تم فعليا بداية المس بالخطوط الحمراء في علاقتنا بالأخوة الليبيين؟ خاصة وأننا لا نختلف كتونسيين في أن الليبيين هم في الحقيقة عُمقنا الاستراتيجي، كما نحن عمقهم الذي لا غنى عنه، خاصة وأن تونس بلد فريد ولا مطامح لها في ليبيا لا أمس ولا اليوم ولا غدا؟

*** مُعطيات التاريخ وعمق الوشائج

عُمق العلاقات بين التونسيين والليبيين أثبتته فعليا وقائع التاريخ وملاحم المعارك ضد الاستعمار الغازي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولسنا في حاجة أبدا للتذكير بتفاصيله وأمثلته التي لا تحصى ولا تُعد، وهو عُمق راسخ في ذاكرة الأجيال ويكفي الرجوع الى كتاب “تآزر الشعب الليبي والتونسي عبر التاريخ” لــ”عبدالوهاب الزنتاني” (عميد بلدية بنغازي في ستينات القرن الماضي)، حيث استعرض المؤلف محطات التآزر والاخوة والنضال المشترك ومراحل التعاون خلال مرحلتي التحرير الوطني وبناء الدولتين بعد استقلال البلدين (ديسمبر 1951 بالنسبة لليبيا ومارس 1956 بالنسبة لتونس)، وكل ما سبق يعني أن العلاقات بين تونس وليبيا هي علاقات متينة وراسخة ولا يمكن تفكيكها ولا ضربها مهما تغيّرت معادلات التاريخ وخبايا الجغرافيا السياسية في المستقبل أو ما تخفيه الاستراتيجيات الدولية المستقبلية تجاه افريقيا والعالم العربي، والسبب طبعا أن وشائج التاريخ بيننا وبين الليبيين أكثر من أن تحصى واكثر من أن تُضبط وتُفصّل أو تُمحى من ذاكرة الأجيال لأنها ببساطة تتوارث وتعلم للصبيان منذ قرون وعقود وهي وشائج لا تعيها ولا يمكن ان يفهمها وكلاء اللوبيات المالية والمصالح السياسية ولا تستوعبها دراسات مراكز الحوث وشركات السلاح والسلع ولا مربعات الغرف الإقليمية الضيقة والتي تدبر بليل بناء على مقولات وأدبيات دراسات اجتماعية وتاريخية استشراقية بالأساس والتي عادة ما تُدير معارك الانفصال الاجتماعي والعرقي بحثا أن تخدم مصالحها ومصالح وكلائها عبر انتصارها لأعراق وأقليات بعينها ضد أخرى في كل العالم العربي والإسلامي، وهو أمر محكوم عليها بالفشل لان العلاقات بين الليبيين والتونسيين وقبل ان يكونوا سياسيين واداريين هي علاقات مصاهرة وانصهار قبلي وعرقي واجتماعي وثقافي منذ عقود فالقاب “التميمي” و”الغرياني” و”اللافي” و”الزاوي” والزوراي” و”الطرابلسي” يمتد وجودها من الجنوب الى الشمال بينما هي تشير الى مناطق ومدن وقبائل ليبية وهذا كله مضاف الى روح “العربية” و”الإسلامية” وفي تراب البلدين تعايش اليهود والعرب والمسلمون بناء على عقلية المواطنة البناءة أي على ثنائية الحق والواجب وتعايش “المالكية” ( وهم الغالب عدديا) مع “الحنابلة” و”الحنفية” وعاش العرب مع الامازيغ وتم التزاوج والتشارك الاقتصادي والاجتماعي، وهي كلها عوامل اثبتت أهميتها في كل المحطات والحقبات التاريخية بدون أن نفصل في ذلك لان المجال لا يتسع لكل ذلك في مقال/دراسة الحال …

*** حيثيات الخطوات الاستفزازية وعلاقتها باجراءات مماثلة سنة 2014

• عمد رئيس الحكومة الأسبق “مهدي جمعة” سنة 2014 إلى عدد من الاجراءات والخطوات الخادمة بشكل مباشر وغير مباشر لبعض لوبيات رجال الأعمال بل أنه أمضى فعليا عقود واتفاقيات غير واضحة المعالم والتفاصيل في علاقة بالصراعات بين المحورين الإقليميين ووكلائهما المحليين في الساحة الليبية…

• سمح نفس رئيس لحكومة سنة 2014 لنفسه بإعطاء الضوء الأخضر لإضافة قائمات اسمية لمنع العشرات بل المئات من أهل المنطقة الغربية من الدخول للتراب التونسي بدون أن يكون لديهم جرائم مُرتكبة ولا مخالفات وضاحة المعالم للقانون الدولي أو حتى تمس للأمن التونسي باي شكل من الاشكال وبغض النظر عن علاقة ذلك بطلبات دولتين خليجيتين يومها وبحيثيات عطايا اقتصادية قيل أنها منحت يومها لشركات بعض أفراد بعضهم قريب منه بالذات…

• عمليا أصلح الأمر جزئيا فيما بعد من طرف الرئيس السبسي وجمدت بعض قائمات من المنع وتمت معالجة بعض حالات في الإبان، بل أن الرئيس الراحل استقبل يومها أي بداية سنة 2015، رئيس حكومة الإنقاذ “خليفة الغويل” مُعلنا بوضوح أن مصالح تونس مع من يحدها مباشرة، ومضيفا أنه من أجل مصلحة تونس مستعد أن يفعل أي شيء وأن يستقبل أي كان لخدمتها ما دام غير متابع دوليا، حتى أنه قطع خطوة غير منتظرة منه هو بالذات حيث قام باستقبال الدكتور “علي الصلابي” في قصر قرطاج وعقد معه جلسة مطولة…

• بين سنتي 2018 و2020 حاولت بعض اطراف سياسية تونسية وأخرى عربية التأثير على مجريات الصراع في ليبيا قبل وبعد حادثة 04-04-2019 (محاولة الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر” دخول العاصمة طرابلس) انطلاقا من الأراضي التونسية إعلاميا وسياسيا، بل وحاولت نفس الأطراف أن تتدخل بأشكال مختلفة انطلاقا من تونس بآليات وطرق خفية وذلك عبر التحريض والتأثير على احداث اجتماعية ودفعها نحو منزلقات معينة والابتعاد بها عن مطالبها الرئيسية الاجتماعية والعادلة أيضا (اعتصام الكامور- اعتصام بن قردان والذي أقيمت خيمته في أكثر من مرة على الطريق الرابطة بمعبر رأس الجدير…)

• خلال الأسابيع الماضية ورغم أن تونس ليست طرفا في أي محور إقليمي بناء على اتباع كل الحكومات تقريبا على اختلاف مشاربها منذ الاستقلال، لسياسة الحياد الإيجابي التي بنى لبنتها الأولى المرحوم “المنجي سليم” (يعتبر أبرز وزير خارجية خلال حقبة حكم الرئيس الاسبق “الحبيب بورقيبة”)، عمدت بعض أطراف خلال الأشهر والأسابيع الماضية عبر آليات غير مباشرة لدفع تونس نحو مربعات الخلاف الإداري مع حكومة “الوفاق” المعترف بها دوليا من خلال بعض إجراءات خاصة بالوضع الصحي الاستثنائي المبني على التحوط من ترتبات مرض كورونا وتم تأجيل امضاء البرتوكول بين الوفدين وهو ما اعتبره الطرف الليبي استفزازا له ( ماذا يعني ان يترك مسؤول مركزي في طرابلس موقعه ليقيم في تونس 14 يوما ثم يعقد بعدها اجتماعا بساعتين لا غير؟)، واضافة الى ذلك وقع عمليا منع العشرات من الليبيين من المرور رغم قيامهم بكل الإجراءات الصحية والترتيبية ورغم دفعهم أموالا مُسبقة لوكالات الاسفار، بل أن بعض الوكالات رفضت بعد منعهم ارجاع الأموال اليهم بناء على طبيعة التفاهم الاولي معها…

• السؤال المطروح وبناء على الموظفين الإداريين في المعابر وفي الإدارة يُطبقون إجراءات وترتيبات مرسلة إليهم من اداراتهم المركزية أو هي منظمة بمناشير ومراسلات من الوزارات، فان المسؤولية على كل ما حدث تبقى سياسية وان كانت الأطراف السياسية والبرلمانية لا علم لها بها بل وأبلغت رئاسة الحكومة بها في الساعات الماضية، وهو ما يعني أن هناك من يمر ويعمل ما بين القنوات وهي أطراف غامضة ولا هوية لها لدى الكثيرين حتى أن الرئيس نفسه أشار اليها في عدد من الخطابات رغم اختلاف السياقات والتفاصيل والحيثيات…

• مهما اختلفنا في التشخيص والحيثيات وفي تحديد طبيعة كنه تلك اللوبيات الخفية والتي لا ترى ولا تحدد منذ سنوات بل منذ عقود في رأينا، فان الثابت ان الحيثيات الأخيرة تمس وتضرب وفي عمق المصالح الاستراتيجية لتونس وخاصة ونحن في مرحلة حساسة ولها من الأهمية الكثير في مربعات مستقبل الاقتصاد التونسي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *