ملخـــــــــــص :
تسعى هذه الورقة إلى فهم مسارات التطرف الجهادي عند شباب الأحياء الشعبيّة التونسية ضمن سياق معيشهم اليومي. وهو معيش مطبوع بتوتر صارخ بين شعور بالإقصاء والإذلال، من جهة، وشعور بالسخط والاحتجاج، من جهة أخرى، يتولد أساسا عن أنماط الحكم السائدة في هذه الأحياء. وبالاعتماد على معطيات مستمدة من ملاحظات ومقابلات إثنوغرافية، تجادل الورقة بإمكانية فهم هذه المسارات بوصفها مسارات تحول جوهري، أي انتقالاً رمزياً من موقع الخضوع والإذلال إلى موقع التفوق المبني على الانتماء إلى صفوة دينيّة فائقة، عبر تبني نموذج تأويلي متخيّل عن جماعة المسلمين الأولى وتجسيده ضمن هويّة سرديّة متطرّفة.

في كتابه حرب الذاتيّات في الإسلام، يرسم المحلّل النفساني فتحي بن سلامة صورة الجهادي على أنّه مسلم فائق (sur-musulman). فهو لا يكتفي بأن يكون كأيّ مسلم، بل يرى ضرورة إظهار ذلك، وتبليغه عبر الرموز الخارجيّة، والمغالاة السلوكيّة والتعبديّة. وينمّ ذلك، في نظر بن سلامة، عن قناعة لدى المسلم الفائق بأنّ سبب هزيمة المسلمين وإذلالهم، هو خيانتهم للدّين المتماهي في تصوّره مع تقليد إسلامي أصيل متخيّل ومتعيّن في زمن النبيّ والصحابة والتابعين، وأنّ تمكينهم لن يكون سوى باستعادة هذا المثال المجروح عبر مواجهة شاملة مع الحداثة والعالم الذي شكّلته. وتجري هذه المواجهة في مجالات متعدّدة، ابتداءً من اللباس والتعبّد وصولاً إلى الجهاد المسلّح، حيث تتّخذ شكل مطالبة عنيفة تتطلّب من الذات أن تطهّر نفسها من شوائب العالم الحديث، فتؤدّي بها إلى إلغاء الآخر، بإلغاء نفسها حتى تتأكّد كذاتيّة فائقة وقد أتاح عملنا الإثنوغرافي حول مسارات التطرّف الجهادي لدى شباب الأحياء الشعبيّة في تونس ما بعد الثورة، معاينة عمليّات تشكّل ذاتيّة المسلم الفائق في سياقات تجريبيّة. وقد تركّز حقل العمل البحثي في عدد من الأحياء الشعبيّة التونسيّة بغرب العاصمة، والتي مثلت بالنّسبة للجهاديّين الأماكن المفضّلة للدّعوة والتعبئة الجماهيريّة، ومجالاً حيويّاً لأنشطتهم. وكانت هذه الأحياء قد تشكّلت منذ بداية السبعينات في أحزمة العاصمة على وتيرة ديناميّة حضريّة هامشيّة تغذّيها هجرة ريفيّة وافرة. وقد حال تعطّل مسار التصنيع وانحصاره في قطاعات محدودة، كالصّناعات التحويليّة وصناعة الملابس والنسيج، دون توفّر شروط اندماج الوافدين في النسيج المديني بالكامل، وهو ما أدّى إلى تحوّل التجمّعات السكنيّة العفويّة حول المدن إلى “مجالات هامشيّة” تعاني من الهشاشة والإقصاء الاجتماعي، وتنتشر فيها بشدّة مظاهر الانحراف والجريمة والاقتصاد اللانظامي. كما حوّلها كذلك إلى “مجالات احتجاجيّة” تتخلّق في رحمها الهويّات الرّافضة، مثل مجموعات موسيقى الرّاب ومشجّعي كرة القدم، والهبّات الشعبيّة المناهضة والثوريّة.

وفي جميع الأحوال، كان انتشار الحركة السلفيّة الجهاديّة يتمّ في الأحياء الشعبيّة من خلال جملة من الأنشطة والممارسات التي تحشد نموذجاً معياريّاً متخيَّلاً ومتعيّناً في جماعة المسلمين الأولى، وهو ما تبلوره الإيديولوجيا الجهاديّة وتسعى إلى نشره على مستوى الساحات المحليّة والمعيش اليومي، مشكّلة بذلك حركة اجتماعيّة متطرّفة، لم تتّخذ شكلاً حزبيّاً أو مؤسّساتياً، بل بقيت تُمارَس ضمن شبكات ممتدّة تفتقر إلى الهيكلة والتّراتب الهرمي الشكلي والصفة القانونيّة الرسميّة إزاء الدولة، متّخذة شكل مجموعات من الشباب الجهادي المتناثرة في مناطق متعدّدة على مدى البلاد. وتنتظم هذه المجموعات إمّا حول مرجعيّة ترابيّة أو مشيخيّة، متغذّية من التفاعلات اليوميّة المباشرة بين الأنصار والمتعاطفين، ويوحّدها توجّه إيديولوجي مشترك.

لأن توحّد جزء واسع من هذه المجموعات ضمن تنظيم “أنصار الشريعة” على قاعدة مشروع سياسي جهادي، إلاّ أنّ هذا التنظيم لم ينجح في الانتقال التامّ إلى مستوى التشكّل المؤسّساتي المكتمل، حيث انهارت التجربة إثر حظره من قبل “حكومة الترويكا” الثانية في جويليّة 2013. ليدخل في صراع مسلح مع الدولة سيؤدّي إلى هروب قياداته، وتفكّك شبكات أنصاره وانتقالها إلى العمل السرّي ضمن مجموعات صغيرة العدد متعاطفة أو منتمية إلى “الدولة الإسلاميّة”، بشكل غالب، أو إلى “تنظيم القاعدة”، بشكل أقلّ. فمع بدايات العام 2014، غادر قرابة 3000 شابّ تونسي إلى سوريا للقتال في صفوف “الدولة الإسلاميّة”. وينحدر قسم كبير من هؤلاء المقاتلين الجهاديّين، حسب التقارير الإعلاميّة والأمنيّة المتوفّرة، من مناطق البلاد الداخليّة المهمّشة والأحياء الشعبيّة الطرفيّة بالمدن الكبرى.

ما هي الفئات الاجتماعيّة التي يجتذبها التطرّف الجهادي بالأساس؟ ما هي دلالة التحوّل الجهادي في سياق الأحياء الشعبيّة التونسيّة؟ وكيف ترتبط مسارات التحول الجهادي بتجارب الإقصاء اليوميّة التي يعيشها الشباب في الأحياء الشعبيّة؟

نجد، من جهة أولى، شبيبة الطبقات الشعبيّة التي تعيش حالة هشاشة اقتصاديّة وعلائقيّة، وتحمل رأسمالاً تعليميّاً متدنيّاً، ووصوماً رمزية تتعلّق إمّا بأصولها الاجتماعيّة أو بتجارب إجراميّة أو تجارب انحراف عاشتها سابقاً، وهي حالة شريحة واسعة منها. ومن جهة أخرى، شبيبة الفئات الهشّة من الطبقة الوسطى، التي تتمتّع عموماً برأسمال تعليمي عالٍ وأصول اجتماعيّة معتبرة، لكنها تجد نفسها مع ذلك في وضع إقصاء اجتماعي نتيجة أزمة بطالة أصحاب الشهادات العليا. وهذا ما يجعل فئات واسعة من الطبقة الوسطى عاجزة عن إعادة إنتاج مواقعها الاجتماعيّة في سياقٍ يتميّز بتآكل نظام قيمها المرتكز أساساً على الاستحقاق والجدارة، وعلى الترقّي الاجتماعي من خلال التعليم، وذلك نتيجة تعطّل إواليّات الصعود الاجتماعي التقليديّة. لكن، كيف نفسّر انجذاب هاتين الفئتين بالأساس إلى التطرّف الجهادي؟

في خيمة دعويّة نظّمها شباب “أنصار الشريعة”، بدُوّار هيشر في 12 نوفمبر 2012 بعد صلاة العصر ببطحاء تسمّى “بطحاء الرياحي” بشارع “خالد ابن الوليد” بحيّ “دوّار هيشر”، خطب الداعية السلفي الجهادي “كمال زرّوق” بحماس شديدٍ في جمهور غالبيّته شبابي صارخاً:

شباب الإسلام… إنّ الشعب ينتظركم… فعلّموا الناس الدّين ولنرى معاملاتكم… ولنرى أقوالكم وأفعالكم في المجتمع بإذن الله. أنتم الخير وأنتم القادة وأنتم الصّحوة… أنتم ستقودون الأمّة إلى النّصر، وقد قال فيكم النبيّ ”يخرجون رجالاً من المغرب يلبسون الصّوف يفتحون جزيرة العرب وهي مسلمة”… أنتم الشباب الذي سيدرك المهدي ويدرك الفتن ويدرك الملاحم”.

كمال زرّوق – سلفي جهادي

كان يمكن لهذه الملاحظة أن تمرّ مرور الكرام دون أن تسترعي أيّ انتباه، لكونها تفصيلاً غير ذي قيمة تفسيريّة هامّة، وهي ظاهريّاً كذلك. إلاّ أنّها أبانت عن قيمتها الفعليّة حين استثارت سؤالاً بسيطاً في ذهننا مفاده: كيف يتحوّل هؤلاء الشبّان من أفراد مهمّشين ومقصيّين، إلى فاعلين يمثّلون “القادة والصحوة الذين سيقودون الأمّة إلى النّصر“؟ فعلى رأي مارسيل موس، فإنّ “ما قد يبدو تفاصيل عابرة، قد تكون في الواقع تركّزاً لمبادئ“

وفي هذا المستوى، سنحاول طرح فرضيّة مفادها أنّ هؤلاء الشبّان الجهاديّين يعيشون التحوّل الجهادي بوصفه عمليّة تحوّل جوهري (Transsubstanciation) يختبرون من خلاله نوعاً من الترقّي الأنطولوجي، بحيث يمكن أن يتحوّل الفرد الموصوم سلبيّاً، ابن الحيّ الشعبي المهمّش أو حامل الشهادة الجامعيّة العاطل عن العمل أو المنحرف أو الممارس للعمل الهشّ، الخ… إلى واحد من “الصفوة” المشكّلة للـ”طائفة المنصورة” التي ستحقّق وعد الله في الأرض.

من أبرز وجوه وضعيّات الإقصاء الاجتماعي التي يعيشها شباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة، هي الوصمة السلبيّة التي تعلق بهويّتهم الذاتيّة. ويتأتّى جزء مهمّ من هذه الوصمة، لا من خصائصهم الذاتيّة أو موقعهم الاجتماعي الفردي، بل أساساً من هويّتهم الجماعيّة بوصفهم من سكّان حيّ شعبي. فعلى قول أحد شبّان حيّ “دوّار هيشر”، في خضمّ تفسيره أسباب سعيه لتغيير مكان إقامته المدوّن في بطاقة تعريفه الوطنيّة وعموماً.

ما دام عنوان إقامتك المسجّل في بطاقة تعريفك هو دوّار هيشر، فذلك مشكل… حتى لو كنت تشتغل ولك مورد رزق قارّ وأنت إنسان مستقيم لا غبار عليك، فستبقى دائماً النظرة السلبيّة تلاحقك، لأنّك من دوّار هيشر لا غير !”

أحمد – 26 سنة

تتشكّل هذه الوصمة العالقة بالأحياء الشعبيّة في تونس من ثلاثة أبعاد أساسيّة، وهي الجريمة والعنف وظروف العيش المتدنيّة. ففي دراسة كميّة أجرتها منظّمة “أنتيرناشيونال آلرت” على عيّنة ممثّلة من 750 شابّ من حيّ “دوّار هيشر” وحيّ “التضامن” بين سنّ 18 و35 سنة، أجاب 42.2% من المستجوبين على سؤال “كيف يرى غير المتساكنين حالة الأمن في حيّك؟” بمترديّة جدّاً، وأجاب 28.2% بمترديّة. فيما أجاب 32.9 % من المستجوبين على سؤال “كيف يرى غير المتساكنين ظروف العيش في حيّك؟” بمترديّة جدّاً، و30% بمترديّة. ومن الملاحظ اعتبار المستجوبين، بنسبة 30%، حضور الحركة السلفيّة أهمّ

الأبعاد التي انضافت إلى صورة الحيّين بعد الثورة. والمثير في ذلك بروز أهميّة هذا المتغيّر الجديد في تشكيل صورة الحيّين، في مقابل تصريح المستجوبين بتراجع أهميّة متغيّر الجريمة من 29.2% قبل الثورة إلى 13.8% بعدها، ومتغيّر النزاعات المحليّة من 26.1% إلى 16.1%. وبقدر ما يدّل ذلك على تغيّر في هويّة هذين الحيّين الشعبيّين بعد الثورة، فهو يدلّ كذلك على قوّة الانغراس المجالي المادّي والرّمزي الذي حقّقته الحركة الجهاديّة فيهما.

جمعية مبدعون

وتزوّدنا دراسة كميّة أخرى أجرتها جمعيّة “مبدعون” بمعطيات مقارنة حول فروقات تمثّلات المراهقين بين سنّ 12 و18 سنة لصورة حيّهم، ضمن عيّنة تمثيليّة موزّعة بين الأحياء الشعبيّة والأحياء السّكنيّة الفاخرة ونصف الفاخرة. حيث شملت هذه الدراسة 272 مراهق من حيّ “الكرم الغربي”، و110 مراهق من أحياء “سيدي بو سعيد” و”المرسى”. وفي حين تقع جميع هذه الأحياء في الضاحية الشماليّة للعاصمة تونس، يُعرف الكرم الغربي عموماً بأنّه حيّ شعبي، فيما تعرف أحياء “سيدي بو سعيد” و”المرسى” بكونها من فضاءات سكنى الطبقات الوسطى والعليا خصوصاً. وتظهر النتائج الأوليّة لهذه الدراسة فروقات بارزة بين تمثّلات المستجوبين في “الكرم الغربي” لهويّة حيّهم وصورته لدى غير المتساكنين، في مقابل تمثّلات المستجوبين في “المرسى” و”سيدي بو سعيد”.

فبخصوص تمثّلات المستجوبين لهويّة أحيائهم، نجد أنّ 75% من المستجوبين في “الكرم الغربي” يوافقون بشدّة على اعتبار حيّهم حيّاً شعبيّاً، فيما يوافق 13.6% منهم نسبيّاً على ذلك. وعلى عكس ذلك، لا يوافق سوى 11.8% من المستجوبين في “سيدي بو سعيد” و”المرسى” تماماً على اعتبار أحيائهم أحياءً شعبيّة، فيما يوافق 25.5% منهم نسبيّاً على ذلك. ومن جهة أخرى، يوافق 30.9% من المستجوبين في “الكرم الغربي” بشدّة على أنّ حيّهم مهمّش، فيما يوافق 25.7% منهم نسبيّاً على ذلك. وفي المقابل، نجد أنّ 0.9% فحسب من المستجوبين في “سيدي بو سعيد” و”المرسى” يوافقون تماماً على أنّ أحياءهم مهمّشة، في حين يوافق 10% منهم فقط نسبيّاً على ذلك.

وإجمالاً، فإنّه بقدر ما يعتبر تراكم التفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة مهمّاً في فهم موقع الأحياء الشعبيّة ضمن التكوين الحضري لمدينة تونس، فإنّ هذه المعطيات تنبّهنا إلى أنّ الرموز والصور السلبيّة مهمّة بدورها في تشكيل هذه الجغرافيا الاجتماعيّة المخصوصة. فهذه الصور والرموز ليست مجرّد “أحكام مسبقة” أو “مغلوطة” ينبغي الاشتغال على تفكيكها، بقدر ما تمثّل “أفعالاً خطابيّة” بتعبير فيلسوف الخطاب جون أوستين، أي إحدى مظاهر نشاط القوى الاجتماعيّة الفاعلة في تحديد موقع الأحياء الشعبيّة في “أدنى سلّم نظام التراتبيّة الهرميّة للأماكن التي تتشكّل منها المدينة”. فهذه الصور والرّموز، تنخرط عبر تراكمها في شكل وصمة جماعيّة سلبيّة ضمن إواليّات الإقصاء التي تجعل من الأحياء الشعبيّة مناطق نبذ حضري. وهي وصمة ترزح بقوّة على معيش سكّان الأحياء الشعبيّة، وتساهم في إنتاج أشكال التمييز المادّي التي يعانونها. وفي هذا الصدد، توقّفنا خلال عملنا الميداني في حيّ “دوّار هيشر” على عدد من التجارب المعيشيّة التي يواجه فيها شباب هذه الأحياء أشكالاً مختلفة من التمييز على أساس الوصمة السلبيّة العالقة بهويّتهم الجماعيّة. ففي سياق حديثه عن الصعوبات التي تواجه شباب حيّه في إيجاد موطن شغل.

انطلاقاً من هذه المعطيات الكميّة والكيفيّة، يمكن أن نرى تأثير الوصمة السلبيّة العالقة بشباب الأحياء الشعبيّة على العلاقة بالذّات وتشكيل الهويّة الجماعيّة والقدرة على الحراك والصعود في الفضاء الاجتماعي. حيث يصحّ القول، على نحو ما يستنتج ديدييه لابيروني بخصوص الضواحي الحضريّة الفرنسيّة، أنّه لا وجود لأحياء شعبيّة دون صورة الأحياء الشعبيّة، و“لا وجود لتفاوتات دون تأويل لهذه التفاوتات”. إذ ليست هذه الصور والتأويلات مجرّد نظام رمزي يعكس علاقات اجتماعيّة مخصوصة، بقدر ما هو نظام ينخرط في بناء هذه العلاقات وهيكلتها. ومن ذلك، يمكن أن نفهم نزوع شباب الأحياء الشعبيّة إلى التعبير عن وضعيّات الإقصاء الاجتماعي التي يختبرونها، رغم اختلاف مساراتهم الاجتماعيّة وتعدّدها، انطلاقاً من لغة يغلب عليها الطابع المعياري والأخلاقي بما هي “تجربة احتقار و”شعوراً باللامساواة” والإقصاء، وعدم القدرة على عيش “الحياة” والانخراط بشكل كامل في المجتمع“.

وهو ما يؤشّر على أنّ تجربة الاقصاء الاجتماعي لا تتحدّد فحسب بلغة الاقتصاد السياسي للتفاوتات، الذي يركّز على الفوارق الطبقيّة والماديّة بين التكوينات الاجتماعيّة، بل تتحدّد أيضاً بلغة اقتصاد معياري تنخفض فيه الدلالات الاجتماعيّة للتفاوتات لتكتسي دلالات “أخلاقيّة” و”معنويّة” بوصفها “ثمرة تمييز إقصائي معمّم. وهو تمييز يحرم الأفراد من الولوج إلى نمط عيش “عادي” أو يقدّرون أنّه عادي، وهو أيضاً من نتاج الإرادة السلبيّة للفئات المتفوقّة“. فبقدر ما يعتبر الإقصاء الاجتماعي تجربة لامساواة في توزيع الرساميل الاقتصاديّة وتجريداً من دعائم الحماية الاجتماعيّة ونبذاً خارج دوائر الإدماج المؤسّساتيّة، على نحو ما يبرز روبرت كاستيل، فهو كذلك تجربة احتقار وتجريد من الاعتبار المعنوي واختبار أشكال متراكبة من نفي الاعتراف بتعبير أكسيل هونيث. ومن هنا، تبرز أهميّة تجاوز الفصل التحليلي الذي أقامته نظريّات الإقصاء الاجتماعيّة والفلسفيّة بين مجالي التوزيع الاجتماعي والاعتراف الرّمزي، نحو الدمج بينهما على نحو دعوة نانسي فرايزر، وهو ما يتولّد عنه مقاربة مزدوجة للإقصاء “تُتناول ضمنها كلّ ممارسة على أنّها ممارسة اقتصاديّة وثقافيّة في الآن نفسه… وتقيّم ضمنها جميع الممارسات من منظورين مزدوجين، أي منظور التوزيع ومنظور الاعتراف، لكن دون أن يُختزل أيّاً منهما في الآخر“.

تقدّم لنا بعض المعطيات الكيفيّة من سيرة أنس (33 سنة) مدخلاً إلى قراءة مسارات التطرّف الجهادي لشباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة، انطلاقاً من منظور الاقتصاد المعنوي لديناميّات الإقصاء التي تخضع لها ساكنة هذه الأحياء، وخصوصاً منها فئات الشباب. حيث ينحدر أنس من حيّ “التضامن” الواقع غرب العاصمة تونس، وهو من أضخم الأحياء الشعبيّة التونسيّة من جهة تعداد ساكنته وأقدمها من جهة التكوّن التاريخي، أين اعتنق المنهج السلفي الجهادي سنة 2004، وسجن سنة 2006 تحت طائلة قانون الإرهاب. وبعد الثورة، انضمّ أنس إلى تنظيم “أنصار الشريعة”، قبل أن يغادر نحو سوريا سنة 2012 حيث قاتل مع “جبهة النصرة” لسنتين، ومن ثمّ انحاز إلى “الدولة الإسلاميّة” في صراعها مع “تنظيم القاعدة” حول أولويّة قيادة الجبهة السوريّة أوائل سنة 2014، قبل أن ينشقّ عنها أواخر سنة 2016.

وفي مستهلّ سلسلة مقابلاتنا البحثيّة، طلبنا من أنس أن يصف حياته قبل بداية مسار تطرّفه الجهادي، فكانت اجابته:

“أنا ابن حيّ شعبي من العاصمة تونس. كنت مغرماً بموسيقى الرّاب والهيب هوب، وكنت لاعب كرة قدم كذلك. كنت أجيد لعبة كرة القدم، قبل أن تزلّ بي الأقدام وأصير معروفاً في الحيّ بالسطو على النّاس والسّرقة. بالطبع، خارج الحيّ، كان كلّ همّي التسلّط على أولئك الذين يسمّون بالطبقة الغنيّة في البلد، الذين أرى منهم الظلم… يعني، حاول أن تتخيّل ابن حيّ شعبي، ذليل، لا تلبس مثل النّاس ولا تعيش مثل النّاس. ترى أحدهم من أبناء فلان أو علاّن الذي يسرقك كلّ يوم، وأبوه يضحك على النّاس، تراه يرتدي حذاءً رياضيّاً قيمته 280 ديناراً، أمّا أنا فأجد نفسي غير قادر على اقتناء حذاء قيمته 70 ديناراً مثلاً. هذه من الأشياء التي جعلتني أفكّر أنّ مالهم هو في الأصل مالنا، وأنّه ينبغي عليّ استعادته. هذه هي القاعدة المتعارف عليها في الأحياء الشعبيّة… كذلك، تخيّل أنّك جالس أمام منزلكم، ويأتيك أحدهم لا علاقة له بك لا من قريب ولا من بعيد، يأمرك بالدخول إلى المنزل. لماذا ذلك؟ حينها تشعر بأنّك محقور… تشعر بأنّك تعيش تحت الذّل. يعني، تصوّر ابن الغنيّ يقوم بأيّ فعلة ولا يحاسب عليها، أمّا أنت فتحاسب على سفاسف المشاكل، وقد يبعثون بك إلى السّجن ستّة أشهر لمجرّد أنهم مسكوا لديك آلة حادّة… والحمد لله، قدّر الله عزّ وجلّ أنني لم أدخل السجن، وكان الله سبحانه وتعالى خير حافظ، رغم تورطّي في قضيّة محاولة قتل آنذاك وعمليّات سرقة وسطو. لكن الله عزّ وجلّ سلّم أمري، ولم أحاكم بالسجن في هذه القضايا لأنّي كنت عندها قاصراً في سنّ السّابعة عشرة، ولم يكن القضاة يرغبون في التركيز على قضايا القُصَّر، فلا يحكمون فيها بالسجن… لكن، كما قلت لك، كلّ من عاش في تونس يعرف معنى الظلم، ويعرف كيف يتسلّط هؤلاء الطواغيت… يعرف كيف يمسكون بالمرء في الشارع ويصفعونه على الملأ ويأمرونه بالعودة إلى منزله…”.

أنس – 33 سنة
يتواتر في سرد أنس لمسار عيشه قبل تحوّله الجهادي عبارتان تحملان شحنة معنويّة صارخة، وهما الذلّ والاحتقار. ويمكننا المجادلة بأنّ هذه الشحنة المعنويّة تتأتّى من سرد أنس لمسار عيشه بوصفه سرداً لتجارب مكثّفة من الاحتقار، يمكن ارجاعها إلى اختبار شكل أساسي من أشكال نفي الاعتراف، ألا وهو نفي الحقوق. وتبعاً لأكسيل هونيث، يشير نفي الحقوق إلى “أشكال الاحتقار الشخصي التي يخضع لها فرد ما، عبر اقصائه من التمتّع بحقوق مخصوصة ضمن المجتمع“. ومن الجدير هنا التنويه إلى أنّ هذه الحقوق تتحدّد اجتماعيّاً وسياسيّاً بحسب الظرفيّة التاريخيّة والتطوّر المؤسّساتي العامّ لكلّ نظام اجتماعي مخصوص، حيث تمثّل “المطالب الفرديّة التي يمكن أن يتوقّع الفرد أن يحظى بها اجتماعيّاً بشكل مشروع بوصفه منخرطاً في النظام الاجتماعي، متساوياً مع غيره في الحقوق، كعضو كامل في جماعة معيّنة“. بذلك، لا يتمّ ضمن هذه التجربة المخصوصة من الاحتقار تجريد الفرد من احترامه المعياري لذاته فحسب، بل من “قدرته على الارتباط بذاته بوصفه شريكاً تفاعليّاً يتساوى قانونيّاً مع أضرابه من البشر“.

ويظهر هذا الأمر جليّاً في شهادة أنس، من ناحية أولى، من خلال حديثه عن الفوارق بين من يسمّيهم “أبناء الطبقة الغنيّة” وأمثاله من “أبناء الأحياء الشعبيّة”. حيث يصف أنس هذه العلاقة من منظور “النحن والهم”، أي من منظور التفرقة الحادّة بين مجموعتين متفاوتتين في الحقوق، نتيجة التوزيع غير المتكافئ للرساميل الاقتصاديّة داخل المجتمع. غير أنّ المصطلحات التي يستخدمها في إعادة بناء هذه العلاقة في خطابه لا تصوّرها على أنّها علاقة تفاوت في الحقوق فحسب، بقدر ما تصوّرها كذلك على أنها علاقة استغلال. ففي نظر أنس، لا يكتفي “برجوازيّو المدينة” والطبقات الحضريّة العليا بالتّمتع بنمط عيش فائق يُحرم ساكنة الأحياء الشعبيّة من حقّ الولوج إليه، بل يتحقّق لها ذلك أساساً من خلال استغلال الطبقات الشعبيّة والعمل على تأبيد وضعها.

وإزاء صورة “أبناء الأغنياء” القادرين على اكتساب علامات الترف المادي المحروم منها وتأكيد الذّات من خلال الاستهلاك والترفيه، يصف أنس صورته بسيمياء شعوريّة يمتزج فيها الإذلال بالسّخط. وبناءً عليه، تتّخذ علاقة التفاوت التي يصوّرها أنس بين “أبناء الأحياء الشعبيّة” و“أبناء الأغنياء”، بعداً معنويّاً يتشابك فيه نفي الاعتراف مع التفاوت في التوزيع المادّي للثروة. فإذا كانت هذه العلاقة قائمة، من جهة، على التفاوت في توزيع الرساميل الماديّة بين الطبقات داخل المجتمع، فهي تُختبر في المعيش اليومي، من جهة أخرى، على أنّها علاقة حيف في توزيع الجدارة المعنويّة المتأتيّة من التمتّع بقسم متساوٍ من هذه الموارد والخيرات بوصفه حقّاً مشروعاً.

من ناحية ثانية، يصف أنس لقاءاته بعناصر الشّرطة بلغة معنويّة صارخة، فهي وضعيّات يشعر فيها بـ”الحُقرة” إلى درجة يخيّل له معها أنّه يعيش” تحت الذلّ”، حيث تتكثّف في هذه اللقاءات تجربة الإقصاء، لا من حيث هي علاقة تفاوت في القوّة فحسب، بل أساساً من جهة أنّها عمليّة تجريد من الاعتبار المعنوي.

وفي حين يمكن المجادلة بأنّ هذه العلاقة تمثّل نمط تفاعل متواتر بين شباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة وأجهزة الشّرطة وأعوانها، في سياق هيمنة أنماط الحكم النيوليبراليّة القائمة على بتر يد الدولة الرّاعية وتعزيز يد الدولة العقابيّة([1])، فإنّ هذا الشكل من اللقاءات بالشّرطة يتردّد وصفه بنفس الوقع واللّغة المعنويّة لدى العديد من الشبّان الجهاديّين.

ومن ذلك، ما يصفه أسعد 38 سنة، وهو شابّ جهاديّ سابق من حيّ دوّار هيشر، في علاقته بالشّرطة وأثرها في تجربة تحوّله الجهاديّة:

أكثر شيء كنت أكرهه في حياتي هو الشّرطة… كرهتهم منذ صغري، وزاد كرهي لهم حين سُجنت أوّل مرّة نظراً لكميّة الضرب والصفع والإهانة التي تلقيّتها… لقد سُجنت سبع مرّات بعد ذلك، منهم مرّتين من أجل تعنيفي لحرّاس السجن… حين بدأت ألتزم دينيّاً وأواظب على الصّلاة في المسجد، هناك تعرّفتُ على مجموعة من السلفيّين الجهاديّين… وبعد فترة قصيرة، بدؤوا باستقطابي إلى المنهج وتعليمي الأصول… أتذّكر حينها أنّ أحدهم قال لي كونهم يعرفون ماضيّ جيّداً، وأنّه يقدّر ذلك لأنّي كنت ضدّ الطاغوت حتى وأنا على ضلالة، وذكر لي حينها قول الرّسول “خياركم في الجاهليّة، خياركم في الإسلام”… وقد كان لكلامه وقع كبير في نفسي”.

أسعد – 38 سنة

وفي كلتا الشهادتين، تبرز اللقاءات اليوميّة والعاديّة بأعوان الشرطة على أنّها تجربة احتقار يتزاوج فيها شكلان من نفي الاعتراف، وهما نفي الحقوق والاعتداء الجسدي. فبالنسبة إلى نفي الحقوق، فهو يبرز في حديث أنس عن الممارسات التمييزيّة التي يفعّلها أعوان الشرطة بين “أبناء الأحياء الشعبيّة” و”أبناء الأغنياء”. وفي نظره، فإنّ تطبيق القانون على الفئتين فيه كيل بمكيالين، فهو تطبيق أعمى وصارم وعنيف حين يتعلّق الأمر بشباب الأحياء الشعبيّة، فيما يتسنّى لأبناء الطبقات العليا الإفلات من القانون، بقوّة الرأسمال الرمزي المتعيّن في الجاه الاجتماعي، والرأسمال الاقتصادي المتعيّن في الثروة الماديّة.

أمّا بالنسبة إلى الاعتداء الجسدي، فيظهر في صورة الحرمان “من السيطرة الذاتيّة التي يمارسها المرء على جسده الخاصّ“، من خلال الضرب أو الاعتداء أو سوء المعاملة السجنيّة، حيث لا يتضمّن فحسب اختبار الأذى، بقدر ما يتضمّن أيضاً اختبار “الشعور بالخضوع التامّ إلى رحمة ذاتٍ أخرى“([1]). كذلك، يشمل الاعتداء الجسدي إخضاع الذّوات عبر مراقبة حركة أجسادها وضبطها في المجال العامّ، وهو شكل طاغٍ من السيطرة اليوميّة يختبره شباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة بكثافة، عبر عديد الممارسات الأمنيّة مثل حملات الشّرطة وعمليّات التثبّت من الهويّة أو المداهمات الفجئيّة.

فعبر مثل هذه الممارسات الأمنيّة، المنغرسة بدقّة في نسيج المعيش اليومي، يتمّ تربيع الأحياء الشعبيّة ومراقبتها وضبط سلوكيّات ساكنتها بوصفها “مناطق خطرة” تمثّل تهديداً للنّظام العامّ. وبهذا، يكتسب الحيّ أو “الحومة”، لدى ساكنيها من الشباب معنى مزدوجاً: فالحومة تمثّل ضرباً من الحمى بما هي مجال انتماء وحماية، كما تمثّل أيضاً مجال اخضاع ونبذ. وفي هذا الصدد، يخبرنا عليّ 25 سنة، وهو شابّ من حيّ “دوّار هيشر”، ضمن سياق تفكّره في تجربته السجنيّة القصيرة: “لا فرق بين أن تكون في الداخل أو في الخارج… في السجن أو في الحومة… ففي تونس، حتى في الـcivile كلّنا مرابيط“. وفي كلّ الحالات، يؤدّي اختبار هذه التجارب اليوميّة من الإخضاع والنبذ والاحتقار إلى إنتاج تشكيلة ذاتيّة يقع الإذلال في القلب منها.

ضمن مقابلة بحثيّة أخرى مع أنس، سألناه عن الفروق بين ضروب المقاتلين التونسيّين الذين “هاجروا” إلى الدولة الإسلاميّة وانخرطوا في صفوفها، فكانت إجابته:

لكلّ منهم نموذجه وقدوته… فهناك الاستشهادي الذي تراه يبغي “الدقمة” ويرغب في أن يفجرّ نفسه في العدوّ مسبّباً فيه الضرر حتى ينال الجنّة مباشرة… وهناك الاقتحامي الذي يكون مثله مثل بقيّة الجنود يقاتل في المعارك إلى أن ينال الشهادة… وهناك الانغماسي، الذي يندسّ في صفوف العدوّ وخطوطه الخلفيّة، فيُثخن فيه ما أمكنه ذلك من ثمّ يخرج سالماً… من قبل، كنتُ مولعاً بسيرة خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، فهو عقل عسكري كبير وقائد سيّر جيوشاً وفتح بلداناً… ذاك قدوتي، لذلك اخترت أن أكون مقاتلاً انغماسيّاً… فأنا أبغي الموت بعد الإثخان في العدوّ، فإمّا أن أُقتل أنا، أو يُسَلّم هو أمره… أبغي أن أفتح بلداناً وأنشر الدين وأقاتل الكفّار حتى تكون كلمة الله هي العليا”.

أنس – 33 سنة

ومجدّداً، نجد أنفسنا هنا إزاء نفس السؤال الذي استهللنا به هذه الورقة: كيف نفهم التحوّل السردي بين المقطعين الذين أوردناهما من شهادة أنس البحثيّة، من بناء سرديّ لذات محتقَرة ومذلولة وممحوقة، إلى بناء سرديّ آخر لذات فائقة ومتمكّنة وقاهرة؟ إنّ واحدة من الفرضيات التفسيريّة الممكن طرحها، هو فهم هذا التحوّل بوصفه مسار تحوّل جوهري. حيث يؤشّر التحوّل الجوهري على السيرورة التي تكتسب من خلالها الكائنات أو الأشياء قيمة أو رأسمالاً رمزيّاً لا تتوفّر عليهما بحكم أصالتها، ممّا يمنحها جوهراً مغايراً. وقد صاغ بيير بورديو هذا المفهوم ضمن نظريّته عن الهيمنة الرمزيّة، وتحديداً في وصفه السيرورات التي تُكتسب من خلالها المنتجات الثقافيّة والشهادات العلميّة قيمة الرّفعة أو النّبالة، من خلال تكريسها عبر المؤسّسات المحتكرة للشرعيّة الرمزيّة ضمن الفضاء الاجتماعي. وفي بعض المواضع، يؤشّر بورديو على المفهوم بمصطلحات رديفة، مثل السحر الاجتماعي أو الخيمياء الاجتماعيّة. فمثله مثل السّحر والخيمياء، يمرّ التحوّل الجوهري بالأساس عبر الاعتقاد في القدرة الرمزيّة التي تدّعيها قوّة ما على تحويل جواهر الموادّ والكائنات، حتى تترقّى أنطولوجيّاً.

في هذا الصدد، سنكتفي بطرح فرضيّة مفادها أنّ مسارات التطرّف الجهادي لشباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة، تمثّل مسارات تحوّل جوهري يترقّون عبرها أنطولوجيّاً من وضعيّة إذلال إلى وضعيّة تفوّق مبنيّ على الاعتقاد في الانتماء إلى نخبة دينيّة مصطفاة، يؤدّي ضمنها مفعول القوّة الرمزيّة التي تتوفّر عليها الطوبى الجهاديّة دوراً مهمّاً. فمثلها مثل جلّ الطوباويّات، تمثّل الطوبى الجهاديّة “نمط خيال اجتماعي“تكمن ميزته الأساسيّة في قدرته على نقل الخيال من فضاء الواقع الرّاهن إلى فضاء واقع مفارق لم يتحقّق بعد. و”من أجل القدرة على الحلم بواقع آخر”، على نحو ما يؤكّد بول ريكور، “ينبغي أوّلاً ضمان اكتساب هويّة سرديّة، من خلال التأويل المتجدّد للتقاليد التي نستند عليها في ذلك“، وهذا عين ما نستكشفه في شهادة أنس البحثيّة، إذ أنّ تحوّله من ذاتيّة خاضعة حيث كان “يحسّ كأنّه يعيش تحت الذلّ“، إلى ذاتيّة فائقة حيث “يبغي فتح بلدان ونشر الدين وقتال الكفّار“، يمثّل بناءً لهويّة سرديّة من خلال اقتدائه بنموذج تأويلي متخيّل متعيّن في سيرة الصحابي خالد بن الوليد. ففي مقابل الواقع الرّاهن الذي يجعل منهم أفراداً خاضعين وممحوقين ومذلولين، تطرح الطوبى الجهاديّة على أمثال أنس من شباب الأحياء الشعبيّة التونسيّة، إمكانيّة استئناف واقع آخر يكونون فيه أفراداً فاعلين وقاهرين وفائقين، عبر التماهي مع تصوّرات مثاليّة لأبطال تاريخيّين مستمدّة من نموذج تأويلي مخصوص لتاريخ الإسلام. ومن ذلك، نقرأ في نصّ صدر عن “كتيبة عقبة بن نافع”، الفرع الأساسي لـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” بتونس، تنعى فيه اثنين من مقاتليها لقيا حتفهما في عمليّة شنّتها ضدّها قوّات الأمن والجيش التونسيّة:

“…في الوقت الذي كانت فيه قوافل الشباب المغرّر بهم تخوضُ البحار على مراكب الموت، زرافاتٍ ووحداناً تشوُّفًا لعيشة رغيدة خلف البحار، كان أبطال الإسلام وشباب الإيمان يبحثون عن مواطن العزِّ والاستشهاد، ليبرهنوا للعالم أجمع بأنّ روح التضحية والفداء لا زالت راسخة في أمّة الإسلام، يضخّها الآباء والأمّهات دماً دفّاقاً في عروق الأبناء، لا يمكن لأيّ قوّة متغرطسة على وجه الأرض استئصالها، ومن يسدّ طريق العارض الهطلِ؟! إنّها ظاهرة عجز الغرب الكافر وأذنابه من حكام الرِّدّة عن استيعابها، فسخّروا كلّ طاقاتهم وأجهدوا أنفسهم عبر مكرٍ خبيث لإغراق الشباب المسلم في مستنقعات الرذيلة والضياع…، فيتحوّل أولئك الشباب وبصناعة الله إلى فرسان يذودون عن الإسلام، شباب يخرجون من قاعات اللَّهو والغناء إلى ساحات المدافع والقنابل، شباب لطالما رابط على مدرّجات الملاعب يحملون أعلام الأندية، يرابطون اليوم على خطوط القتال الأولى وهم يحملون رايات الجهاد بيمينهم وبالأخرى سلاحهم، ولكنّ هذا التحوّل وللأسف هو حال القليل من شباب الأمّة، لتبقى الأغلبيّة الغالبة خارج مجال التغطية… فعليك يا أخي بسيرة هؤلاء، فلن تعدم نوراً من أنوارهم تضيء به دربك، وبلسماً يقطع عنك الهمّ والغمّ، وينبوعاً من الماء الزُّلال يُذهب عنك ظمأ الحياة، فهي سِيَرٌ تعيد سِيَرَ الصالحين الأوّلين من سلفنا الصالح التي جَمَعَت بين جميع أحوال المؤمن في هذه الدنيا، من الهداية إلى الصدع بالحقّ إلى الهجرة ثمّ الجهاد والثبات، ثمّ في الختام الشهادة”.

إنّ التحوّل الذي يتحدّث عنه بيان هذه المجموعة الجهاديّة، هو تحوّل جوهري لفئات شبابيّة من ذاتيّات خاضعة ومستلبة إلى ذاتيّات فائقة وبطوليّة، بوصفها جزءًا من الطّائفة المنصورة الموكول لها تحقيق العود الأبدي الموعود لزمن التمكين والسطوة المنقضي، تبعاً لنموذج تأويلي مؤسطر لتاريخ القرون الثلاثة الأولى من الإسلام. ومن لدنّ هذا النموذج، تشكّل هذه الفئات من الشباب سرديّات هوويّة تصير عبرها ذواتاً فائقة، تكتسب تفوّقها المتخيّل من التفوّق المثالي لأيقونات نموذجها المؤسطر، فكأنّها سرديّات محبوكة على طراز “سِيَر تُعيد سِيَر الصالحين الأوّلين من السلف الصالح” في زمن الإخضاع والاحتقار والإذلال الحاضر. فالعالم الاجتماعي، يُمثّل بالنسبة إلى فئات واسعة من الشباب التونسي، بفعل الهشاشة الاقتصاديّة وانحصار دوائر الإدماج وتعطّل إواليّات الصعود الاجتماعي وموروث الاستبداد السياسي الكاسح، كليّة ساحقة يختبرون تحت وطأتها نفي الاعتراف في شكله الجذري، إلى حدّ أن يصير “عالماً لا يقدر فيه على البقاء سوى البطل. حيث يغدو الانضمام إلى الفيالق الجهاديّة والدفاع عن إسلام “قويّ وقاهر” نمط بقاءٍ، ووهماً هستيريّاً بالاندماج ضمن فضاءٍ يحمي ويرتق نرجسيّة مفتوقة“.

وإذا كان هذا المسلم الفائق يتمثّل نفسه بطلاً، إلاّ أنّه “بطل سلبي” بتعبير فرهاد خوسروخوفار، أي أنّ بطولته ليست بطولة إيجابيّة تتأتّى من سعيه إلى الاندماج في المجتمع والنجاح ضمنه ونيل تقديره الإيجابي، بل بطولة سلبيّة تتأتّى من سعيه إلى إخضاع المجتمع لإرادة تفوّقه، عبر إرهابه. لذلك، فإنّه كلّما زاد كره المجتمع له، كلّما تعزّز إحساس البطل السلبي بالتفوّق، بحيث لم يعد هذا الكره يمثّل في نظره علامة نبذ وإقصاء وتحقير، بل علامة مفاصلة تؤكّد تفوّقه على المجتمع الذي حقّره سابقاً. وصراع البطل السلبي ليس صراعاً من أجل الاعتراف، أي من أجل استعادة مكانته المعنويّة المسلوبة ضمن النظام الاجتماعي المحقّر له، بل صراعاً من أجل التفوّق المطلق ضدّ هذا النظام. وبعبارة أخرى، فإنّ البطل السلبي لا يبحث عن “نيل الاعتراف من هيئة الاعتراف العليا القائمة…، بل إلى تنصيب نفسه كمانح أعلى للاعتراف…، ينبغي على الآخرين انتظار اعترافه وتلمّسه منه“، وهو صميم ما يعبّر عنه مقطع دالّ من شهادة أنس، حين يصرّح: “أنا أبغي الموت بعد الإثخان في العدوّ، فإمّا أن أقتل أنا، أو يُسَلّم هو أمره“.

ما العمل لمناهضة تحوّل هذه الفئات من الشباب التونسي نحو التطرّف الجهادي، بما تخلّفه آثار العنف والإرهاب على المجتمع من آثار مدمّرة؟

منذ اندلاعها في ربيع سنة 2011، ما يزال مسار الثورة التونسيّة مستمرّاً عبر نضالات طيف واسع من الحركات الاجتماعيّة والمدنيّة الشبابيّة التي تشكّلت في خضمّها. ورغم اختلاف رهاناتها وديناميّاتها وفاعليها، فإنّ هذه الحركات تشترك في مطلب أساسي يُشكّل رابطاً يصلها أفقياً ببعض، وهو الكرامة باعتبارها الشكل الأوّلي من الاعتراف السياسي المؤسّس للمواطنة. ولعلّ الرهان على دعم هذه الحركات الاجتماعيّة وتجذيرها مجتمعيّاً في صراعاتها من أجل الاعتراف والإدماج والمواطنة، قد يدعّم قدرتها على حشد فئات الشباب المقصيّة والمذلولة ضمن تحوّلات جوهريّة نحو ذاتيّات مواطنيّة، وتطرح عليها أطراً وخطابات تتوسّل النضال ديمقراطيّاً ومدنيّاً من أجل نظام اجتماعي عادل، عوض أطر وخطابات الحركات الجهاديّة المتطرّفة. وقد يكون ذلك خياراً في النضال السياسي يطرح على الشباب بديلاً مواطنيّاً عن التطرّف، كما يناضل في الآن نفسه من أجل تغيير النظام الاجتماعي القائم المساهم في إنتاج شروط التطرّف.

المصدر : مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان___ 9سبتمبر 2020

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *