أثار تعاطي حكومة الائتلاف مع عجز ميزانية الدولة والمسار الذي انخرطت فيه لمواجهته عبر مزيد الضغط على كتلة الأجور والمرشح أن يصل الى حد التخفيض في الأجور وجرايات التقاعد، والذي كشف عنه رئيس الحكومة في الحوار التلفزي بتاريخ 14 جوان 2020 ، اثار استنكار المواطن ورفض المنظمة الشغيلة .

هذا الرفض عبر عنه الاتحاد العام التونسي للشغل في بيانه الأخير الصادر عن مكتبه التنفيذي بتاريخ 17 جوان 2020 وحذر فيه الحكومة من مخاطر المساس بأجور العمال والموظفين ومن انتهاك حقوقهم المكتسبة.
في المقابل بقي ملف التوازنات المالية الخارجية المتعلقة بعجز الميزان التجاري وعجز ميزان الدفوعات من المواضيع التي يخيم عليها التكتم والتعتيم الإعلامي، وباستثناء بيانات مجلس إدارة البنك المركزي التي تتعرض له من زاوية عجز ميزان الدفوعات الذي يبقى من مشمولاته، فان الحكومة تصر على تجاهل التوازنات المالية الخارجية التي تبقى من مشمولاتها أيضا من زاوية سياسة التجارة الخارجية التابعة لوزارة التجارة.
اختلال التوازنات المالية الخارجية لا تقل خطورة عن اختلال التوازنات المالية الداخلية المتعلقة بعجز ميزانية الدولة. ولئن انخرطت حكومة الفخفاخ للضغط على عجز ميزانية الدولة في نفس الخيارات التي اتبعتها الحكومات السابقة وهي خيارات تستند الى وصفة صندوق النقد الدولي والتي تمر عبر الضغط على النفقات عوض العمل على تحفيز الاقتصاد لتطوير الموارد الجبائية للميزانية، فقد اتبع البنك المركزي في تحليله لعجز ميزان الدفوعات والحلول المقترحة للخروج من أزمة تعبئة الاحتياطي من العملة الصعبة نفس المنهج الذي يقوم على وصفة صندوق النقد الدولي والمتمثل في التحرك على مستوى دفع الصادرات عوض التحرك في مستوى الواردات في اتجاه ترشيدها وتقليصها بما يسمح بحماية نسيجنا الاقتصادي وحماية مواطن الشغل وضمان موارد جبائية للدولة.
ورغم أنه لم يبق لنا ما نصدر في ظل سياسة مالية عمومية وسياسة نقدية مدمرة وغير محفزة للاستثمار، تصر الحكومة والبنك المركزي على الانضباط لما يروج له صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في البلدان التي أحكما سيطرتهما عليها، من أنه طالما وأننا نصدر لا بد اذن من أن نورد…نورد مواد أساسية من حبوب وزيوت نباتية وحليب… تدعمها ميزانية الدولة …ونورد السيارات التي يدعمها القطاع البنكي من خلال سياسة الاقراض عوض توجيهها نحو الاستثمار وبعث مشاريع لخلق مواطن شغل وتعزيز الموارد الجبائية للميزانية…
ما يعمق خطورة ملف عجز الميزان التجاري وعجز ميزان الدفوعات ما جاء في البيان الأخير للبنك المركزي الصادر بتاريخ 27 ماي 2020 والذي توقع فيه تراجعا هاما للعائدات السياحية ومداخيل الشغل والتي تشكل من أهم المصادر الذاتية للموجودات من العملة الصعبة. هذا التراجع سيشمل أيضا الصادرات التونسية ونقصد بها صادرات الشركات المقيمة باعتبار توقف الإنتاج وصعوبة العودة للنشاط الاقتصادي. ولئن يروج اليوم لعجز تجاري في تقلص بسبب تراجع التوريد، للتخفيف من خطورة اختلال التوازنات المالية الخارجية، فان الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء تفند ذلك.
فنسبة تغطية الواردات بالصادرات في مستوى النظام العام للتصدير، بعيدا عن احساب المبادلات التجارية التي تتم في إطار نظام التصدير الكلي والتي تقوم على المغالطة وتضخيم صادرات لا نجد لمداخيلها أثرا في الاحتياطي من العملة الصعبة، تعكس وتترجم حقيقة ميزان الدفوعات وحقيقة العجز الجاري. فهذه النسبة حافظت تقريبا على مستوياتها مقارنة بنفس الفترة من سنتي 2019 و2018 لتبلغ خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة الجارية 34 بالمائة مقابل 27 بالمائة في سنة 2019 و30.8 بالمائة في سنة 2018 .
وأمام تصريح رئيس الحكومة الذي بشرنا بعدم اللجوء الى الاقتراض الخارجي مستقبلا، وفي ظل ما جاء في بيان البنك المركزي بخصوص التراجع الهام المنتظر للعائدات السياحية ومداخيل الشغل، وفي ظل توقف التصدير، باستثناء الفسفاط ومشتقاته والطاقة في صيغتها الخام، فان الاحتياطي من العملة الصعبة الذي يعتمد اليوم أكثر على القروض الخارجية مهدد بالانهيار لينهار على إثره الدينار التونسي.
ولئن لا يمكن المقارنة مع ما يحدث اليوم لليرة اللبنانية باعتبار أن هذه الأخيرة محررة بما ساعد على تهريب العملة بصفة مباشرة، فان عمليات التهريب اليوم التي تسجلها بلادنا عبر الفوترة المضخمة ومسالك المبادلات التجارية في إطار نظام التصدير الكلي يمثل تهديدا حقيقيا للدينار الذي ينتظره زلزال ناعم في الأشهر القليلة القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *