من بين كل الزوايا المهمة والهامشية المتعلقة باغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، غابت الزاوية الأهم -بنظرنا- عن النقاش، وهي دلالات الحادثة على طبيعة علاقة الولايات المتحدة مع المنطقة، وما هو الدرس الذي يمكن لأبناء المنطقة عربا وأتراكا وإيرانيين أن يتعلموه من التطورات الأخيرة.

من صدام حسين إلى سليماني.. من يتعلم؟

عندما شنت الولايات المتحدة عدوانها على العراق عام 2003، رحبت ميليشيات شيعية حليفة لإيران بالعدوان، واعتبرته طريقا مشروعا للقضاء على صدام حسين، بسبب عدائها معه لسنوات طويلة.

الموقف الإيراني لم يختلف عن موقف هذه الميليشيات، وإن كانت طهران لم تعلن تأييدها صراحة للعدوان، إلا أنها عمليا كانت سعيدة به لأنه سيخلصها من عدو لدود، كما أنه سيقرب حلفاءها من الميليشيات والأحزاب الشيعية من حكم العراق، بما يتيح لها نفوذا كبيرا في هذا البلد العربي المهم.

وبالفعل، استفادت إيران من احتلال العراق، فقد أصبحت البلد الأكبر نفوذا في البوابة الشرقية للوطن العربي، وأصبح حلفاؤها -أو أتباعها بصورة أدق- هم من يحكمون بغداد، بكل ما يعني ذلك من نفوذ سياسي وأمني واقتصادي لطهران.

أدى النفوذ الإيراني لبناء نظام حكم طائفي في العراق، وهو أمر لم تكن تعارضه واشنطن في ذلك الوقت، بل اعتبرت لقصر نظرها ورؤيتها الاستشراقية، أنه الحل الأمثل لبلد متعدد الأعراق والطوائف مثل العراق، وكانت النتيجة أن الميليشيات الشيعية باتت صاحبة اليد الطولى في بغداد، وفوقها وأعلى منها اليد الإيرانية بالطبع.

التدخل الأمريكي لم يكن في يوم من الأيام لصالح أبناء المنطقة، وأنه كان دوما عاملا لتفجير الصراعات بين أبناء الوطن الواحد أو بين هذه الدولة أو تلك، ولذلك فإن من العبث أن نتوقع أن يمثل اغتيال سليماني مصلحة لأبناء المنطقة

بالمقابل، كانت غالبية العرب السنة ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، باعتبار أنه سيمنح إيران وحلفاءها “الشيعة” نفوذا وسلطة على حسابهم، وهو ما حصل فعلا بعد الاحتلال وإسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين.

ظل الطرفان السني والشيعي بين مد وجزر تجاه التواجد الأمريكي في العراق. فعندما حصلت إيران وحلفاؤها على السلطة والنفوذ اعتقدوا أن الوقت قد حان لإنهاء الوجود الأمريكي، وهو الأمر الذي عارضه في ذلك الوقت العرب السنة الذين اعتبروا القوات الأمريكية ضمانا لمنع تغول أكبر من الأحزاب والميليشيات الشيعية وطهران.

ولكن المعادلة تغيرت عندما سيطر تنظيم الدولة على مدينة الموصل، حيث رأى فيه كثير من العرب السنة، خصوصا في البدايات، خلاصا من العنف الطائفي الذي تمارسه ميليشيات تابعة للحكومة وإيران، بينما عادت الأطراف الشيعية لترى في أمريكا خلاصا لها من تنظيم “داعش”، فعملت تحت قيادتها وقيادة قوات التحالف للقضاء على التنظيم واستعادة الموصل.

بعد انتهاء المهمة، عاد الطرفان لنفس التموقعات، فالشيعة وإيران يريدان العراق خالصا لهم، فيما يرى العرب السنة أن الوجود الأمريكي يشكل عامل توازن للمعادلة.

ومع اغتيال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، أصبحت الصورة أكثر وضوحا، فالبرلمان بأغلبيته الشيعية يصوت لخروج الولايات المتحدة من العراق، فيما يغيب الأكراد والعرب السنة عمدا عن الجلسة، فيما يظهر أنه رفض ضمني للتصويت.

لا حل لهذه المنطقة إلا بحوار سياسي استراتيجي بعيدا عن سطوة التدخل الأمريكي، والوصول لمصالحات تاريخية في الإقليم، فالتدخل الأمريكي ليس عاجزا فقط عن الحل، بل هو عامل تفجير، ستدفع شعوب المنطقة جميعها ثمنه الباهظ!

وقف الشيعة وإيران مع أمريكا ضد صدام حسين، ثم انتظروا ستة عشر عاما ليدركوا أن الولايات المتحدة لم تطح بصدام لأجل “سواد عيونهم”، والآن يصفق العرب لعملية اغتيال قاسم سليماني وكأن أمريكا فعلت هذا انتقاما لضحاياها الذين تسبب سليماني بقتلهم، ولا ندري كم سنة سينتظرون ليدركوا أن الاغتيال لن يحل أزماتهم لا مع إيران ولا مع أبناء وطنهم من الشيعة.

الدرس الأهم من الحدث

لا يحتمل طول المقال ذكر المزيد من الأمثلة حول طبيعة العلاقة الأمريكية مع أبناء المنطقة، من سوريا التي سمحت لها واشنطن بنفوذ كبير في لبنان عبر اتفاق الطائف قبل أن تحشد حلفاءها في المنطقة لطردها من بيروت، إلى أفغانستان التي دعمت أمريكا “مجاهديها” ضد الاحتلال السوفييتي قبل أن تعود لاحتلال بلادهم.

ولكن المهم من هذا التاريخ بكل ثقله وحضوره، هو أن التدخل الأمريكي لم يكن في يوم من الأيام لصالح أبناء المنطقة، وأنه كان دوما عاملا لتفجير الصراعات بين أبناء الوطن الواحد أو بين هذه الدولة أو تلك، ولذلك فإن من العبث أن نتوقع أن يمثل اغتيال سليماني مصلحة لأبناء المنطقة، بغض النظر عن رأينا بدوره السلبي والدموي في سوريا واليمن والعراق، كما أن من الوهم لبعض الأطراف العربية، وخصوصا العرب السنة في العراق أن يتوقعوا أن الاغتيال يمثل تموضعا أمريكيا جديدا لصالحهم.

إن الدرس الأهم هو أن أمريكا في علاقتها مع المنطقة لا يمكن أن تمثل حليفا حقيقيا، ولا يمكن الاعتماد عليها، ولا يمكن أن تمثل حلا لأي أزمة من أزمات المنطقة، لأنها تبقى أولا وأخيرا قوة استعمارية تبحث عن مصالح، لا عن صداقات، ولذلك فإن العتب ليس عليها وإنما على من يعتبرها صديقا، ومن يظن أنها ستدافع عنه بمواجهة أبناء بلده أو أبناء الإقليم.

لا حل لهذه المنطقة إلا بحوار سياسي استراتيجي بعيدا عن سطوة التدخل الأمريكي، والوصول لمصالحات تاريخية في الإقليم، فالتدخل الأمريكي ليس عاجزا فقط عن الحل، بل هو عامل تفجير، ستدفع شعوب المنطقة جميعها ثمنه الباهظ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *