ندوة بتاريخ 11 نوفمبر 2015 

 

جنات بن عبد الله

السيد رضا بن مصباح المستشار الاقتصادي لدى رئيس الحكومة،

السيدة لورا بييزا سفيرة المفوضية الأوروبية بتونس،

السيدات و السادة الحضور الكريم،

 

يسر المؤسسة العربية و الافريقية للدراسات الاستراتيجية ابن رشد أن تساهم في اثراء الحوار الذي انطلق بين تونس و الاتحاد الأوروبي حول مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق والذي ادرج ضمن أولويات الوثيقة التوجيهية للمخطط الخماسي للتنمية 2016 – 2020 حيث يرمي هذا الاتفاق حسب ما جاء في كلمة السيدة سيسيليا مالم ستروم المفوضة الأوروبية للتجارة أثناء زيارتها الأخيرة الى تونس، يرمي الى  “ضمان اندماج تدريجي للاقتصاد التونسي في السوق الأوروبية الموحدة ” كما ينتظر من هذا الاتفاق أن يعطي دفعا لتنافسية الاقتصاد التونسي ويمكن المنتوجات التونسية من نفاذ أحسن الى السوق الأوروبية. وقد نبهت المفوضة الأوروبية في كلمتها الى ضرورة تحلي الطرفان بالحذر لعدة أسباب لخصتها في عدم وجود عنصر التكافؤ، ومن هذا المنطلق يقترح الاتحاد الأوروبي مقاربة غير متوازنة وتدريجية باعتبار التحدي الذي تشكله هذه الاتفاقية والذي يقتضي إصلاحات هامة.

و اعتبرت المفوضة الأوروبية أن نتائج اتفاقية الشراكة لسنة 1995 هي إيجابية جدا حيث بعد عشرين سنة على امضائها أصبح الاتحاد الأوروبي على يقين “من القدرات الكامنة في الاقتصاد التونسي لضمان التقارب التجاري بين الطرفين “. وتضيف “أن الصادرات التونسية نحو أوروبا كادت أن تبلغ ثلاثة أضعاف ما كانت عليه وأن 3 الاف شركة استقرت في تونس وخلقت حوالي 300 ألف موطن شغل.

فإلى أي مدى نجد لهذه المقاربة الأوروبية اثارها في الاقتصاد التونسي، وهل تم بالفعل مراعاة عنصر عدم التكافؤ عند التفاوض حول اتفاقية سنة 1995 بما يمهد الطريق اليوم لتوسيع نطاق مشروع الاتفاقيةالمقترحة  لتشمل قطاعي الفلاحة والخدمات الى جانب الاستثمار؟

مسار برشلونة وامال بناء مشترك لمنطقة سلام وأمن وازدهار

أعلنت تونس والاتحاد الأوروبي رسميا يوم 19 أكتوبر الماضي عن انطلاق المفاوضات حول اتفاقية التبادل الحر الشاملة والمعمقة. ويأتي هذا الاتفاق في إطار مسار برشلونة أو ما يسمى بمشروع الشراكة الأورو-متوسطية “الأوروماد” في سنة 1995 ببادرةمن الاتحاد الأوروبي وذلك بالاتفاق مع عشرة بلدان مطلة على الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط من بينها ثماني بلدان عربية وهي الجزائر و السلطة الفلسطينية و مصر و الأردن و لبنان و المغرب  و سوريا و تونس إضافة إلى  تركيا  و إسرائيل ثم التحقت كلا من موريتانيا و ألبانيا لعضوية “الأوروماد” في سنة 2007. بينما تحصلت ليبيا على صفة “مراقب” في سنة 1999.

وقد انطلق مسار برشلونة في نوفمبر 1995 ويستند إلى مبادئ الحوار و التعاون  كماجاء في نص البيان الصادر عن اجتماع القمة التأسيسية و التي تتمثل في” العمل على  البناء المشترك لمنطقة سلام و أمن و ازدهار تشمل كل الأطراف“. و لتحقيق هذه الأهداف يعتمد هذا المشروع على” خطط عملية تشمل الجانب السياسي و الاقتصادي و المالي و الثقافي و الاجتماعي.

كما أعلن بيان برشلونة وبكل وضوح “أنه على المستوى الاقتصادي يرمي هذا المشروع  الىخلق منطقة تبادل تجاري حر بداية من سنة 2010 مما يعني تفكيك كل المعاليم الجمركية التي انطلقت بالمنتوجات الصناعية منذ سنة  1995 و التي تهدف إلى تعميم هذا التفكيك ليشمل قطاع  الخدمات و قطاع الفلاحة و المنتوجات الغذائية”.

وفي إطارهذا المسار أي مسار  برشلونة  واصل الاتحاد الأوروبي تحركه للإعلان عن مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق المطروح حاليا على الحكومة التونسية.

 

الأسس النظرية لاتفاقيات الشراكة ومناطق التبادل الحر

بينت البحوث في مجال التنمية أهمية دور التجارة الدولية كمحرك للنمو وكألية لضمان الاندماج في الاقتصاد العالمي. وقد كشفت الدراسات الميدانية عن عدم وجود علاقة الية بين التجارة الدولية من جهة والتنمية والنمو الاقتصادي من جهة أخرى خاصة في البلدان النامية والاقل نموا حيث يتطلب ذلك توفر شروط تتعلق بعديد المسائل والتي تشكل محور مداخلتنا اليوم.

ولعل البحوث التي قام بها رودريقوورودريقاز في سنة 1999 تعتبر من أهم البحوث التي تناولت هذه العلاقة من عديد الجوانب. هذه البحوث جاءت في اطار إعادة قراءة أبحاث ومساهمات باحثين اعتمدوا على مؤشرات الانفتاح على الأسواق الخارجية. وكشفت بحوث رودريقورودريقاز عن عجز هذه المؤشرات في تفسير العلاقة بين الانفتاح والنمو الاقتصادي والتنمية،ليتجه البحث في غياب مؤشرات دقيقة نحو القيام بدراسات مقارنة بين مجموعات من البلدان للوقوف عند حقيقة وطبيعة هذه العلاقة.

وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد بالدراسات التي قام بها المركز الافريقي للسياسة التجارية التابع للجنة الاقتصادية لافريقياLacommission économique pour l’Afrique التابع لمنظمة الأمم المتحدة

والتي حاولت البحث في أسباب فشل سياسات التجارة الخارجية في البلدان الافريقية و محدودية اثارها في بناء القدرة التنافسية لاقتصادياتها وتأمين اندماجها في الاقتصاد العالمي مقارنة بتجربة بلدان جنوب شرقي اسيا.

ويمكن تلخيص الاستنتاجات التي توصلت اليها عملية المقارنة فيما يلي:

لقد تعاطت اقتصاديات بلدان جنوب شرقي اسيا مع السياسة التجارية ليس كخيار بين الانفتاح والتحرير من جهة والحماية والمراقبة من جهة أخرى بل حاولت هذه الاقتصاديات توظيف السياسة التجارية لتدعيم الخيارات التنموية الوطنية في إطار المراوحة بين الانفتاح من جهة والمراقبة والحماية من جهة أخرى قصد بناء القدرات التنافسية لكل القطاعات الاقتصادية.

ومن هذا المنظور بينت الدراسات أن هناك نوعان من استراتيجيات الانفتاح. فهناك سياسات تجارية سلبية تترجم عن علاقة غير ديناميكية بين الاقتصاد الوطني والاقتصاد العالمي، وهذه النوعية ساهمت بدرجة ضعيفة جدا في تحقيق أهداف بناء القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني وتحقيق الاندماج في الاقتصاد العالمي، وهذا النوع طبقته البلدان الافريقية ومنها تونس.

أما النوع الثاني والذي طبقته بلدان جنوب شرقي اسيا فيعتبر الانفتاح كعنصر ديناميكي في السياسة التنموية حيث حاولت هذه البلدان استغلال السياسة التجارية في حراك وتفاعل مستمرين بين السوق الداخلية والسوق الخارجية من خلال المراوحة بين الانفتاح ومراقبة الانفتاح بما يخدم القطاعات الاقتصادية ويستجيب لمتطلباتها دون اغفال متطلبات السوق العالمية ولكن في حدود تضمن عدم الحاق الضرر بمنظومة الإنتاج وبأولويات التنمية الوطنية.

لقد تعاملت اقتصاديات بلدان جنوب شرقي اسيا مع السياسات التجارية كمصدر للنمو والتنمية وكألية لتحقيق الاندماج في الاقتصاد العالمي وسيطرت بفضل هذه الرؤية على الميزان التجاري من خلال التشجيع على توريد حاجيات الاقتصاد الوطني من مواد التجهيز والتكنولوجيا القادرة على خلق ديناميكية تنموية. كما شجعت على التصدير ولكن ليس في إطار المناولة بل استجابة لمتطلبات السوق العالمية دون المس بتوازناتها. وقد استطاعت بفضل ذلك تحفيز الاستثمار والقيام بإصلاحات هامة في مجال التربية والتعليم والبحث العلمي وتعصير القطاع الفلاحي وإقرار سياسة صناعية ترمي الى تدعيم القطاعات الموجهة نحو السوق الداخلية والتحكم في سلسلة الإنتاج وضمان نقل التكنولوجيا عبر المواد الموردة وليس عبر الاستثمار الأجنبي المباشر.

من جهة أخرى لابد من الإشارة الى اتفاقية “الألينا” اتفاقية التبادل الحر لبلدان شمال افريقيا لسنة 1994 التي جاءت على خلفية سعي الولايات المتحدة الأمريكية التي تتمتع برأس المال والتكنولوجيا، الى الاستفادة من الموارد الطبيعية في كندا واليد العاملة الرخيصة والأراضي الواسعة في المكسيك لاستغلالها لانتاج الوقود الحيوي. وفي إشارة سريعة لنتائج واثار هذه الاتفاقية على الاقتصاد المكسيكي التي تم تطبيقها في غياب عنصر عدم التكافؤ بين الولايات المتحدة والمكسيك سجل عدد الفقراء في المكسيك ارتفاعا كبيرا من سنة 1994 حيث كان العدد في حدود 12 مليون شخص ليبلغ 50 مليون في سنة 2008 من بينهم 20 مليون يعيشون تحت عتبة الفقر. الى جانب ذلك  تشير الدراسات الى أن القطاع الفلاحي قد دمر كليا أمام المنافسة غير المتكافئة بين الولايات المتحدة والمكسيك حيث أن انخفاض أسعار المواد الغذائية في الولايات المتحدة كان وراء عزوف الفلاحين على الإنتاج وهجرة أراضيهم بحثا عن مورد رزق اخر، هذا فضلا عن فرض الولايات المتحدة إجراءات حمائية أحادية الجانب في حدودها مع المكسيك تسمح لها برفض نفاذ المنتوجات الفلاحية من المكسيك الى أراضيها.

 

من هذه الزاوية كيف يمكن تقييم التجربة التونسية وتعاطيها مع السياسات التجارية في إطار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 وهل وفقت في تدعيم القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني وضمان مزيد اندماجه في الاقتصاد العالمي؟

 

التجربة التونسية وظروف امضاء اتفاقية الشراكة لسنة 1995

منذ سنة 2011 كانت مؤشرات التجارة الخارجية تطلق صيحات الإنذار بتدهور الميزان التجاري وتفاقم عجز ميزان المدفوعات وتنامي التجارة الموازية وتفاقم ظاهرة الإغراق.وعلى عكس ما يعتقده البعض فان أسباب هذا الوضع لا تعود الى ما عرفته تونس بعد 14 جانفي 2011 ولكن هو نتيجة تراكمات الخيارات السياسية ومنوال التنمية ومجلة تشجيع الاستثمار والتي تندرج كلها في إطار تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الوطني منذ سنة 1986 وتطبيق اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995.

ففي ظل برنامج الإصلاح الهيكلي والذي اعتمدته تونس بتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على أساس ما يسمى بتوافق واشنطن والذي يستند الى العلاقة الإيجابية والالية بين الانفتاح على الخارج والنمو الاقتصادي وبالتالي اعتبار التصدير كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي، اتجهت الإصلاحات الاقتصادية نحو تحقيق التوازنات المالية من خلال السيطرة على الطلب الداخلي، والعمل على تشجيع القطاعات الموجهة نحو التصدير قصد تقليص عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، واعتماد إصلاحات هيكلية ترمي الى إعطاء امتيازات للمؤسسات المصدرةعلى حساب المؤسسات الموجهة نحو السوق الداخلية من خلال مجلة تشجيع الاستثمارات.

وترمي هذه الإصلاحات الى مزيد تحرير المبادلات التجارية من خلال تقليص المعاليم الجمركية والتخلي تدريجيا عن سعر صرف قار وتخفيض قيمة العملة الوطنية كآلية لتدعيم القدرة التنافسية في الأسواق العالمية.

ولئن شهدت فترة تسعينات القرن الماضي تحسنا لنسبة النمو الاقتصادي ليستقر في معدل 5 بالمائة فهي تستمد ايجابيتها من تفوقها على نسبة النمو الديمغرافي حيث أنها لم تساهم في تخفيض الفقر ولا تقليص البطالة ولا تقليص عجز ميزانية الدولة. أما على المستوى القطاعي فقد شهدت مساهمة القطاع الفلاحي في الناتج المحلي الإجمالي تراجعا كما عرفت حصة القطاع الصناعي في الصادرات تحسنا الا أن هذا التحسن تراجع في ظل عجز القطاع عن التطور.

في سنة 1994 وهي مرحلة ما بعد الإصلاح الهيكلي وباعتبارها عضو في”الغات” أمضت تونس على اتفاقية مراكش التي أعلنت عن ميلاد المنظمة العالمية للتجارة  لتمهد بذلك مرحلة جديدة في العلاقات التجارية متعددة الأطراف وتدخل في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي والذي توج بإمضاء اتفاقية الشراكة بين الطرفين في سنة 1995 .وبمقتضى هذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ في سنة 1998 حيث منحت تونس فترة امهال لتأهيل اقتصادها من خلال برامج دعم القدرة التنافسية الأول والثاني بتمويل من الاتحاد الأوروبي كما انخرطت في برنامج اصلاح هيكلي يرمي الى تحرير التجارة الخارجية بالنسبة للقطاع الصناعي وإصلاح القطاع البنكي وإقرار برنامج الخصخصة والتفكيك التدريجي للمعاليم الجمركية منذ سنة 1996 وعلى امتداد 12 سنة بصفة أحادية الجانب من خلال 4 قائمات.

ولن نخوض في تفاصيل تقييم نتائج هذه الاتفاقية فهذا ليس مجال المداخلة ولكن يمكن التعرض الى بعض المؤشرات للوقوف عند الشروط الأساسية التي يجب توفرها في الاقتصاد التونسي للاستفادة من مثل هذه الاتفاقيات.

 

اتفاقية الشراكة وشروط الاستفادة

تعترف نظرية التنمية التي تقوم على اعتبار التجارة الدولية كمحرك للنمو الاقتصادي بإمكانية عدم وجود تكافؤ اقتصادي وعلمي وتكنولوجي ومالي وتنظيمي بين الأطراف المعنية بالشراكة وذلك من خلال إقرار مبدا التعويض للبلدان المتضررة والتي لا تتوفر على المزايا التفاضلية في بعض القطاعات. وباعتبار أن العلاقات الدولية التجارية لا تقوم فقط على المنطق الاقتصادي بل تستند أيضا وأساسا الى الاعتبارات السياسية والثقافية والحضارية والتي تشكل العمود الفقري لمفهوم السيادة الوطنية فان الاقتصار على تحليل مسألة التكافؤ اعتمادا على جانب دون اخر من شأنه أن يخل بالتوازنات المالية والسياسية والاجتماعية. لذلك لا بد من وضع مثل هذه الاتفاقيات في اطارها متعدد الأبعاد كشرط أساسي لتوفر مبدا التكافؤ.

وحتى تتوضح الرؤية أكثر في تحديد مختلف جوانب التكافؤ يمكن التعرض الى أهم تداعيات اتفاقية الشراكة لسنة 1995 استنادا الى بعض الدراسات والتي تبقى قليلة وغير شاملة حيث أننا في حاجة الى تقييم هذه التجربة ليس من الجوانب التجارية والاقتصادية والقطاعية فقط ولكن تقييمها من زاوية تداعياتها الاجتماعية أيضا. لذلك فان مسؤولية تقييم هذا الملف لا تقتصر على الخبراء الاقتصاديين بل تشمل الخبراء في عديد المجالات مثل علم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ وغيرها. ووجودنا اليوم في مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية هو لبنة في اتجاه التأسيس لهذا التعاون بين مختلف الاختصاصات لضبط وتحديد نقاط القوة والضعف في هذا المسار التحريري للاقتصاد التونسي.

وما يلاحظ أن اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي لسنة 1995 جاءت كما أشرنا الى ذلك سابقا مباشرة بعد استكمال تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي الذي تم تبنيه والذي كان وراء عديد الإصلاحات الاقتصادية الرامية الى مزيد تخلي الدولة عن دورها في الحراك الاقتصادي وتحرير الاقتصاد والمبادلات التجارية . كما اعتبرت هذه الاتفاقية أن الاقتصاد التونسي في حاجة الى التأهيل وخاصة القطاع الصناعي المعني بالتحرير وهو اعتراف بعدم التكافؤ بين الاقتصاد التونسي والاقتصاديات الأوروبية. فجاء برنامج التأهيل بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتحصلت تونس على التعويض بعنوان برنامج التأهيل وتدعيم القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.

فهل حققت هذه البرامج الاهداف المنتظرة ونجحت في تدعيم القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي ومزيد ادماجه في الاقتصاد العالمي، وبعبارة أوضح هل نجحت في تحقيق عنصر التكافؤ بما يؤهل تونس اليوم للانخراط في مفاوضات حول توسيع اتفاقية الشراكة لتشمل قطاع الفلاحة وقطاع الخدمات والاستثمار؟

الإجابة عن هذه التساؤلات سنحاول البحث عنها في مستوى اثار هذه البرامج والإصلاحات وفي مستوى بعض المؤشرات.

 

التداعيات السلبيةلاتفاقية الشراكة لسنة 1995

عرف الاقتصاد التونسي عديد الأزمات سواء نتيجة الصعوبات الداخلية أو الخارجية الا أن الإصرار على اعتماد منوال تنمية يستند الى برنامج الإصلاح الهيكلي ولمتطلبات اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حال دون إيجاد حلول وطنية لهذه الأزمات والتي كانت وراء ثورة 14 جانفي 2011. ويمكن أن نشخص أسباب هذه الصعوبات في أربع نقاط أساسية تتمثل في:

1 –  تقلص ميزانية الدولة

تكبدت ميزانية الدولة من جراء تفكيك المعاليم الجمركية على المواد الصناعية الموردة من بلدان الاتحاد الأوروبي خسائر تم تقييمها فيما بين 19 و 24 مليار دينار في المدة بين 1996 و 2008  حسب دراسة مبدئية قام بها المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية في سنة 2014 وهوما  يمثل تقريبا نصف قيمة المديونية الحالية للبلادفي حين أن التعويض الذي تحصلت عليه تونس بعنوان دعم القدرة التنافسية لم يتجاوز 4,6 مليار دينار..

وبعنوان الموارد الجبائية فقد تقلصت هذه الموارد من 22 بالمائة الى 4 بالمائة فيما بين 1996 و 2008.

ولتغطية هذا العجز الناتج عن تفكيك المعاليم الجمركية تبنت الدولة سياسة جبائية مجحفة ترجمت بارتفاع الضغط الجبائي حيث قامت  بالترفيع في الضريبة على الدخل والأداء على القيمة المضافة الذي تجاوز سقف 28 بالمائة خلال الفترة 1996 -2008 حسب نفس المصدر.

1995 1996 1997 1998 1999 2000 2010
الاداءت المباشرة  23  23,6  26,2  27  26,6  28,1  39,6
الأداء على القيمة المضافة  25,6  26,7  27,6  30,2  31,2  31,6  30

 

وخلال الفترة 1995 – 2013 قدرت الخسائر التي تكبدتها الدولة سنويا في حدود 23 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يعادل 17825 مليون دينار خلال كامل الفترة.

وقد أثر هذا العجز المتفاقم على جودة الخدمات العمومية والمرفق العمومي في قطاعات حساسة وهي التعليم والصحة والنقل والبنية التحتية التي تدهورت الى مستويات مخجلة كما تأثرت التنمية الجهوية في غياب الاعتمادات الأساسية والضرورية ليتفاقم الفقر والتهميش والتفاوت الجهوي.

 

2 -تدمير النسيج الصناعي الوطني

حذر البنك الدولي في دراسة صادرة في سنة 1994 السلط التونسية آنذاك من اثار تطبيق اتفاقية الشراكة على النسيج الصناعي وتوقع أن يؤدي ذلك الى اضمحلال ما يعادل عن 48 بالمائة من النسيج الصناعي الوطني والى تفاقم البطالة.

وفي دراسة قام بها المعهد الوطني للإحصاء بالاشتراك مع البنك الدولي في سنة 2013 أشارت الى أنه تم القضاء على ما يقارب عن 55 بالمائة من النسيج الصناعي الوطني خاصة في مستوى المؤسسات الصغرى و المتوسطة كما  أظهرت الدراسة  أن ما لا يقل عن 2.500 مؤسسة صناعية خاصة تشغل من عشرة أشخاص إلى ما أكثر اضمحلت في المدة بين سنة 1996 و سنة  2000 و نتج عن ذلك فقدان أكثر من 293.000 موطن شغل قار.

ونشير في هذا المستوى الى أن هذه المؤسسات المقيمة والتي تنشط تحت ما يسمى “النظام العام” خاضعة لدفع  الضرائب و كانت ناشطة في التصدير مما ساعد على تحقيق التوازنات المالية الخارجية للبلاد من خلال دعم رصيد الدولة من العملة الأجنبية.

من جهة أخرى شهدت الفترة الأخيرة تغيرا هيكليا في عدد المؤسسات الناشطة تحت نظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا وهي شركات معفية من دفع الضرائب وتتحصل رغم ذلك على منح قدرها البنك الدولي في حدود مليار دولار سنويا في تقريره تحت عنوان “الثورة غير المكتملة” الذي صدر في سنة 2014. كما أن مبادلاتها التجارية سواء على مستوى الواردات أو الصادرات لا تخضعلقانون الصرف وبناء على ذلك تقوم هذه الشركات بصنع منتوجات داخل التراب التونسي وتقوم بتصديرها بكامل قيمتها المضافة دون أن يكون لها أي أثر على ميزان المدفوعات نظرا لإعفائها من إعادة مداخيلها.لتنحصر القيمةالمضافة لنشاط هذه المؤسسات داخل الوطن تقريبا حصريا على الأجور الصافية أي بعد خصم المنح التي تدفع لها من ميزانية الدولة.   كما أنها تتمتع بحق تسويق 50 بالمائة من منتوجها في السوق التونسية في الوقت الذي تعتبر فيه مصدرة كليا ويتم ذلك في غياب مراقبة جدية مما يعد خرقا لقانون المنافسة.

كما أن ما يقارب 80 بالمائة من مواطن الشغل التي توفرها هذه المؤسسات غير المقيمة تعتمد بالأساس على اليد العاملة غير المؤهلة وذات الأجر الأدنى مما عمق ظاهرة البطالة لدى حاملي الشهادات العليا وعمق  أيضا التفاوت

بين الجهات بالنظر إلى أن هذه المؤسسات تخير الانتصاب في الجهات الساحلية نظرا لتوفر البنية التحتية.

– يلاحظ أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد اتجه الى المناطق الساحلية مما عمق التفاوت الجهوي.

–  لا بد من الإشارة الى الية هامة وضعتها اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة تتعلق ب  “Les clauses de sauvegarde ”

فرغم الاضرار التي لحقت بنسيجنا الصناعي وخاصة القطاعات التي تنشط في اطار اتفاقية الشراكة والمناولة فان الدولة التونسية لم تبادر الدولة باتخاذ الإجراءات المسموح بها في الاتفاقيات متعددة الأطراف أو الثنائية والتي تندرج ضمن إجراءات الحماية والتي يمكن للدولة المتضررة أن تقرها بعد أن تثبت ذلك وتتبع المسار المنصوص عليه في الاتفاقيات. مثل هذا الاجراء المنصوص عليه في الاتفاقيات والذي التزمت به الدولة التونسية لم تستغله بلادنا ليتفاقم الوضع وتتفاقم التجارة الموازية وتدمر الاف مواطن الشغل ويتفاقم عجز الميزان التجاري. وضع تعيشه كل القطاعات ويكفي أن نذكر بسرعة بالمسيرة الاحتجاجية التي نظمها قطاع الجلود والاحذية في صفاقس في المدة الأخيرة حيث أعلن المشاركون عن العصيان الجبائي بسبب ما أصاب القطاع من أضرار نتيجة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

الأمثلة في هذا المجال كثيرة الا أن الوقت لا يسمح بذلك.

 

3- عجز هيكلي للميزان التجاري مع الاتحاد الأوروبي

في هذا المجال تجدر الإشارة إلى ضرورة توضيح الطريقة المعتمدة لاحتساب العجز التجاري في البلاد حيث أن المعهد الوطني للإحصاء يفرق بصفة واضحة بين المبادلات التجارية التي تقوم على أساس ما يسمى ب “النظام العام” الذي يخضع لقانون الصرف سواء على مستوى التوريد أو التصدير والتي تستوجب تحويل قيمة التصدير في أجل لا يتعدى عشرة أيام والمبادلاتالتجارية التي تقوم بها الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا وغير المطالبة بتحويل مداخيلها من التصدير.

4 – تدهور قيمة الدينار التونسي

عرفت قيمة الدينار التونسي تدهورا بالنصف تقريبا مقارنة بالأورو حيث تدحرج من 1,19 دينار عند تسعيرته في سنة 2000 إلى  2,2  دينار حاليا وهو ما أثر سلبا على المديونية سواء القديمة منها أو الحديثة المحتسبة بالعملة الوطنية كما أثر سلبا أيضا على الاستثمار الداخلي الذي وجد نفسه مضطرا لدفع فاتورة أعلى بسبب تدهور قيمة العملة الوطنية.

5 -تفاقم نسبة البطالة

أظهر الاقتصاد التونسي عدم قدرته على استيعاب خريجي الجامعات لتكون نسبة بطالة هؤلاء عالية وتتجاوز 18 بالمائة. ارتفاع نسب البطالة تدعونا للتساؤل عن دور المؤسسات المؤهلة في التقليص من نسب البطالة حيث أن من أهداف عملية التأهيل هو الترفيع في نسبة التأطير، كما أن تطور الصادرات يدفعنا الى التساؤل عن محتوى المنتوجات المصدرة من التكنولوجيا حيث بقيت هذه المؤسسات تشغل اليد العاملة ذو الكفاءة الضعيفة …هذا الوضع ساهم في تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية حيث يتعرض الشباب التونسي يوميا لمخاطر الموت والغرق.

_  _  _

 

التوصيات

ان الاندماج في الاقتصاد العالمي هو خيار استراتيجي ومن شأنه أن يساهم في تحقيق النمو الاقتصادي الا أننا اليوم مدعوون الى تكثيف اتفاقيات الشراكة ليس مع الاتحاد الأوروبي فقط ولكن مع تكتلات اقتصادية أخرى.

ومثل هذه الاتفاقيات لا بد أن يستفيد منها الاقتصاد التونسي الذي نقر بأنه اقتصاد في حاجة الى تعزيز قدراته الإنتاجية والتنافسية.

الا أنه في غياب عنصر التكافؤ مع شركائنا فان إيجابيات الشراكة يمكن أن تتحول الى سلبيات لذلك لابد من التعويل على الذات وعدم الاعتماد على المساعدات المالية التي لا يأتي منها الا الفتات وذلك من خلال توفير شروط تتمثل أساسا في:

– ضرورة القيام بدراسة تقييمية لاتفاقية الشراكة لسنة 1995 من قبل مؤسسات وطنية مستقلة واعتمادها عند التفاوض حول مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق، ونشرها للعموم مع إمكانية مراحعة اتفاقية الشراكة بما يكفل حق الشعب التونسي في علاقات شراكة منصفة وعادلة ومتوازنة،

– مراجعة قانون الصرف والتخلي عن المعاملة التفاضلية للمؤسسات غير المقيمة والمصدرة كليا،

– إقرار سياسات قطاعية واضحة والتركيز على كل القطاعات دون استثناء عوض الحديث عن برامج تأهيل لا تخرج عن منطق الترميم،

– التوجه نحو تدعيم قدرات السوق الوطنية في ظل منهجية تعتمد المراوحة بين الداخل والخارج بما يؤمن شروط المنافسة الشرعية داخل السوق الوطنية ويضمن مزيد الاندماج في الاقتصاد العالمي.

– ضرورة تطوير البنية التحتية ومراجعة برامج التربية والتعليم والبحث العلمي في علاقة مع أولوياتنا التنموية.

– ضرورة القيام بدراسة التجارب المماثلة مثل التجربة المغربية والاستئناس بالتجربة المكسيكية في إطار اتفاقية الشراكة الاقتصادية لبلدان أمريكا الشمالية الموقعة في سنة 1994 والتي تشمل كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك والتي شملت قطاع الفلاحة والخدمات وأدت الى انهيار القطاع الفلاحي في المكسيك حيث أصبح قسم كبير من فلاحيه وضعاف الحال مهدد بالمجاعة حسب بعض الدراسات الأخيرة.

 

شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *