نادرا ما يكون للحروب التجارية منتصرون. ولكن أحيانا يكون لديها خاسرون. ولا شك أن دونالد ترامب تبين أنه أحد أولئك الخاسرين. وبالطبع، تلك ليست الطريقة التي يصوّر بها ترامب وفريقُه الاتفاق المبدئي الذي عقدوه مع الصين، والذي يزعمون أنه نصر، ذلك أن إدارة ترامب لم تحقق أي شيء تقريبا من أهدافها، بل إنها أعلنت النصر، بينما شرعت في التراجع.

 

والصينيون يدركون ذلك. فمثلما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن المسؤولين الصينيين «مبتهجون، بل لا يصدقون أعينهم» لنجاح استراتيجيتهم التفاوضية المتشددة. ومن أجل فهم ما جرى مؤخرا، على المرء أن يتساءل حول ما كان ترامب ومن معه يحاولون تحقيقه من وراء رسومهم الجمركية، وكيفية ربط ذلك بما حدث حقا.

لقد أراد ترامب تقليص العجز التجاري الأمريكي، أولا وقبل كل شيء. فإذا كان الخبراء الاقتصاديون يعتبرون هذا، بالإجماع تقريبا، الهدفَ الخطأ، فإن ترامب يرى أن البلدان تفوز عندما تبيع أكثر مما تشتري، ولا أحد يستطيع إقناعه بخلاف ذلك. وبالتالي، فمن اللافت ملاحظة أن العجز التجاري ارتفع في عهد ترامب ولم ينخفض، إذ انتقل من 544 مليار دولار في 2016 إلى 691 مليار دولار، خلال الاثني عشر شهرا التي انتهت في أكتوبر. الآن يبدو أن لدينا اتفاقا تجاريا مع الصين، عنصره الأساسي هو وعدٌ بشراء منتجات زراعية أكثر.

ولكن لماذا فشل ترامب بخصوص التجارة؟ على مستوى عام، يكمن الجواب في أنه كان يعايش الأوهام، ولكن أمريكا لم تكن لتنجح أبدا في التنمر على أمة كبيرة ومعتزة بنفسها وذات اقتصاد أكبر من اقتصادنا، بخصوص بعض المعايير – خاصة بالتوازي مع عمله على استعداء اقتصادات متقدمة أخرى كان يمكن أن تنضم إلينا في الضغط على الصين، حتى تغيّر بعض سياساتها الاقتصادية.

وعلى مستوى تفصيلي، لا شيء من أجزاء استراتيجية ترامب التجارية نجح مثلما جرى التبشير بذلك. فرغم أن ترامب ما فتئ يشدّد على أن الصين هي التي ستدفع رسومه الجمركية، فإن الحقيقة تؤكد عكس ذلك: أن الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة لم تنخفض، ما يعني أن عبء الرسوم الجمركية يقع على المستهلكين الأمريكيين والشركات الأمريكية. على أن التأثير على المستهلكين كان سيتصاعد بشكل جوهري، لو أن ترامب لم يلغِ جولة جديدة من الزيادات في الرسوم الجمركية كانت مقررة، هذا الأربعاء الأخير.

وفي الوقت نفسه، أثّر الردُّ الصيني على بعض المصدِّرين الأمريكيين بشدة، ولا سيما المزارعين. ولئن كان ترامب ربما ينظر إلى الصادرات الزراعية بازدراء، فإنه في حاجة إلى تلك الأصوات الموجودة في الأرياف – أصوات كانت عرِّضت للخطر رغم إنقاذ مالي زراعي كلّف أكثر من ضعف ما كلّفه الإنقاذ المالي الذي أقره باراك أوباما لقطاع صناعة السيارات. وأخيرا، من الواضح أن حالة عدم اليقين بشأن سياسة الرسوم الجمركية كانت تضر بقطاع الصناعة واستثمارات الشركات، رغم أن النمو الاقتصادي العام ظل قويا. وهكذا، يمكن القول إن ترامب أعلن النصر، كما أسلفتُ، ثم انسحب.

 

ولكن، هل هزيمة ترامب التجارية ستضر به سياسيا؟ الأرجح لا. فلا شك أن أمريكيين كثيرين سيصدقون كلامه، ثم إن الحرب التجارية لم تكن تحظى بشعبية على كل حال. وعلاوة على ذلك، فإن التصويت يعكس اتجاه الاقتصاد في الغالب، وليس مستواه – ليس ما إن كانت الأمور على ما يرام، وإنما ما إن كانت قد شرعت في التحسن مؤخرا.

 

وقد تكون استراتيجية سياسية جيدة أن يفعل المرء أشياء غبية لبعض الوقت، ثم يتوقف عن فعلها قبل نحو عام على الانتخابات، وهو ما يمثّل ملخصا نزيها لأعمال ترامب التجارية. غير أنه ستكون ثمة تكاليف طويلة المدى للحرب التجارية. ومن ذلك أن حالة عدم اليقين التجارية التي خلقتها نزوات ترامب وتقلباته بالنسبة للشركات لن تختفي، فهو في نهاية المطاف أستاذ في فن الاتفاقات المنكوثة.

وفضلا عن ذلك، فإن أفعال ترامب التجارية أضرت بسمعة أمريكا. فمن جهة، تعلّم حلفاؤنا ألا يثقوا فينا. ففي نهاية المطاف، أصبحنا البلد الذي يفرض فجأة رسوما جمركية على كندا – كندا! – على أساس ادعاءات واهية تتعلق بحماية الأمن القومي. ومن جهة أخرى، تعلم منافسونا ألا يهابونا. فعلى غرار الكوريين الشماليين، الذين تملقوا لترامب ولكنهم واصلوا صنع أسلحة نووية، قيّم الصينيون ترامب. وهم الآن يدركون أنه يتحدث بصوت عال ولكنه يحمل عصا صغيرة، ويتراجع عندما يواجَه على نحو قد يضر به سياسيا.

(الاتحاد الإماراتية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *