أسدل الستار في بريطانيا نهاية الأسبوع الماضي على آخر مناظرة انتخابية تجمع زعيمي حزبي المحافظين بوريس جونسون والعمال جيرمي كوربن، واقترب السباق الانتخابي من الوصول لمحطته الأخيرة، إذ سيصوت البريطانيون الخميس المقبل لانتخابات برلمان جديد وتشكيل حكومة جديدة.

ووصفت الكثير من التعليقات الإعلامية والسياسية البريطانية الانتخابات الحالية بأنها من أهم الاستحقاقات الانتخابية في تاريخ البلاد، وعليها الكثير من التعويل لإخراج البلد من عنق الزجاجة وتجاوز نفق الانفصال عن الاتحاد الأوروبي المسمى اختصار بالبريكست.

ويعي الناخب البريطاني أهمية هذه الانتخابات، مما جعل حجم الإقبال على التسجيل في اللوائح الانتخابية يرتفع بشكل غير مسبوق، وتم تسجيل 300 ألف شخص جديد في هذه القوائم في يوم واحد، وهو رقم قياسي لم يسبق تحقيقه.

وطغت مواضيع دون غيرها على النقاش السياسي طيلة فترة الحملة الانتخابية، ظهر معها حجم الانقسام السياسي وحتى الشعبي بشأن الكثير من الملفات، وفي مقدمتها البريكست، والاتهامات المتبادلة بين حزبي المحافظين والعمال بشأن معاداة السامية والإسلاموفوبيا، فضلا عن المخاوف من فتح الباب أمام الشركات الأميركية للاستثمار في القطاع الصحي البريطاني.

مأزق البريكست
تجد الانتخابات الحالية سبب وجودها في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن عجزت حكومتا تيريزا ماي وجونسون عن الاهتداء لطريق لطي صفحات واحدة من أصعب الأزمات التي عرفتها المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.

ودخلت الأحزاب الحملة الانتخابية بمواقف متباينة من التعامل مع هذا الملف الحارق، إذ يعد زعيم حزب المحافظين بإتمام إجراءات البريكست بحلول العام المقبل، كيفما كانت الظروف، ملوحا في الوقت ذاته بإمكانية الخروج من دون اتفاق، رغم تحذير البنك المركزي البريطاني من أن هذا الخيار سيكون له تبعات اقتصادية مشابهة لتلك التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية.

الأغلبية البرلمانية
ويعلم رئيس الوزراء بوريس جونسون أنه لا سبيل أمام تحقيق مبتغاه سوى الحصول على أغلبية برلمانية، بعد أن أغلق الباب في وجه أي تحالف مع حزب البريكست اليميني الشعبوي، والمدافع الشرس عن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

في المقابل، يمسك حزب العمال العصى من الوسط في التعامل مع خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، وأمام الانتقادات لزعيم الحزب كوربن بأنه يحمل موقفا ضبابيا من هذه القضية، فقد أعلن الأخير أنه سيقف على الحياد في حال وصول حزبه إلى الحكومة، وتنظيم استفتاء ثان حول الخروج.

وفي المقابل يتحدث كوربن عن توفر حزبه على خطة بديلة للتفاوض من جديد مع الاتحاد الأوروبي على أسس مغايرة، لكنه يستبعد الخروج دون اتفاق لما له من نتائج جسيمة من وجهة نظره.

السامية والإسلاموفوبيا
لم تدخر الأحزاب المتنافسة جهدا في تبادل الاتهامات، والضغط على الوتر الحساس لمنافسيها، ومن هنا طفت على السطح تهم انتشار معاداة السامية في صفوف حزب العمال، مقابل تزايد الاتهام بالتحريض ضد المسلمين في حزب المحافظين، ويرى كثير من المراقبين أن الأمر يعكس مخاوف حقيقية، بعيدا عن الصراع الذي تفرضه اللحظة السياسية الراهنة.

وتفاجأ كثيرون بإقدام كبير الحاخامات اليهود ببريطانيا أفرايم ميرفس على التدخل في الشؤون السياسية، فقد حذر بشكل ضمني من التصويت لحزب العمال وخصوصا زعيمه كوربن، مستندا في موقفه على تهم معاداة السامية التي تطال حزب العمال أكبر أحزاب المعارضة، وهو ما اعتبره كثيرون إقحاما للدين في الصراع السياسي.

في المقابل، أصدر المجلس الإسلامي ببريطانيا بيانا غاضبا يتهم فيه حزب المحافظين بـ “الإنكار والتقليل والمراوغة” في التعامل مع قضية الإسلاموفوبيا، وقال المجلس إن حزب بوريس “لا يرى وجود هذا النوع من العنصرية”، كما فشل في اتخاذ خطوات لمعالجتها.

وقد لاحقت جونسون طيلة الحملة التصريحات المسيئة التي أطلقها بحق النساء المنقبات، وذلك عندما وصفهن بأنهن يشبهن صناديق البريد ولصوص البنوك، حيث تمت مواجهته في أكثر من برنامج تلفزيوني بجسامة ما قاله ضد المنقبات.

وقد رفض جونسون في الأيام الأولى للحملة الانتخابية الاعتذار عن تصريحات بحق المنقبات، ولكن تدريجيا ومع ظهور دراسات تبين أهمية الصوت المسلم في حسم عشرات المقاعد، وتوالي الاتهامات لجونسون بأنه ينشر خطابا معاديا للأقلية المسلمة، تراجع الأخير عن موقفه الحاد، واعتذر عن الإساءة بحق المنقبات.

النظام الصحي
لم يكن من قبيل المصادفة أن يوضع ملف النظام الصحي البريطاني على سلم الأولويات بالنسبة للأحزاب المتنافسة، فهو ثاني موضوع يستأثر باهتمام الناخب البريطاني بعد البريكست.

وحاول كل حزب تقديم وعود غير مسبوقة للنهوض بهذا القطاع، إذ أعلن حزب العمال بأنه سيخصص للصحة ميزانية لم تشهدها البلاد من قبل، في المقابل أعلن حزب المحافظين أنه ينوي زيادة عدد الممرضات بحوالي 50 ألفا.

لكن ما زاد من حرارة النقاش السياسي عن الملف الصحي هو الكشف عن وثائق لمفاوضات سرية تجري بين الحكومتين البريطانية والأميركية، في حال تم الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتظهر هذه الوثائق التي قدمها حزب العمال للرأي العام أن الأميركيين يريدون التفاوض في ملف الاستثمار بالقطاع الصحي، وهو ما يعد خطا أحمر بالنسبة للمواطن البريطاني المتخوف من ضرب مجانية العلاج في بلاده.

ورغم نفي الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبة بلاده الاستثمار في القطاع الصحي “ولو قدم لهم على طبق من فضة” على حد قوله، فإن الشكوك ما زالت تحوم حول اتفاق مبدئي بين حكومة المحافظين والإدارة الأميركية للسماح لشركات الأدوية الأميركية بدخول سوق الأدوية المخدرة، وهو ما سيؤدي لرفع أسعار هذه الأدوية بحوالي 200% حسب دراسة قام بها حزب العمال.

وشكلت التسريبات ضربة قوية للحكومة البريطانية وصدمة للبريطانيين الذين يخشون من فقدان مجانية الخدمات الصحية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *