منية العيادي

 

بعد الهزيمة الثقيلة التي مُنيت بها الأحزاب اليسارية في تونس في الانتخابات الرئاسية و التشريعية 2019، و فشل الجبهة الشعبية في الحفاظ على وحدة صفها و دخولها السباق الانتخابي في حالة انشقاق و تفكك صار الحديث بإسهاب عن نهاية اليسار و نهاية قياداته  .

فقد فقدت الجبهة الشعبية النجاح الذي حققته سنة 2014 بفوزها بـ 15 مقعداً ليقتصر حضورها في البرلمان الجديد على مقعدين و هو ما مثل نهاية اليسار التونسي في تعبيراته السياسية-الحزبية المنخرطة في معارك الانتخابات و البرلمان  .

هزيمة اليسار .. نهاية جيل ؟

عقدت جمعية “نشاز” مؤخرا لقاء حواريا بفضاء التياترو بالمشتل تحت عنوان “اليسار بعد الهزيمة .. نهاية جيل ؟” في إشارة واضحة إلى أن انتخابات 2019 كانت بمثابة لحظة الحقيقة و الدّليل القاطع على عجز جيل بأكمله على تمثيل اليسار .

و شارك في النقاش الحواري شباب يمثلون الجيل الجديد من اليسار و منهم سمر التليلي و هي أستاذة فرنسية و ناشطة في المجتمع المدني و الباحث الجامعي و الناشط في المجتمع المدني مالك الصغيري و الباحث في علم الاجتماع السياسي محمد سليم بن يوسف إضافة إلى عدد من قيادات اليسار .

و عرضت سمر التليلي أهم الأسباب التي جعلت الأحزاب اليسارية عاجزة عن إحداث التغيير و التي جعلت جزءا من الشباب الذي يؤمن بالتنظيم يخرج من هذا التنظيم و يذهب لدى تنظيمات قريبة منه في الأفكار و الرؤى مثل التيار الديمقراطي و حركة الشعب أو أن يخير الخروج النهائي من هذا التنظيم.

و أرجعت هزيمة ما أسمته اليسار “القديم” إلى ابتعاده عن الواقع و عن المطالب الواقعية للشعب و تخلفه عن المعارك و الحركات الاحتجاجية الشعبية الهامة و من أبرزها أحداث الكامور التي رفع فيها شعار تأميم الثروات، و إلى حالة التشتت و الانقسام التي عرفها معتبرة أن أغلب التناقضات لم تكن تناقضات جوهرية مبنية على اختلاف الرؤى بل كانت متعلقة بخلافات تنظيمية أو ترتيبية.

Résultat de recherche d'images pour "‫سمر تليلي‬‎"

و تساءلت سمر التليلي عما إذا كانت التنظيمات اليسارية اليوم بشكلها القديم قادرة على استقطاب الطاقات الشبابية موضحة أن اليسار الجديد هو يسار تجاوزي نقدي يحاول أن يخلق البدائل و الحلول للتخلص من أسباب الأزمة التي خلفها يسار الجيل القديم .

كما أضافت أننا لا نستطيع فعلا اعتماد هزيمة الانتخابات التشريعية و الرئاسية الأخيرة للجبهة الشعبية للإعلان عن نهاية جيل كامل من اليسار أو كمقياس لتقييم اليسار .

 

من جانبه اعتبر محمد سليم بن يوسف أن الخسارة الأخيرة لقوى اليسار في الانتخابات خلقت مناخا من الهلع مشددا على أن خسارته يجب أن تكون محفزا لاستيعاب الدرس و منطلقا للتقييم .

و أضاف أن اليسار كفكر “لا يمكن أن يموت” مضيفا أن النجاح في الانتخابات و التمثيل السياسي للتنظيم ليس شرطا لوجوده مشيرا إلى أن اليسار منتشر كفكر قبل أن يكون كتنظيم و أن تشكيلات الجبهة الشعبية و المسار و الحزب الاشتراكي و القطب و غيرها هي من منيت بالهزيمة في الانتخابات الأخيرة و ليس اليسار  .

و أرجع محمد سليم بن يوسف هزيمة اليسار الأخيرة إلى طريقة طرح التنظيم لأفكاره في الفترة الأخيرة و التباين في سلوكه السياسي و عدم تحديد مواقفه الرسمية من بعض القضايا إضافة إلى الأزمات المتتالية التي عرفها هذا التنظيم مشيرا إلى أن القدرة التعبيئية لأحزاب اليسار كانت ضعيفة جدا مقارنة بسنة 2014 إضافة إلى الظهور الباهت في الشارع و أثناء الحركات الاحتجاجية الشعبية في السنوات الثلاثة الأخيرة.

كما أشار إلى الانعدام شبه الكلي لمناضلي و مناضلات اليسار من الشباب في الحملات الانتخابية لتوزيع المناشير المتعلقة ببرنامج الجبهة الشعبية مرجعا ذلك إلى تغيّر فكرة الالتحام بالشعب لدى أحزاب اليسار و ابتعادها عن القضايا الاجتماعية الكبرى .

 

و ذكر الباحث مالك الصغيري أن اليسار الذي كانت له نضالات كثيرة منذ فترة ما قبل الثورة و عاش عديد الاضرابات النضالية و تصدى لأساليب النظام بجرأة جعلته موضوع استقطاب دمره أمراء الحرب الذين دمروا أيضا اتحاد طلبة تونس منذ سنين بنفس الطريقة ، ماكينة التشويه و الشيطنة التي تعرض لها عديد القياديين و عديد المنخرطين في الحركة الطلابية الشبابية التي لعبت دورا كبيرا في اندلاع الشرارة الأولى للثورة .

L’image contient peut-être : 1 personne

و اعتبر الصغيري أن اليسار اليوم عاجز على أن انتهاج مسار قوي و تجديد خطابه و آلية عمله ولّد خسارته لموقعه في الحياة السياسية، بينما أتيحت له فرص عديدة لم يتمكن من استغلالها.

 

اليسار موجود و لم ينتهِ

رغم أن عديد المراقبين للشأن السياسي راهنوا على استحالة عودة الأحزاب اليسارية و إعلنوا موتها نهائيا بعد الهزيمة الكبرى في الانتخابات، فإن عديد القيادات الشبابية اليسارية تؤكد أن اليسار لا يزال يمثل قوة كبيرة في تونس و أن من انتهى هو اليسار التقليدي بينما اليوم يُؤَسَس لجيل جديد من اليسار.

و يشدد هذا الجيل الجديد من اليساريين على أن اليسار موجود كفكر في الساحات و منظمات المجتمع المدني للشغل و لا يمكن أن يندثر، لكنه سوف يتجدد حتى يتكيف مع الواقع. 

من جهة أخرى فإن الأحزاب اليسارية تنكب حالياً على القيام بمراجعات و تقييمات تعيد تمركزها من جديد في الحياة السياسية.

و ترى قيادات من أحزاب اليسار المنشقة عن الجبهة الشعبية أن العمل المشترك لا يزال قائماً في انتظار أن تتضح الرؤية وفق الواقع الجديد كما شددت على العمل على إعادة بنائه التنظيمي و إبراز مشروعه السياسي كحزب قومي عربي و حدوي” خاصة بعد السقوط في الانتخابات بسبب دخول هذه الأحزاب مشتتة .
كما تشدد قيادات اليسار على ضرورة التفكير في تطوير أساليب العمل و المشاريع و البحث عن الأدوات الحقيقية لمواصلة المسار السياسي، و ضرورة فتح باب الحوار و النقاشبين كافة الأطراف السياسية
لبناء رؤية جديدة يتم في ضوئها بناء التحالفات المقبلة.

الانشقاقات و حرب الزعامات .. سبب الهزيمة

دخل اليسار الانتخابات الأخيرة في حالة من الانشقاق و التفكّك، هي الأسوأ منذ تشكلّ الائتلاف الانتخابي الجبهة الشعبية سنة 2012 حيث تفجرت الخلافات في الجبهة الشعبية، منذ مارس الماضي، عندما قررت اللجنة المركزية لحزب “الوطد” اقتراح القيادي منجي الرحوي، مرشحاً للانتخابات الرئاسية، في وقت كان فيه الاتجاه يسير نحو تجديد ترشيح حمة الهمامي.

Résultat de recherche d'images pour "‫منجي الرحوي و حمة الهمامي‬‎"

و تطورت بسرعة الأزمة الداخلية في صلب الجبهة لينتج عنها حل الكتلة البرلمانية وانسحاب كلّ من حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد ورابطة اليسار العمالي وليعلن فيما بعد تسعة نواب -أغلبهم من حزب الوطد الموحد ورابطة اليسار العمالي- تشكيل كتلة برلمانية تحمل الاسم ذاته “كتلة الجبهة الشعبية” ما أنتج صراعاً قانونياً حول الملكية القانونية لتسمية الجبهة والشعار الانتخابي.

و فشلت الجبهة الشعبية في الحفاظ على وحدة صفّها، بعد انقسام أبرز مكوناتها إلى شقين (حزب الوطنيين الديمقراطيين، ورابطة اليسار من جهة، وحزب العمّال بقيادة حمة الهمامي وحلفائه من جهة ثانية)، وانخراطهم في صراع قانوني حول الملكية القانونية لهذا التكتلّ و شعاره الانتخابي.

فقد أعلن حزب “الطليعة العربي الديمقراطي” (أحد مكونات الجبهة الشعبية) عن “انتهاء هذا التكتل اليساري بالصيغة التي تأسس بها، وبالتوازنات التي قام عليها، والآفاق التي رسمت له، وحتى بالمعاني التي انطوت عليها أرضيته السياسية”.

في هذا السياق ذاته، اتهمت الجبهة الشعبية “شق حمة الهمامي” حزب الوطنيين الديمقراطيين (الوطد) بـ”تفكيك الكتلة أوّلا ثم افتكاك الجبهة ورمزها الانتخابي”.

وذلك من خلال تأسيس حزب يحوّل الجبهة الشعبية من ائتلاف انتخابي في شكل أحزاب إلى ائتلاف حزبي، يضمّ حزب الوطد الموحّد ومنسّق رابطة اليسار العمالي وحزب “الطليعة العربي الديمقراطي”.

 

 

 

 

و تعمل الأحزاب اليسارية حاليا على البحث عن حلول من أجل تدارك الوضع و تطويق هزيمتها المدوية في الانتخابات الأخيرة، فهل ستقدر على التعافي و تكوين قوة يسارية مجددا لها وزنها على الساحة السياسية التونسية ؟ أم أنه قريبا ستعلن نهاية جيل الزعامات القديمة و التأسيس لجيل جديد ؟

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *