ما الذي يجعل السلطة قوية؟
لست أدري لماذا أصبح الرّأي العام يربط، منذ 14 جانفي 2011، قوة السلطة بالقمع والاستبداد. وهذا الشعور هو ما جعل التونسيين يطمئنون إلى حد كبير لضعف الدولة ويرون في ذلك سبيلا يؤمّن لهم، بشكل لا رجعة فيه، حدا أدنى من الحرية.
صحيح أن الحرية غالية، لكن وضع تونس لم يتح لكل التونسيين الاستفادة منها بنفس القدر. والواقع أن الحرية خالطها، خلال هذه السنوات، قدر كبير من الفوضى والاستهتار وحتى الإجرام. وإذا اجتهدنا في قياس درجة الاستفادة من هذا الوضع نتبيّن أن دعاة الفوضى والمتحكّمين فيها هم الأكثر كسبا. هم يمرحون ولا رادع لهم. والغريب أن ضحاياهم العديدين ممن يعانون من العنف بالليل والنهار في الشارع وفي وسائل النقل وفي الأحياء والأسواق الأسبوعية يساعدونهم على تواصل هذا الوضع، إما بالسكوت أو بالانضمام إلى احتجاجاتهم ومساندتهم في ادّعاءاتهم وشكاويهم مما يكون قد حصل لهم من تجاوزات طالت حريتهم وحقوقهم وحرمتهم الجسدية. كما أن منظمات المجتمع المدني التي تضع هذه المبادئ على رأس أولوياتها تثور ثائرتها كلما حصل تجاوز في حق المجرمين والمشبوهين، مما يقوّي جانبهم تجاه رجال الأمن والقضاء، وسلطة الدولة بصفة عامة.
ويكفي، في هذا الباب أن نذكّر بالمواقف التي اتخذتها جمعيات حقوقية في قضية “وليد دنقير” الذي توفّي في يوم 2 نوفمبر 2013، واختلفت الروايات حول سبب وفاته(هل توفّي بجرعة زائدة نتيجة ابتلاعه لكمية المخدّرات التي كانت بحوزته أم مات تحت التعذيب؟)، وموقف نفس الجمعيات من المداهمات التي أقدمت عليها قوات الأمن ضد الأوساط المشبوهة(الأوساط الإرهابية وأوساط ترويج وتعاطي المخدرات) بعد العملية الإرهابية التي استهدفت أعوان الأمن الرئاسي يوم 24 نوفمبر 2015، وتبيّن أن منفّذها كان تحت تأثير مخدّر اقتناه من الحيّ الشعبي الذي يسكنه، لندرك أن المجرمين والإرهابيين كانوا أكبر المستفيدين من شلّ حركة السلطة في مواجهة الجريمة بدواعي الدّفاع عن الحقوق والحريات والحرمة الجسدية للأشخاص.
إن السلطة الآن في حالة شلل وهي تواجه المد الإجرامي وحالة التسيب وعمليات النشل والتّعدّي على الحرمة الجسدية للمواطنين والمواطنات في الشارع وفي وضح النهار. رجال الأمن والسلط العمومية يتعلّلون بنقص الإمكانات وبالضغط المسلّط عليهم من النّسيج الجمعياتي الذي تحوّل إلى نوع من الملاذ للخارجين عن القانون. والمواطن أصبح في حيرة من أمره. لمن يلتجئ طلبا للحماية وطمعا في استعادة حقه وكرامته؟
وإذا استعدنا أوضاع تونس بعد الاستقلال نلاحظ أن السلطة كانت تعاني من إكراهات أكثر حدّة، لكنها توفّقت إلى تطويعها، والتغلّب عليها. الدولة الفتية كانت تواجه الحضور العسكري الفرنسي في كامل ربوع البلاد، الذي لم ينجل إلا في 15 اكتوبر 1963 من آخر معاقله ببنزرت، إلى جانب حضور المعمّرين في أرياف تونس الذي لم ينقشع إلا في 1964. وحدّث ولا حرج عن مخلّفات ما سمّي وقتها الفتنة اليوسفية، وعن الحضور المسلّح والسياسي والبشري للأشقاء الجزائريين لحين نيل بلادهم استقلالها في جويلية 1962. ولم يختلف سلوك شرائح عريضة من التونسيين وقتها عما يقدمون عليه الآن، حيث تصوّروا أن الاستقلال يعني فيما يعني حرية التونسي في فعل ما يريد.
ولمواجهة هذه الوضعية، اعتبرت السلط العمومية أن استعادة المبادرة في وضع معقّد كهذا يمر عبر التّشدّد في معاقبة نوعين من الجرائم: القتل وامتلاك السلاح. وأمكن في وقت وجيز السيطرة على الأوضاع وإعادة الاستقرار والسلم الاجتماعية. وتيسّر للدولة عبر هذين الخطين الأحمرين تقليص مفاعيل الاحتراب القبلي وعمليات الثأر وتصفية الحسابات الشخصية بين الأفراد والمجموعات، والتطاول على رموز السلطة.
ويمكن بمعايير الظروف الراهنة أن نعتبر أن تنفيذ هذا الخيار قد شابته تجاوزات تمس حقوق الأفراد لكن ما حصل قد أمّن حقوق المجموعة ووفّر قاعدة لتوسيع شرعية الدولة الفتية وأتاح الأرضية التي انبنت عليها الإصلاحات الاجتماعية التقدّمية التي يفاخر بها التونسيون اليوم.
التجاوزات لا يمكن تجنّبها، لكن إصلاحها ممكن من خلال عنصرين: أولهما ضمان أن يكون التطبيق شاملا وبدون تمييز بين مواطن وآخر، وثانيهما ترك الباب مفتوحا لأي مراجعات وتعديلات إن ظهر أي حيف في التنفيذ، وكذلك الاعتذار والتعويض لكل من ناله الحيف.
إن المقارنة بين المرحلتين (مرحلة بناء الدولة الفتية ومرحلة ما بعد 14 جانفي 2011) تكشف أن قوة الدولة ليست في حجم الإمكانات وإنما في وضوح الرؤية والتمشّي العادل في تكريسها.
أبوالسعود الحميدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *