عانت ليبيا أهوال الحروب منذ 2011م، فقد خرج الشباب العزل في شباط/ فبراير يطالبون بالتغيير بعد تجربة مريرة لمدة 42 عاما، فوجهوا بالرصاص الحي والأرتال المدججة بالسلاح، وفرضت عليهم حرب شرسة أزهقت فيها آلاف الأرواح.

واندلعت الحروب في الكرامة وفجر ليبيا والجنوب، واستمر مسلسل الدم وما يلحقه من دمار في البنية التحتية، وما يخلّفه من تخريب في المنتظم الاجتماعي. فالقتل يورث الحقد والضغينة، ومن فجع في أب أو أخ أو ابن تتولد لديه الرغبة في الانتقام ليكون وقود لحرب ثانية، وهكذا دواليك.

ومنذ أن كان الخيار هو القهر المادي وفرض الإرادة وقمع الآخر المخالف بقوة السلاح، ظل الوضع في ليبيا في تردٍ، وانتقلنا من تأزيم إلى تأزيم مع الانتقال من حرب إلى أخرى، حتى أصبح القدرة على التعايش وتغليب السلم عبث لا طائل منه.

نزوع واسع للعنف والحروب

المقلق في هذا الصدد هو قابلية قطاع واسع من الرأي العام لخيار الموت، واستخدام العنف المسلح لتصحيح الأوضاع المتردية في البلاد. وانظر إلى أكبر حربين شهدتهما البلاد بعد 2011م، وهما حرب بنغازي وحرب طرابلس، وستجد أن هناك تأييدا لهما من شريحة واسعة من الناس؛ المؤسف أنهم كانوا ولا يزالوا ضحيتها الأولى.

خطاب الشدة والبطش والاستئصال بالقوة منتشر بين كثيرين، حتى النشطاء السياسيين، بل وبين النساء، وأقرب الحلول لدى هؤلاء للتعاطي مع المخالف، سواء كان فردا أو مكونا سياسيا أو اجتماعيا، هو التخلص منه بطلقة رصاص أو عملية عسكرية كاسحة.

هذا ليس افتراء، بل واقعا عايشته وأعايشه وأسمعه يتكرر في ثنايا تقييم الوضع السياسي والأمني المتردي؛ بين المهتمين بالأزمة الراهنة وسبل احتوائها.

بنغازي شهدت سنوات حرب فظيعة لم تعرفها منذ زمن بعيدا جدا، والموت اختطف آلاف الأرواح، وترمل وتيتم أضعافهم، والجرحى المعاقون عددهم فوق الحصر، والدمار الكبير ما يزال حتى اليوم شاهدا على هذه الحرب البشعة، دون أن يتحقق لمن ناصروها ما أرادوه من أمن وأمان ونمو وتنمية.

المسلسل ذاته يتكرر في العاصمة، فالدمار كل يوم في زيادة، والموت كل يوم يحصد العشرات، والترمل واليتم يزيد، والجرحى بالآلاف ويعانون الإهمال وتسمع شكواهم كل يوم، وبرغم كل ذلك، لم نر لدعوة السلم والسلام أنصارا كثرا؛ يدينون الحرب ويكونون أهم أداة لوقفها إلى غير رجعة.

الحاجة للوعي بجوهر السلم السلام

الوعي يشكل أهم العوائق أمام تغليب ثقافة السلم، والجهل والخوف يمثلان أهم عوامل توظيف الرأي العام لدعم الحروب والاستمرار فيها، ومفهوم السلم والسلام لا يزال قاصرا ومشوها.

السلم والسلام الذي أعنيه ليس دعوة لهدنة أو وقف للقتال، وليس طرحا لمبادرة تميل إلى طرف دون الآخر، أو خطة لتمرير أجندة تخدم مصالح الخارج على حساب أمن واستقرار الداخل.. السلم والسلام الذي أقصده هو حالة نفسية وسلوك اجتماعي، وخيار سياسي ورؤية استراتيجية، يجمع الجميع ليشكلوا باجتماعهم عليه منطلق الخروج من عنق الزجاجة.

السلم والسلام خلق يتحلى به الجميع ويجنحون إليه؛ كونه الفطرة السليمة والخلق القويم، وباعتباره المضاد للسلوك العنيف والنزوع إلى الصدام بدافع الحقد أو الرغبة في الانتقام.

السلم والسلام قيمة تمثل الركيزة الأساسية للبناء، والمصل الذي يعمل ضد النزوع إلى الحرب لمعالجة الأزمات.. هكذا أنظر إليه، وبهذه الطريقة أؤمن أنه يمكن أن يخرجنا من الدوامة التي نعيشها والحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ سنوات.

أقول إن خيار الحرب ينبغي أن يكون مرفوضا وبقوة لدى الجميع، والاتجاه إلى السلم والسلام والتعايش والوئام ينبغي أن يفزع إليه الجميع طلبا للاستقرار ورغبة في النهوض، وينبغي أن يلزم كل ناعق بالحرب بالصمت، وتخرس الألسنة التي تبررها، ويكون الصوت العالي هو صوت الصلح والسلم.

وعندما يعم هذا الفهم للسلم والسلام، فإن التنازل المؤلم سيكون سهلا، وسيكون محل تقدير الجميع، وستتحرك عجلة التسوية لتوصلنا إلى توافق شامل لا غالب ولا مغلوب فيه، فالوطن والمواطن هما المنتصران بانتهاء الحروب وتغليب السلم والصلح والوئام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *