مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

ملخص

لا يختلف اثنان أن الصراعات المُتواصلة في ليبيا منذ منتصف 2014 وإن كانت بين أطراف وفرقاء ليبيين، فإنها في واقع الأمر واجهة عملية لحروب بالوكالة تخُوضها أطراف ومكونات وتشكيلات ليبية عبر الولاء المباشر وغير المباشر لأطراف إقليمية ودولية وهذه الأخيرة لها مصالح ومطامح في ليبيا تاريخيا واقتصاديا وثقافيا واستراتيجيا، بل أن كل ما يهم تلك القوى الدولية و أذرعها الإقليمية هو فقط ترسيخ حضورها الاستراتيجي واللوجستي المستقبلي في كل أرجاء القارة الإفريقية وان كان الهدف المرحلي، هو بسط النفوذ وتطويع الخيرات الباطنية في شمال إفريقيا وبعض دول الساحل والصحراء الإفريقية[1]…. فكيف يمكن قراءة فعل وفاعلية الأطراف الدولية في الملف الليبي أثناء وبعد المؤتمر الدولي في “باليرمو” والذي جرت أشغاله يومي 12 و13 نوفمبر الحالي؟

مقدمة

أغلب الأطراف الدولية سعت وتسعى للتأثير في مسارات الملف الليبي لأسباب متعددة ومختلفة بناء على مغانم الاستثمار وإعادة الاعتمار المنتظرة في ليبيا إضافة إلى ثروات غدامس وغيرها من المدن والأراضي الليبية وهي ثروات لا تُقدر بثمن وأهمية إستراتيجية، إضافة إلى الموقع الجغرافي غير العادي والنادر لليبيا بناء على إطلالتها الإستراتيجية على البحر المتوسط  وتماسها الجغرافي مع دول الساحل والصحراء وباعتبارها منفذا استراتيجيا للعمق الإفريقي، وبغض النظر عن المواقف الدبلوماسية المعلنة فإنه لابد من التأكيد على الملاحظات التالية في كل مرة عند تحليل أو محاولة فهم المواقف الدولية مما يجري في ليبيا من تطورات:

القوى الدولية التي لها هامش قرار غير مُرتبط بقوى دولية أخرى هي عمليا الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين بينما يُمكن تصنيف كل القوى الدولية الأخرى أنها على ارتباط فعلي واستراتيجي بالسياسات الأمريكية، بينما تُحاول قوى دولية وإقليمية أخرى أن تكتسب هوامش في التحرك والتأثير وخاصة في الملف الليبي والبحث عن الخروج من جُبة الدور الوظيفي، كما تحاول دول إقليمية على غرار تركيا وإيران أن تكتسب أدوارا خارج الدور الوظيفي في ابراز واكتساب أدوار في عدد من الملفات من بينها الملف الليبي وهو أمر جلي وواضح في مرحلة ما بعد ماي2014[2]….

في ليبيا بالذات لا يُمكن للألمان والايطاليين وحتى البريطانيين التصادم مع الخيارات الأمريكية أو حتى السباحة بعيدا عن تكتيكات الدولة العميقة الأمريكية بغض النظر عن هوية وتركيبة الإدارة الأمريكية (الديمقراطيين او الجمهوريين وأي من تياراتهم أو زعمائهم)، والتي هي في الحقيقة لا تُمثل سوى إعطاء النكهة للقرار والسياسات الأمريكية ويعرف المختصين والمتابعين أن بعض دول من بينها من ذكرنا أعلاه تلعب أدوارا رئيسية في ما ظهر للبعض أن الأمريكيين كانوا غير مهتمين بالملف الليبي في السنوات الأخيرة وخاصة قبل شهر يونيو/جوان الماضي كأولوية وخاصة بعد اغتيال السفير الأمريكي في 2012 ولكن المسألة أعمق من ذلك بكثير حيث أن بعض الدول والقوى الإقليمية تخدم منهجيا وعمليا أدوارا بالوكالة للأمريكيين أو حتى لبعض الأجهزة الأمريكية والدفع نحو أجنداتها المرحلية والإستراتيجية[3]، وأيضا بسبب أن الملف الليبي في عدد من جزئياته لم يكن بيد الخارجية الأمريكية والرئاسة بل هو موكول لمؤسسات الدولة الأمريكية العميقة على غرار الأجهزة المخابراتية  ومؤسسات أخرى(جزء منه مسند للبنتاغون حسب بعض المتابعين)….

أدوار ومواقف قوى إقليمية على غرار الجزائر والسودان والأردن غير متمركزة ضمن المحورين الإقليمين الرئيسيين (التركي القطري – الإماراتي السعودي المصري)، وهي تُدير سياساتها بهوامش مُعتبرة على بعض القوى الدولية ولكنها لا يُمكن لها استراتيجيا التصادم معها ويقع الضغط عليها بطُرق مختلفة فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وان كان النظام الأردني يلعب دورا وظيفيا منذ عقود بل منذ نشأته[4]، فان الجزائر والسودان أدوارها غير وظيفية ولكنها لن تكون مستقبلا مصطدمة مع السياسيات الأمريكية في المنطقة وخاصة في العلاقة بالملف الليبي…

دول مجاورة ودول لها علاقات مباشرة وغير مباشرة بالملف الليبي على غرار تونس والمغرب وموريتانيا والسينغال والكونغو لم ولن يكون لها مستقبلا أي أدوار تأثيرية مباشرة نتاج العقل السياسي للدبلوماسية فيها، إضافة إلى أنها لم تصطف بشكل مباشر ضمن المحورين الإقليميين ولكنها ستكون خادمة بشكل آلي للسياسات الأمريكية واقتربت قبل “باليرمو” من الايطاليين في الملف الليبي وان كان للبعض منها هوامش مصالح واللقاءات مع الفرنسيين ثقافيا واقتصاديا وحتى سياسيا ….

لا شك أن القارة السمراء ومنذ سنوات ان لم نقل منذ عُقود هي محور صراع بين دول عديدة فالحضور المتنامي للإيرانيين والصينيين والأتراك والأمريكيين والروس لم يُلاق الارتياح من طرف القوى التقليدية أو التي استعمرت الدول الإفريقية على غرار فرنسا، ولعل ليبيا هي أكبر  تجسدات ذلك الصراع وهناك صراع وتسابق فرنسي أمريكي غير معلن حول الحضور في ليبيا وخاصة بعد امتداد الحضور الفرنسي في الشرق الليبي وقدرتهم على الاحتواء المتدرج لعملية الكرامة بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر بناء على تعامل عسكري وأمني ولوجستي في معاركه في كل من بنغازي ودرنة وحتى عند سيطرته على الحقول النفطية أواخر يونيو/جوان الماضي، بل أن الأمريكيين لم يكونوا مرتاحين أبدا للحضور الفرنسي منذ ربيع 2017 وهناك نقاط استفهام حول سقوط المروحية الفرنسية يومذاك وتساؤل حول من أسقطها تحديدا كما أن مسارعة الأمريكيين الذين تفاعلوا بدبلوماسية مع الإفتكاك الذكي للفرنسيين للملف الليبي وأعادوه للإيطاليين بطرق ناعمة وهادئة وبروية، إضافة الى أن ما قام به “الجضران” في بداية يونيو الماضي وانسحابه بطريقة شبه آمنة تدل على صراع أجهزة بين دول في الهلال النفطي الليبي[5] وهو ما أثبتته الوقائع اللاحقة من مؤتمر روما (9 يوليو/جويلية الماضي) إلى وإعادة إدارة الحقول النفطية لطرابلس وحكومة الوفاق، ثم لقاء السراج بالسفراء السبع في أوت/أغسطس الماضي …

على غرار تفاعلهم مع التقدم الفرنسي في ليبيا عسكريا وسياسيا تفاعل الأمريكيين مع الحضور الروسي عسكريا وسياسيا بدبلوماسية والإعلان عن قلقهم الهادئ وخاصة عندما تطورت العلاقات بين حفتر والروس سنتي 2016 و2017 كما أنهم لم يرتاحوا لتفعيل طريق الحرير (الصينية)، في القارة الإفريقية أو بتطور العلاقات التركية الإفريقية كما أنهم بقوا رهين سياساتهم الإستراتيجية التي تؤكد على عدم التدخل المباشر في كل الساحات وخاصة بالتوازي وفتح الجبهات المتعددة وما يمكن تأكيده أنهم يقرؤون التطورات الكبيرة للحضور الإقليمي والدولي لعدد من القوى الأخرى بما فيهم حلفائهم الأوروبيين، والخلاصة في هذه النقطة أن هناك توازن بين الحضور الأمريكي ومطامح قوى أخرى بنت إستراتيجيتها منذ سنوات من أجل الحضور الفاعل في القارة الإفريقية وما ليبيا إلا مثال لذلك ….

لابد من التأكيد أن أي إدارة حاكمة لأي قوة دولية ليست وحدة متكاملة وأن هناك صراع بأشكال مختلفة بين أجهزة كل دولة لطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية والصراع بين اللوبيات وينعكس ذلك في فعل دبلوماسية أي دولة تجاه كل القضايا الدولية وفي التفاعل مع أي أزمة، وهو أمر جلي في تضارب المواقف تجاه تطورات الأزمة الليبية منذ 2014 وتعود أسباب ذلك الى تأثير اللوبيات في كل دولة إضافة إلى تضارب مصالح شركات عابرة للقارات ولوبيات ومحافل عالمية وتأثيراتها من دولة إلى أخرى وخاصة في مواضيع تتعلق بالغاز والنفط والمعادن الهامة والنادرة، وبالتالي فإن الملف الليبي لم يكن يوما متفق عليه من حيث القرارات ودعم هذا الطرف أو ذاك أو اتخاذ سياسيات معينة تجاهه وعلى سبيل الذكر فان هناك خيارين في وسط الإدارة الفرنسية في الصائفة الماضية حيث حبذ وزير الخارجية الحالي(وهو وزير دفاع أسبق) التمسك بحفتر كخيار مرحلي لحكم ليبيا ودعم عسكريين لحكم ليبيا أي استنساخ فعلي للنموذج المصري (سيسي ليبيا) أو إنتاج “قذافي2” لحكم ليبيا مستقبلا بينما ترى أجهزة فرنسية أخرى وفقا لتحاليل الخبراء أنه وجب تفعيل الحل السياسي وإجراء وفاق بين فرقاء الصراع  …

 الايطاليون وإدارتهم المرنة والحذرة للملف الليبي أثناء  “باليرمو” وبعده

لم يرتح الايطاليون إلى الافتكاك الذكي للفرنسيين للملف الليبي منهم منذ منتصف 2017 وصولا إلى مؤتمر باريس في 29 أيار/ماي الماضي فسارعوا عمليا ومنذ يونيو/جوان الماضي إلى تبني خطاب أن الملف الليبي وإدارته حق تاريخي وجيو- سياسي لإيطاليا، بل وسارع أهم الوزراء على غرار الدفاع والخارجية والسفير في طرابلس، إلى القيام بلقاءات متعددة ومؤثرة وتعددت الزيارات المكوكية  للعواصم العربية والى دول الجوار ولطرابلس وطبرق،وخاصة لوزيرة الدفاع ورئيس الوزراء وأصبح الملف الليبي بيد الايطاليين تفاوضيا فدخلوا مع المصريين في مفاوضات مستمرة دامت لمدة أسابيع رغم الخلافات حول عدد من النقاط الرئيسية وهي النقاط التي بقيت عالقة حتى مؤتمر “باليرمو”، ومن خلال استقراء الفعل السياسي للإيطاليين يتبين أنهم يتبنون منطق إدامة امتلاك الملف ولعل  تصريحات السفير الليبي لقناة “ليبيا روحها الوطن”[6] في أوت الماضي تُؤكد أن الايطاليين وضعوا خارطة طريقة طويلة المدى وواضحة المعالم لإدارة الملف وخاصة في ظل إصرارهم المتواصل على رفض مخرجات اتفاق باريس التقنية بالذات من حيث تأجيل الانتخابات حتى إقرار دستور وإجراء مصالحة فعلية تؤشر على ذلك وان ذلك تم بمباركة الأمريكيين وأغلب الدول الأوروبية ورضى متنام من طرف اغلب دول الخليج وبعض أركان النظام المصري والحكومة التونسية ومن طرف الجزائريين أيضا…ولا شك أنه قد حدث ارتباك كبير لدى الايطاليين الذين تغيرت رؤيتهم وترتيباتهم وأجنداتهم للمؤتمر الدولي ووجدوا أنفسهم في مأزق نتاج عوامل عدة من بينها:

خلافاتهم الداخلية: وهي خلافات تتركز أساسا بين حزبي الائتلاف الحاكم في ايطاليا وخاصة تضارب رؤية الحزبين في عدد من الملفات وفي العلاقات الخارجية على غرار تفاصيل وجزئيات العلاقة مع الفرنسيين…

  مواقف المحور المصري/الإماراتي/السعودي:وهي مواقف جد مُربكة قبل      وأثناء أشغال “باليرمو” وغلب عليها المناورة والمراوغة والمراوحة في إرسال تهديدات ضمنية بعدم الحضور أو منطق الإرباك المباشر للمؤتمر الدولي وإفراغه من محتواه التوافقي بين كل الأطراف وقد تم توظيف حفتر بشكل درامي قبل وأثناء الأشغال وحتى بعد المؤتمر، ونقل بعض الحاضرين بشكل حصري أنه عند مغادرة الوفد التركي قام ممثلو بلدين صحبة بعض أعضاء وقد أوروبي بحركات بالأيادي تعبر عن النصر، إضافة إلى ما أتته الماكينات الإعلامية الإمارتية والمصرية وبعض أجنحة الإعلام السعودي على غرار نشر كونتي انتقل قبل يوم واحد من المؤتمر إلى الرجمة للتوسل وإقناع حفتر بالحضور، وهو طبعا أمر خال من الصحة ونفته السلطات الإيطالية بشدة…. 

تكتيكات حفتر:

عمليا مارس اللواء المتقاعد عددا من تكتيكاته المعتادة والمستنسخة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وخطاباته على غرار التصريح أنه لن يحضر أشغال المؤتمر خاصة وأن البعض (عبر الصفحات الاجتماعية) قد نقل عن مقربين أن حفتر قد غادر روما بعد أربع ساعات فقط من وصوله في أحد الأيام الأولى من الشهر الحالي نتاج طبيعة النقاشات ونتاج تحذيرات سياسية  وصلت إليه في عدد من مواضيع المؤتمر، ومعلوم أنه زار روسيا يوم 07 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، ثم لوح بعدم الحضور ثم تحركت الماكينات الإعلامية الخاصة بحلفائه الإقليميين  لخدمته وتضخيم مواقفه وموقعه، وفي الأخير حضر عشية اليوم الأول وعمد إلى التصريح أنه لا علاقة له بالمؤتمر، ثم ليحضر الجلسة الرسمية ومع الوفود الدولية، ليغادر صحبة السيسي في اليوم الثاني أثناء جلسة نقاشات توحيد المؤسسة العسكرية مُصرا على انه لابد أن يجمع بين صفة القائد العام والأعلى قبل الانتخابات كما صرح المسماري إنهم لا يعترفون في الكرامة بصفة القائد الأعلى، وهي “بهلونيات/تكتيكات” أربكت الايطاليين ولكنهم تعاملوا معها بحذر وذكاء نادر، وعمليا لم يهتم الإيطاليون بزيارة حفتر لموسكو قبل أربع  أيام من المؤتمر مع أنهم علموا بخفاياها وانتبهوا لمتابعة غرضيتها اللاحقة…

استراتيجيا الفرنسيين الصامتة تجاه الايطاليين والمؤتمر الدولي:

مما لا ريب فيه أن الفرنسيين وان بدوا هادئين ظاهريا لافتكاك الايطاليين للملف منهم ما بعد مؤتمر باريس في نهاية آيا/ماي الماضي بعد امتلاكهم العمل واللوجستي له منذ ربيع 2017، فإنهم اعتمدوا سياسات خفية وصامتة في انتظار التطورات والمتغيرات وعمدوا إلى توخي ديبلوماسية احتوائية وخاصة أثناء وبعد مؤتمر “باليرمو”، وطبعا تم تنزيل ذلك عن طريق حلفائهم الموضوعيين أي قيادات الكرامة ومن ورائهم المصريين والإماراتيين وقوى أخرى غير ظاهرة في الصورة…

ولم يبق الفرنسيون مكتوفي الأيدي حيث تحركوا في كل الاتجاهات مثلما فعل الايطاليون قبل وأثناء وبعد مؤتمر باريس،  وتطور فعلهم تكتيكيا عبر عدد من اللقاءات مع الفاعلين الليبيين على غرار استقبال ماكرون للطاهر السني (مستشار السراج السياسي) بداية الشهر الحالي، وأيضا تلاحقت تكتيكات الفرنسيين من خلال استقبال وفد عن نواب مصراتة قبل أسبوع فقط من المؤتمر  إضافة إلى أحداث وتطورات في الداخل الليبي قريبة من فاعلين قريبين من الفرنسيين، ولاشك أن رسائل الايطاليين المعبرة عن مكانة للفرنسيين والتوافق معهم لم تكن مفلحة في استراتيجيات الإرباك التي قد تكون أنجزت بطرق مختلفة وعبر أشكال غير مباشرة….إنّ الايطاليين وإن بدت خطواتهم وإستراتيجيتهم قبل وأثناء المؤتمر الدولي مرتبكة، فإنهم بدوا متزنين حيث لم يفقدوا البوصلة، ومارسوا دبلوماسية حذرة تجاه جميع الأطراف وبدلا من الإصرار أن يكون المؤتمر ناجحا بشكل كامل أو ينفجر،اتبعوا سياسة تحقيق وضمانا لحد الأدنى عبر اختيار أن يكون المؤتمر مؤديا للمؤتمر الجامع ثم لاحقا تبنى على قراراته عملية انجاز الاستحقاقات الانتخابية في ربيع 2019[7]….وإضافة إلى كل ذلك نجح الايطاليون في:بعث رسائل مفادها أنهم طرف دولي مهم وشريك مقتدر ورئيسي وخاصة مستقبلي في القضايا الإقليمية وخاصة تلك التي تهم القارة الإفريقية حيث امتلكوا الملف الليبي بل وأداروه بحكمة واتزان وشراكة رغم أن النجاح يعتبر نسبيا من حيث النتائج المباشرة…

دعموا البعثة الأممية وفكرة إشراك الليبيين في الترتيبات للمؤتمر وفي مخرجاته، ولعل كلمة سلامة كانت دالة عندما قال “إن المؤتمر كان وسيكون جسرا للحل نحو المؤتمر الوطني الجامع”،  وبذلك أفلح الايطاليون في إعطاء فكرة إعادة إشراك الليبيين في الحل أبعادها الرمزية والدلالية من خلال أن كان المؤتمر رافعة وحل أولي للتوجهات الكبرى للخارطة الأممية المستقبلية عبر تحيد موعد انتخابي بعد مرحلة مقبولة (نوفمبر – جوان  أو سبتمبر) عمليا وأطول من المدة التي منحها لقاء باريس ( جوان– ديسمبر)، كما أقر مؤتمر باليرمو ونص على أسس دستورية متعارف عليها لإجراء الاستحقاقات الانتخابية بينما كان إجراء الانتخابات في 10 ديسمبر 2018 سيكون واردا على أسس غير دستورية…. وقد أحبطوا سياسات إرباك المؤتمر وإفراغه من محتواه فوضعوا اللواء المتقاعد خليفة حفتر في صورة”المُربك” لتقدم حل الملف الليبي والباحث عن حكم ليبيا عبر أسس غير دستورية، وأثبتوا للعالم أن بعض الأطراف الإقليمية هي أمثلة للتهور والإرباك، وأنها تلعب أدوار خفية تخريبية بل وتعمل على هوامش عدة في القضايا الإقليمية عبر لوبيات وقوى عالمية عبر تنزيل سياسات تعتمد المادي واللوجيستي وخيارات الإرباك والاحتواء والتأثير في السياسات الدولية في معالجة الأزمات الإقليمية… وقد أثبت الايطاليون ترهات وأكاذيب الحديث عن محور “قطري-تركي – إيطالي – الغرب الليبي”، التي روجت لها قنوات عربية ووسائل إعلام مصرية وخليجية بالأساس،بل وتبين أنها هي مجرد أسطوانة مشروخة تم ترديدها طيلة السنوات الثلاث الماضية، والغريب أنه بعد مؤتمر “باليرمو” قالت تلك الأبواق إن الحلف المذكور سقط وانتهى، وعمليا أكدت دراسات ومتابعات أن مراكز البحوث الأجنبية والفاعلين الرئيسيين التنفيذيين لبعض الأطراف الدولية قد وقفت على سقطات تلك الأبواق ومن يقف وراءها من دول إقليمية وأطراف محلية ليبية… 

         الفرنسيون: السياسات الصامتة والخيارات الحذرة

استطاع العقل السياسي الفرنسي مع وصول ماكرون للحكم استقراء مستقبل القارة الإفريقية وتطور حضور قُوى دولية أخرى فيها، فتم بناء استراتيجيات ديناميكية لقوة الحضور والفعل والتأثير، وتم منذ جويلية/يوليو 2017 امتلاك الملف الليبي ودارته والتواصل مع القوى السياسية والاجتماعية في ليبيا وصولا لمؤتمر باريس في نهاية ماي الماضي[8]، وطبعا وظف الفرنسيون الأزمة السياسية الإيطالية التي طالت لأشهر كما وظفوا تردد الايطاليين في إرساء سياسة إستراتيجية تتناغم مع التطورات السريعة للملف الليبي وترتيباته المطلوبة وضرورة الدفع بمبادرات وخيارات للميدان لتحريك السواكن   …

ومع دخول الايطاليين على خط إدارة الملف بمباركة أمريكية واصطفاف بعض الدول الرئيسية معهم، حدثت خلافات داخل الإدارة الفرنسية وتزامن ذلك مع استقالة أكثر من وزير فرنسي على خلفية ملفات فرنسية داخلية وأخرى إقليمية، وأصبحت السياسة الفرنسية تباعا في حالة تراجع وارتباك وخاصة في قراءة تطورات المشهد في ليبيا ومن بين أسباب ذلك الانحسار المستمر للواء المتقاعد خليفة حفتر وهو الذي راهن الفرنسيون عليه، واحتووا كل معسكره السياسي والاجتماعي خلال السنوات الثلاث الماضية، فهالهم تراجع شعبيته حتى في الشرق الليبي وخاصة بعد ورود تجاوزات نجله المالية ومقربين منه في تقارير أممية، فعدلت الإدارة الفرنسية سياساتها ومواقفها  عبر بعض الخطوات والعلاقات مع بعض أطراف إقليمية،حيثتم تغيير السفيرة الليبية بأخرى وتم الإعلان عن فتح السفارة الفرنسية  في طرابلس خلال شهر أفريل المقبل، كما تم الانفتاح أكثر على حكومة الوفاق الوطني وتم فتح علاقات مع بعض الفاعلين في مدينة مصراتة، وبالتوازي مع زيارة غسان سلامة للقاهرة في أكتوبر الماضي أكدت مصادر مقربة من “الإليزي”، أن الفرنسيين قد عبروا أنهم ضد أي مغامرة عسكرية من طرف حفتر باتجاه المنطقة الغربية…وفي “باليرمو” بدأ الفرنسيون ظاهريا حذرين، وارتاحوا لتصريحات كونتي المؤكدة على التوافق معهم، ولكن وكما بينا أعلاه فان حلفائهم الكلاسيكيين حاولوا إرباك المسارات ومخرجات المؤتمر والبعد التوافقي الذي حرص الايطاليون على إبرازه….

الأمريكيون وسياسات الاحتواء الناعمة والمؤثرة

بدأ الأمريكيون في الخفاء والعلن، مُصرين على تنفيذ تطبيق خطة مساعد المبعوث الأممي للشؤون السياسية “ستيفاني لويليماز”، وهي الخطة الموسومة بالخطة ب والتي نُشرت بعض تفاصيلها أثناء الاشتباكات الدموية جنوب العاصمة طرابلس في نهاية أوت/أغسطس الماضي، و الخلاصة أن الأمريكيين اعتبروا “باليرمو” مجرد محطة وضعوا من خلالها الايطاليين في الواجهة (وهم شريك أساسي لهم بل ويقومون بأدوار وظيفية لهم في أكثر من بلد وفي أكثر من ملف إقليمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، وهو ما قد يفسر ضعف التمثيل الأمريكي في المؤتمر بعد أن كان مبرمجا أن يحضر ترامب بنفسه للمؤتمر، كما أن المؤتمر الجامع في بدايات 2019 بالنسبة للأمريكيين سيكون مجرد عملية إضفاء شرعية على خطوات تلميذة رامسفيلد وصولا لهدفهم الأخير وهو الاستقرار في ليبيا للتفرغ لملفات الشرق الأوسط التي ستتفاقم بحدة خلال الأشهر والسنوات القادمة إن لم يكن ذلك بعد أسابيع أو أشهر معدودة، ورغم البيان المهم والمطول للخارجية الأمريكية اثر نهاية أشغال مؤتمر “باليرمو” فإنهم سيعملون على تمطيط الملف الليبي وفقا للمتغيرات والتطورات اللاحقة في المنطقة بما يتناسب مع إستراتيجيتهم مع النظام المصري المؤمنين بضرورة إحداث تغييرات مستقبلية عليه(على أن تلك التغييرات ستتراوح بين تعديلات وإصلاحات أو حتى العمل على  رحيل السيسي في فترة لاحقة)، ولاشك أن الموقف الأمريكي يرتكز على نهاية دور حفتر الذي لعبه في المرحلة السابقة مع الاحتفاظ بإمكانيات تطور فسيفساء السيناريوهات المستقبلية عبر إعطاء دور للناظوري مثلا، ومعلوم أن الأمريكيين هم أكثر العارفين بحفتر وهم يعرفون جيدا هوامش تحركاته ومراميه وحتى أسباب اعتقاله وأبعاده لبعض المقربين منه، مع العلم أنهم عبروا في أكثر من مناسبة وخاصة سنة 2016 عن انزعاجهم من علاقته بالروس… 

*حول مواقف بقية الدول الأوروبية

بدت الدول الأوربية الأخرى مشتتة من حيث مواقفه المعلنة والخفية بين الايطاليين والفرنسيين وان كانت أقرب لإيطاليا وتتراوح أدوارها ووظائفها بين القرب من الفرنسيين والأمريكيين واللامبالاة باستثناء الهولنديين والسويسريين، أما الإنجليز وان كانوا أقرب للموقف الأمريكي فإن لهم استراتيجيات تنزيل هادئة وذات نفس طويل … 

* الروس والسياسات غير الواضحة تجاه الملف الليبي

تنتهج روسيا سياسة غير واضحة في ليبيا، ولا تعتبر قائد الجيش الوطني الليبي اللاعب الرئيسي على الساحة السياسية الليبية، لكن يرغب اللواء المتقاعد في إظهار عكس ذلك للغرب من خلال زيارته إلى موسكو يوم 08 نوفمبر الحالي(أي أربعة أيام فقط قبل “باليرمو”)، مع العلم وأن المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” قد أكد يومها “لن يلتقي فلاديمير بوتين بخليفة حفتر، بل أن ذلك غير مدرج في جدول أعمال الرئيس الروسي”، ومعلوم أن العلاقات الروسية مع حقترقد كانت تجرى منذ 2015 بوساطات مصرية، كما تم الحديث عن مقابلة لحفتر خلال زيارته الأخيرة  مع تاجر روسي يوفر المرتزقة….وقد دار حديث في كواليس “باليرمو” عن استراتيجيا مستقبلية روسية خاصة بالمنطقة الإفريقية مع التركيز على ليبيا والجزائر تحديدا، إلا أن الحضور الروسي المستقبلي في ليبيا ليس موضوعا بسيطا فهو يتراوح بين الممكن السهل والمستحيل نتاج عوامل تاريخية وإرث قديم في المنطقة بكاملها ففي عهد الاتحاد السوفياتي وقوته الضاربة صعب عليه سنة 1951 التموقع في ليبيا يومها،

خاتمة:

إن عودة روسيا من حيث الحضور الاستراتيجي واستعادة جزء من رصيد الاتحاد السوفياتي عالميا أمر مرتبط بالقدرة على التماهي مع التطورات والمتغيرات خلال الأشهر والسنوات القادمة، أما راهنا فليبيا ليست سوريا وما سمح به الأمريكيون والأوروبيون هناك لن يسمحوا به في شمال افريقيا نتاج عوامل متعددة في علاقة بالطاقة والنفط ونتاج رؤية إستراتيجية للأمريكيين لكل المنطقة المتوسطية والشرق أوسطية… وهنا لابد من وضع الاعتبار واستحضار فكرة بعض أنصار القذافي السياسيين حول جلب الروس للساحة الليبية عبر الاستئناس بتجربتهم في سوريا وهي الخطة التي تم تقديمها لحفتر واقناعه بها وشرحها المسماري في اوت/اغسطس الماضي خلال تصريحات له أثناء زيارة له للقاهرة[9]…وعمليا كان الحضور الروسي في “باليرمو” قويا وبدا على الوفد الروسي التحفز والهدوء الحذر مما يعني توضح معالم سياسة مستقبلية ممهدة لاستراتيجيات قادمة لن تكون بالأكيد هي نفسها السياسة الروسية السابقة والمتبعة منذ 2014….  

 

علي عبداللطيف اللافي ( باحث متخصص في الشأن الليبي)

[1]أنظر مقال الباحث “ليبيا: توازن الضعف بين مكونات المشهد السياسي (3 من 3)”، وقد نشر في صحيفة “الرأي العام” التونسية، بتاريخ09-08-2018

[2]مقال الباحث في صحيفة “الرأي” الليبية العدد 136 بتاريخ 04-11-2018 تحت عنوان ” توازن القوى بين مكونات المشهد وحتمية الحل السياسي(3من 4)”

[3] انظر مقال الباحث في صحيفة الرأي العام التونسية المصدر المشار إليه في الهامش الأول …

[4]لمزيد الاطلاع على الدور الوظيفي، يمكن الاطلاع على أطروحة الباحث الأردني الدكتور أسامة عكنان ” الدور الوظيفي للنظام الأردني منذ نشأة الدولة القطرية عام 1931 وحتى قرار فك الارتباط بالضفة الغربية عام 1988″، جوان 2013 -جامعة “بروكلين بارك” الأمريكية ، تحت إشراف الجامعي جاكوب فريدمان…

[5]مقال الباحث في صحيفة “الرأي” الليبية، العدد 136 المشار إليه في هامش سابق …

[6]أنظر مقال الكاتب “هل تغيرت استراتيجيا الايطاليين عشية مؤتمر باليرمو؟، وقد نشر في موقع المغاربي للدراسات والتحاليل (www.almagharebi.net) ” ” بتاريخ 24-11-2018

[7] انظر مقال الباحث “باليرمو وما بعده”، نشر في صحيفة “الرأي” الليبية العدد 138 بتاريخ 18-11-2018

[8]أنظر مقال الباحث ” لقاء باريس بين المعلن والخفي”،نش                                                                      ر في ملف العدد الثاني من صحيفة “رؤية ليبية”ص 5 بتاريخ 05-06-2018

[9] أنظر نص المُقترح من خلال مقال للناشط السياسي “خالد محمود” (محسوب على أنصار القذافي) في موقع إفريقيا 2050 (www.afrique2050.net) بعنوان “الحل السياسي في ليبيا عبر البوابة الروسية”، نشر بتاريخ 14-08-2018)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *