البارزة, مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on رئيس الحكومة التونسي الأسبق: الاستبداد سينتعش بعد كورونا

رئيس الحكومة التونسي الأسبق: الاستبداد سينتعش بعد كورونا

من كمال بن يونس

علي العريض نائب رئيس حركة “النهضة”، ترأس الحكومة التونسية عام 2013 وتولى قبل ذلك خطة وزير للداخلية في حكومة سلفه حمادي الجبالي، وهو من بين رموز “الجيل الثاني” لمؤسسي الحراك الشبابي السياسي التونسي ذي التوجه الإسلامي، جيل عبد الرؤوف بولعابي ورفاقه في الحركة الطلابية أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، الذين وسعوا اهتمامها بالشأن العام الاجتماعي والسياسي والفكري على حساب دورها “الدعوي ـ الثقافي”.

تخرج علي العريض مهندسا من المدرسة البحرية التجارية في مدينة سوسة، 140 كلم جنوبي العاصمة تونس عام 1980 فعمل مهندسا في وزارة النقل ثم تفرغ للعمل السياسي في قيادة “حركة الاتجاه الإسلامي” بعد سجن 60 من قادتها التاريخيين في صائفة 1981 وفرار عشرات إلى الخارج.

تولى العريض أغلب المسؤوليات القيادية في حركته قبل أن تغير تسميتها إلى “النهضة” في شباط (فبراير) 1989، وهو ما كلفه أحكاما بالإعدام والسجن لمدة طويلة في 1987 ثم في 1992..

 

الإعلامي التونسي كمال بن يونس التقى علي العريض وأجرى معه الحوار التالي الخاص بـ “عربي21”، ليستشرف معه قراءته للمتغيرات الجيو إستراتيجية وللمستجدات الاقتصادية والسياسية في تونس ومحيطها الإقليمي والدولي.

س ـ يتميز المهندس والسياسي ورئيس الحكومة السابق علي العريض بمتابعته للمؤتمرات الدراسية الدولية ومشاركته في الملتقيات العلمية والسياسية منذ مغادرته السجن قبل 15 عاما. كيف تستشرف المتغيرات الإقليمية والدولية بعد وباء كورونا؟

 
ـ مضاعفات كورونا على تونس ودول المنطقة وعلى العالم أجمع رهين عوامل عديدة من بينها مدة هذه الأزمة بأبعادها الطبية والأمنية والاقتصادية والسياسية..

إن تمديد حالة “الإغلاق الشامل “في أغلب دول العالم يعني إحالة مئات الملايين على البطالة والفقر، بينهم أكثر من مليون تونسي وتونسية وعشرات الملايين من الشباب والعمال والموظفين في الدول العربية والدول الغربية..

وأعتقد أن مستقبل تونس وأغلب الدول العربية والإسلامية والإفريقية سيتأثر سلبا بالمضاعفات الاقتصادية والسياسية لأزمة كورونا على شركائنا التقليديين وخاصة دول الاتحاد الأوروبي.

الأزمة تضغط إقليميا ودوليا وتنذر بمخاطر كثيرة، لكن إذا وقع التحكم في مدة الحجر وانخفض عدد الضحايا وتم الكشف عن دواء أو لقاح فالأوضاع سوف تتحسن بسرعة..

وفي كل الحالات قد تكون الدول النامية مثل تونس من بين أبرز الخاسرين من هذه الأزمة اقتصاديا واجتماعيا وربما أمنيا وسياسيا ..

وإذا تراكمت الصعوبات الاقتصادية أكثر بالنسبة للبلدان العربية النفطية وغير النفطية فقد تكون عملية الانتقال الديمقراطي ومسارات الإصلاح السياسي الخاسر الأكبر.. كما قد تدفع بعض اللوبيات في اتجاه حروب وصراعات جديدة..

المشروع الديمقراطي في خطر

س ـ هل ترجح أن تتسبب أزمة كورونا في تراجع الاهتمام بأولوية الإصلاح السياسي والمطالب الديمقراطية والحقوقية لصالح الأولويات الأمنية والاقتصادية على غرار ما حصل في تجارب تاريخية سابقة؟

ـ فعلا تؤكد مؤشرات عديدة أن الزعماء السياسيين “الشعبويين” والمعادين للإصلاح السياسي وللديمقراطية قد يزداد تأثيرهم في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وأقاليم أخرى.. بسبب كورونا..

وقد يستفيد “القوميون المتطرفون” من المناخ الدولي وتراكم الأزمات الاجتماعية الاقتصادية التي تنذر بانفجارات اجتماعية، فتكون الحصيلة غلبة أنصار الاستبداد والانغلاق ومعارضي الانفتاح السياسي والإعلامي والانتقال الديمقراطي..

وفي صورة هيمنة دعاة “الأولوية الأمنية” على حساب أنصار الانفتاح والإصلاح السياسي الديمقراطي سوف تكون مكاسب حقوق الإنسان والانتخابات والتداول السلمي على السلطة في خطر..

وإذا تراجع الرهان على الخيار الديمقراطي وتأكدت غلبة أنصار الانغلاق السياسي دوليا سوف تتضرر قوى الإصلاح والتحرر السياسي والاجتماعي وكذلك حركات التحرر الوطني بما في ذلك في البلدان التي تناضل من أجل تحرير أرضها مثل الشعب الفلسطيني ..

الانتخابات الأمريكية

س ـ تزامت أزمة كورونا مع انطلاق التحضيرات للانتخابات الرئاسية الامريكية وانتخابات تجديد نصف أعضاء الكنغرس. هل تتوقع أن تتسبب كورونا في سقوط دونالد ترامب وحزبه بعد اتهامه بعدم أخذ نصائح مستشاريه حول الفيروس القاتل مأخذ الجد قبل اشهر؟

ـ كل الفرضيات واردة بالنسبة للانتخابات الأمريكية المقبلة، وسيتأثر سلوك الناخب الأمريكي خلالها بالانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية والصحية الخطيرة لجائحة كورونا ..

هذه هي المرة الأولى في تاريخ أمريكا والدول الصناعية العظمى التي يصاب فيها ملايين المواطنين بوباء تبين أن النظم الصحية والعلمية والأمنية لم تستعد له، رغم تقدمها في قطاعات الدراسات الإستراتيجية والاستشرافية ورغم تقدمها التكنولوجي والعسكري..

وهذه الحقيقة صعقت شعوب أمريكا والعالم أجمع وقد تؤثر في الانتخابات بما في ذلك بالنسبة للرئيس دونالد ترامب وحزبه الجمهوري.. وقد يحاسب ترامب شعبيا وعبر الانتخابات بسبب تأجيله موعد تدخل الدولة لإنقاذ حياة شعبه ومع سقوط عشرات آلاف من الضحايا ..

لكن الخطاب اليميني المتطرف وتحريكه الشعارات القومية ودفاعه عن غلق بلاده أمام “الأجانب” قد يستهوي قطاعا عريضا من الشعب الأمريكي ويتسبب في فوزه مجددا..

لا ننسى أن ترامب انتقد بحدة سلفه الديمقراطي باراك أوباما ومنافسته هيلاري كلينتون واتهمهما مع حزبهما بإهدار أموال الشعب الأمريكي في نفقات خارج البلاد وفي دعم الديمقراطيات والثورات والربيع العربي.. وهو ما اعتبره “حماقة ” ورفع شعار “أمريكا أولا” مثلما يرفع زعماء أقصى اليمين في الاتحاد الأوروبي شعارات انغلاق مماثلة تحت يافطات قومية عنصرية..

ولا شك أن الانتخابات الأمريكية شأن داخلي.. لكن فوز ترامب مجددا بالرئاسة وأنصاره بالأغلبية في الكونغرس على حساب منافسيهم من الحزب الديمقراطي بزعامة جون بادين قد يكون تطورا خطيرا ليس بالنسبة للولايات المتحدة فقط بل للعالم أجمع..

صحيح أن السياسة الامريكية تحكمها ثوابت، لكن بعض المواقف المتشددة لدونالد ترامب وأنصاره لا تبشر بخير دوليا، بما في ذلك فيما يتعلق بتهديداته لبعض شركاء الولايات المتحدة وحلفائها.. فضلا عن خصومها ومنافسيها.. وأنصار حقوق الإنسان والإصلاح السياسي..

انهيار أمريكا!

س ـ هل تساند وجهة نظر بعض الخبراء والسياسيين التي تتحدث عن سيناريو “انهيار القوة الأعظم في العالم”، أي الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب “كورونا” ومضاعفاتها الاقتصادية والسياسية الدولية؟

ـ لا أتوقع ذلك.. قد يضعف دور الولايات المتحدة عالميا وقد تخسر نقاطا في معاركها مع القوى الصاعدة في كل المجالات بما في ذلك مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان.. وقد تغير سياساتها الداخلية والخارجية وسلم أولوياتها، بما في ذلك فيما يتعلق بالنفقات العسكرية والحربية.. لكن الولايات المتحدة سوف تبقى قوة عظمى لأنها متقدمة عن العالم أجمع على مستويات كثيرة ولديها مخزون من الثروات والمواد الخام ومصادر الطاقة..

قد تضعف لكنها لن تنهار رغم فداحة الخسائر التي لحقت بها بسبب كورونا في مستوى البورصة والاحتياطي المالي وبسبب تعطل كم هائل من مؤسساتها الإنتاجية والخدماتية وبينها حركة الطيران والبواخر والقطارات والسير العادي والمصانع ..

الاتحاد الأوروبي

س ـ وماذا عن الاتحاد الأوروبي الذي كشفت أزمة كورونا هشاشة التضامن بين دوله رغم حكم الخسائر البشرية والاقتصادية التي لحقت ببلدان مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا؟ ما هو رأيك في وجهة النظر التي ترجح تفكك الاتحاد الأوروبي وانتصار المتطرفين “القوميين” و”اليمينين” أكثر بعد أن كشفت الأزمة الحالية أن “الأولويات الداخلية” انتصرت على العمل المشترك على شعارات مؤسسات الاتحاد في بروكسيل؟

ـ  صحيح أن الأزمة بأبعادها الطبية والاقتصادية أربكت صناع القرار في بروكسيل وفي بلدان الاتحاد الأوروبي، لأن العدو هذه المرة خفي ويختلف نوعيا عن كل الأعداء السابقين. وقد انتشر إحساس بالإحباط في بعض البلدان الأوروبية، وخاصة في إيطاليا وإسبانيا، حيث شعر قطاع من المواطنين ومن السياسيين أن “الجيران الأوروبيين تخلوا عنهم وقت الشدة” بينما وقفت الى جانبهم دول مثل الصين وروسيا وتركيا..

و زاد الأمر تعقيدا أن أزمة كورونا جاءت في مرحلة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفي وقت صدرت فيه عن إدارة دونالد ترامب استفزازات جديدة للقادة الأوروبيين..

لكن يلاحظ أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي السياسية والاقتصادية والمالية والبنكية تحركت ورصدت مبالغ هائلة لدعم الدول الأوروبية المتضررة وكذلك دول الجوار الأوروبي مثل تونس والمغرب ومصر والأردن..

لذلك فقد يضعف دور الاتحاد الأوروبي.. وقد تستفيد “الدول الصاعدة” من هذا الضعف مثلما ستستفيد من تراجع الدور الأمريكي في مناطق عديدة من العالم.. لكن أوروبا الموحدة سوف تبقى رقما صعبا.. ومن مصلحة دول جنوب المتوسط والعالم أن تبقى موحدة، لأن انفصال مزيد من الدول عن بروكسيل سوف يعني انتعاش اللوبيات السياسية اليمينية والقومية المتطرفة وليس العكس..

نجاح حكومة الفخفاخ

س ـ وكيف تستشرف مستقبل تونس التي اصطدمت حكومتها الجديدة بزعامة إلياس الفخفاخ فور تشكيلها بأزمة كورونا وملفات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية معقدة موروثة وأخرى مستجدة وبانفجارالحرب مجددا في ليبيا؟

ـ فعلا.. إن الأوضاع صعبة لأسباب هيكلية وأخرى ظرفية.. والمسار الديمقراطي في تونس الذي أفرز 5 انتخابات تعددية عامة منذ ثورة 2011 مهدد في صورة تعفن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية محليا ودوليا وفي صورة نزوع عواصم عديدة نحو أنظمة شمولية واستبدادية..

لكني أعتقد أن حكومة السيد الياس الفخفاخ يمكن أن تكسب الرهان وأن تنجح في رفع التحديات الكثيرة التي تواجهها داخليا وخارجيا، خاصة إذا تواصل تحكم الدولة وطاقم وزارة الصحة في الوباء وفي عدد المصابين والضحايا.. وإذا تمادى الشعب في احترام توصيات اللجان العلمية والطبية والسياسيين التي دعته إلى الحجر الصحي الشامل وفرضت مؤقتا حضرا للجولان ليلا..

لقد عرفت السيد إلياس الفخفاخ عن قرب زميلا وسياسيا جديا في حكومتي ما بين موفى 2011 ومطلع 2014 ثم قياديا في حزب التكتل الديمقراطي للعمل والحريات..

يمكن للائتلاف الحكومي الذي يقوده أن ينجح إذا توفرت شروط عديدة من بينها توسيع قاعدته السياسية والبرلمانية وتشريك شخصيات من أحزاب أخرى في الفريق، لتكون الحكومة فعلا حكومة وحدة وطنية قادرة على مواجهة التحديات..

وقد لاحظنا أن 178 نائبا من بين 217 صوتوا لصالح مشروع قدمه رئيس الحكومة للتفويض له في صلاحيات استثنائية، بينما لم يفز عند تصويت كسب الثقة الا بـ 129 صوتا..

تدارك الموقف ممكن لضمان استقرار البلاد ومشاركة المعارضة في تحمل أعباء الحكم وفي معركة الانتصار على كورونا وعلى مضاعفاتها السلبية.. وهو تطور يمكن الحكومة والمعارضة وكامل الطبقة السياسية والمجتمع المدني من الاستعداد المشترك إلى كل السيناريوهات، بما فيها الأكثر سوءا..

وعلى حكومة إلياس الفخفاخ وكل الحكومات العربية والعالمية الاستفادة من الدرس الأكبر لفيروس كورونا، والمبادرة بدعم تدخل الدولة في قطاعات استراتيجية مثل الصحة والتعليم والنقل والتأمينات الاجتماعية..

البارزة, مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on الصين وروسيا والخليج وأفريقيا على الخط في «معركة البدائل»

الصين وروسيا والخليج وأفريقيا على الخط في «معركة البدائل»

تونس: كمال بن يونس
تعاقبت رحلات الطائرات التونسية والجزائرية مع الصين مؤخراً، لنقل كميات هائلة من المساعدات الطبية والمشتريات لمكافحة جائحة «كوفيد – 19»، وتوفير المواد الخام لمصانع تونسية. وكشفت مؤسسة الإحصاء الحكومية في تونس (المعهد الوطني للإحصاء)، تراجع حصة الشركاء التقليديين، على رأسهم فرنسا والاتحاد الأوروبي في برامج «التعاون العسكري»، والمبادلات الاقتصادية الخارجية للبلاد، تجارة واستثماراً وسياحة، مقابل تضخم حصة دول الجوار في شمال أفريقيا و«القوى الصاعدة» دولياً، مثل الصين والهند وروسيا ودول شرق آسيا.

سُجل هذا التطور في مرحلة تعاقبت فيها دعوات سياسيين وخبراء في تونس والدول المغاربية إلى تنويع علاقات البلاد الخارجية، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، مواكبةً للمتغيرات الدولية، بينها تراجع حضور فرنسا والولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوروبي في بعض دول جنوب المتوسط، وانفتاح أغلب الدول العربية والإسلامية على مجموعة «بريكس» وعلى الأسواق الأفريقية، خصوصاً مجموعة «كوميسا» لبلدان شرق وجنوب القارة السمراء.

توحي غالبية المؤشرات أن من بين نتائج تفشي جائحة «كوفيد – 19»، عالمياً، تعمق الهوة بين تونس والعواصم المغاربية، من جهة، وشركائها التقليديين في أوروبا والولايات المتحدة من جهة ثانية. وفي المقابل، تزايد الترحيب داخل النخب السياسية بالشراكة مع الصين وغيرها من الدول التي قدمت لها دعماً طبياً ولوجستياً ومادياً، بينما أغلقت الدول الأوروبية الباب، وانشغلت بأوضاعها الكارثية الداخلية.

السيناريوهات المطروحة

70 وزيراً سابقاً للاقتصاد والمالية أو خبيراً دولياً مستقلاً، يتقدمهم وزير الاقتصاد والمالية السابق والخبير لدى البنك الأفريقي للتنمية حكيم بن حمودة، أطلقوا أخيراً مبادرة «اقتصاديون من أجل تونس»، قدموا فيها قراءة لمضاعفات المتغيرات الاقتصادية والسياسية الإقليمية والدولية الجديدة على تونس، وأكدوا على حاجة تونس وجيرانها المغاربيين لسياسات جديدة في كل المجالات، بما في ذلك تنويع الشركاء الدوليين.

أيضاً صدرت عن عدد من صناع القرار الاقتصادي والسياسي في تونس تصريحات جديدة تجمع على كون مرحلة ما بعد الجائحة تختلف عن المرحلة السابقة والحالية في العلاقات الدولية، بعد 65 سنة من تبني السلطات «سياسة خارجية تقليدية»، على حد تعبير وزير الخارجية السابق أحمد ونيس.

من جهته، اعتبر محسن حسن، وزير التجارة السابق والخبير الاقتصادي الدولي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن مرحلة اعتماد تونس والدول المغاربية على فرنسا والدول الأوربية بنسبة تحوم حول 75 في المائة من علاقاتها الخارجية توريداً وتصديراً وسياحة واستثماراً ولت إلى غير رجعة.

ووفق دراسة أعدها رضا الشكندالي، المدير العام لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية (سيريس) سابقاً، ستفرض الجائحة مسار الانفتاح أكثر على الأسواق «البديلة»، بما فيها الصين والهند وروسيا والدول العربية والآسيوية، بل وخصوصاً الأسواق الأفريقية، التي تحقق نسب نمو تفوق الـ10 في المائة، بينما أصبحت نسب النمو في أوروبا ضعيفة جداً أو سلبية. واستدل الشكندالي بالمحادثات الهاتفية التي أجراها أخيراً الرئيس التونسي قيس سعيد، ورئيس الحكومة إلياس فخفاخ، بعدد من زعماء الدول الآسيوية والعربية والأفريقية، وتنويههم بالمساعدات الصحية الصينية التي وصلت إلى تونس والجزائر وعدة دول أفريقية للحد من أضرار «كوفيد – 19».

أما أحمد كرم، رئيس المنظمة التونسية للبنوك والمؤسسات المالية ونائب محافظ البنك المركزي سابقاً، فرأى أن «هذه التطورات لم تأت من فراغ، لكنها تدعم مساراً بدأ منذ 1983 بين الصين وتونس ودول شمال أفريقيا، وتطور في التسعينات من القرن الماضي». وكانت حصيلة هذا المسار أن تطورت منذ أكثر من 15 سنة المبادلات السياحية والتجارية بنسق سريع جداً، على حساب العلاقات التاريخية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. وأصبحت ثلاثة أرباع الواردات من الصين و«القوى الصاعدة» في قطاعات عديدة، بينها المواد الأولية والملابس والجلود والأحذية، ومكوّنات الصناعات التصديرية، ومكوّنات الصناعات الميكانيكية، والأدوية والتجهيزات الطبية.

نعم… ولكن

في الاتجاه نفسه، توقع الصادق جبنون، الخبير الاقتصادي والناطق الرسمي باسم حزب «قلب تونس» (ليبرالي) أن يتأكد هذا المسار بعد «كوفيد – 19»، خصوصاً إذا أقدمت الصين و«القوى الصاعدة» على رفع قيمة استثماراتها في تونس والبلدان المغاربية والأفريقية، ولم تقصر اهتمامها بتصدير بضائعها إليها بأسعار منخفضة على غرار ما فعلت مع أغلب دول أفريقيا. لكن عياض اللومي، رئيس اللجنة المالية في البرلمان التونسي، سجل في المقابل، أن فرنسا والدول الأوروبية تتميز عن الصين وتركيا و«الشركاء الجدد» بالمزايا الجبائية والجمركية التي توفرها اتفاقيات الشراكة والمنطقة الحرة الأوروبية المتوسطية، بينها «معاهدة برشلونة 1995».

للعلم، يستفيد الحضور الأوروبي في تونس وبقية دول جنوب المتوسط من القرب الجغرافي واللغوي والثقافي والسياسي بين ضفتي البحر المتوسط، ومن إعفاءات تسند إلى المؤسسات الوطنية التصديرية. كذلك تستفيد مؤسسات آسيوية ودولية من حرص المستثمرين الأوروبيين على «إعادة الانتشار» الذي يؤدي إلى توظيف مزايا المنطقة الحرة الأورومتوسطية، والفارق في تكاليف الإنتاج مقابل تصدير كل المنتوج إلى أوروبا والأسواق العالمية، مع إعفاء من الضرائب. وإذا كان الميزان التجاري الخارجي يشكو الآن عجزاً لفائدة الصين وتركيا بنسبة تتراوح بين 70 و85 في المائة، فإن صادرات بلدان مثل تونس والمغرب والجزائر وليبيا إلى أوروبا تفوق بكثير وارداتها، حسب الخبير ورجل الأعمال جمال الدين عويديدي. وهذا المعطى، حسب رئيس البرلمان التونسي السابق عبد الفتاح مورو، قد يعطل مؤقتاً «الزحف الصيني التركي الآسيوي» على تونس وبلدان شمال أفريقيا.

اعتراضات وشكوك ومخاوف

على أي حال، فإن بعض السياسيين والخبراء الاقتصاديين الذين يرجحون الانفتاح أكثر على الأسواق الأفريقية والآسيوية والصين و«القوى الصاعدة»، منهم الأكاديمية جنات بن عبد الله، يشككون في صدقية الإحصائيات الحالية عن حجم الصادرات التونسية والمغاربية نحو أوروبا، ويصفونها بـ«المغلوطة والمزيفة». ويعتبر هؤلاء الخبراء أن الأمر يتعلق بشركات مشتركة أوروبية – تونسية، أو تونسية – عربية، معظم رأسمالها أوروبي، وتستفيد من الإعفاءات الجبائية والجمركية التي تمنح للشركات المحلية، وتصدر بضاعتها، ثم تحتفظ بمرابيحها في البنوك الأوروبية. والسبب أن القوانين لا تجبرها على إرجاع تلك المرابيح، شأنها شأن كثير من «مداخيل شركات تصدير الخدمات والمؤسسات السياحية».

ويذهب سفير تونس السابق إلى إندونيسيا محمود بالسرور، إلى حد اتهام «الشركات التصديرية التونسية الأوروبية (بتبييض أموالها) في شمال أفريقيا، ثم تهريب مرابيحها بطرق (قانونية)»، وبتزييف الإحصائيات الرسمية عبر الخلط بين صادرات المؤسسات الوطنية التي تعيد مرابيحها إلى البلاد والعمليات التجارية للمؤسسات الأجنبية التي يكون لديها شركاء محليون.

في هذا المناخ العام من الأخذ والرد، أعرب رئيس الحكومة التونسية الأسبق علي العريّض، عن مخاوف من المضاعفات الاقتصادية لأزمة «كوفيد – 19» بالنسبة لتونس ودول شمال أفريقيا. وتوقع انهيار عدد السياح الأوروبيين الذين كان من المتوقع أن يزوروا تونس في الموسمين الحالي والمقبل. كان وزير السياحة التونسي السابق روني الطرابلسي، قد أورد في مؤتمر صحافي، أخيراً، أن حوالي ربع الـ10 ملايين سائح الذين زاروا تونس عام 2019 كانوا من بين المهاجرين التونسيين في الدول الأوروبية. وأوضح أيضاً أن أكثر من نصف زوار تونس الأجانب في الموسم الماضي، أي حوالي 5 ملايين سائح، كانوا جزائريين وليبيين ومن المغرب الأقصى وموريتانيا. ومعلوم أنه يعتمد كثيرون من السياح المغاربيين على العملات الأجنبية التي يوفرها أبناؤهم المهاجرون في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا. وهذا يعني أن «الأزمة الاجتماعية الاقتصادية في أوروبا ستؤثر سلباً على تونس على كل المستويات»، وفق وزير السياحة والصناعات التقليدية الجديد محمد علي التومي.

أوروبا تنقسم إلى 3 مجموعات

لكن هذه المعطيات، وغيرها، تبرر في نظر عدد من السياسيين والخبراء، بينهم وزير التجارة السابق محسن حسن، دعوة الحكومة الجديدة إلى القيام بخطوات سياسية اقتصادية جريئة تبرهن عن استيعاب المتغيرات في السياسة الدولية، خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصاً منذ انتشار الجائحة الحالية. وتوقع حسن أن تطوى مرحلة «الاتحاد الأوروبي الكبير» بعد خروج بريطانيا، وبروز 3 كيانات جديدة داخل «القارة العجوز»، هي: أوروبا الشمالية أو الإسكندينافية، وأوروبا الغربية القديمة (من دون بريطانيا)، وأوروبا الجنوبية المطلة على البحر المتوسط، وفيها إيطاليا وإسبانيا واليونان وفرنسا. وهذه الأخيرة هي البلدان المعنية بـ«طريق الحرير» الجديدة مع الصين والأسواق الآسيوية، وهي مرشحة أكثر للاقتراب من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط الـ12 من البلدان المغاربية إلى مصر والأردن ولبنان وتركيا.

من جانبه، طالب المؤرخ والمفكر عبد الجليل التميمي، مدير مؤسسة الأبحاث الجامعية والدراسات، قادة شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، بمزايا تفعيل «الفضاءات الجهوية الصغيرة»، مثل «كوميسا» و«تجمع بلدان الحوض الغربي للبحر المتوسط 5 + 5»، الذي يضم الدول المغاربية زائد إيطاليا ومالطة والبرتغال وإسبانيا وفرنسا عوض الرهان على «التكتلات الكبرى»، مثل «مسار برشلونة» الذي يضم 27 دولة أوروبية و12 دولة من جنوب المتوسط.

غير أن عبد الفتاح مورو، يعتبر أن ألمانيا يمكن أن تكون بديلاً عن بعض شركاء تونس الاقتصاديين البارزين في أوروبا وخارجها. وتوقع مورو أن تبتعد برلين تدريجياً عن بعض حلفائها في أوروبا والعالم، وأن تقترب أكثر من روسيا ومن شرق أوروبا وآسيا ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً تونس والدول المغاربية ومصر. كما رأى أن ألمانيا معنية بعلاقات أكثر تطوراً مع تونس وشمال أفريقيا في مجال الهجرة، لأنها ستحتاج انطلاقاً من عام 2030 إلى ملايين الشباب المهاجرين من ذوي الخبرات، بينهم مئات الآلاف من خريجي الجامعات والأطباء والممرضين والتقنيين والمهندسين والمربّين.

الإرادة السياسية

أيضاً توقع مورو أن تتلقى تونس ودول جنوب المتوسط، بعد الجائحة الحالية، عروضاً جديدة في اتجاه تنويع شركائها الدوليين، بعد تراجع دور الاتحاد الأوروبي التقليدي، واتضاح حدود مسارات التنمية غير المتوازنة بين بلدان «الشمال» و«الجنوب» التي تعمقت منذ ربع قرن، أي منذ انطلاق «مسار برشلونة» واتفاقية المنظمة العالمية للتجارة لعام 1995.

إذن، «معركة البدائل» انطلقت، لكنها قد تتعثر لمدة سنة أو اثنتين، خصوصاً، بالنسبة لبلدان صغيرة مثل تونس، لديها التزامات بتسديد قروض قديمة للمؤسسات المالية الأوروبية والدولية، وتستعد منذ مدة لتنظيم مؤتمرات عالمية يؤمل بأن تعود عليها بمنافع كثيرة، من بينها «قمة الدول الفرانكوفونية» المقررة في وقت لاحق من العام الحالي.

مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية «تيكاد 8»

> أعلنت تونس رسمياً أنها ستحتضن قمة رؤساء منظمة طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية «تيكاد 8» (TICAD 8)، وأيضاً مقرّ مركز التميز الأفريقي للأسواق الشاملة (AIMEC)، وذلك خلال عام 2022. وأوضحت وزارة الخارجية التونسية أن هذه القمة الاقتصادية السياسية الدولية ستكون «أكبر اجتماع دولي تحتضنه تونس منذ استقلالها عن فرنسا في 1956»، ومن المقرر أن يشارك فيها حوالي 50 رئيس دولة وحكومة أفريقية، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الياباني وأعضاء حكومته وعدد كبير من رؤساء العالم ومنظمات دولية وأكثر من 11 ألف مشارك من مؤسسات يابانية وأفريقية من القطاعين العام والخاص وخبراء وأكاديميين وممثلي عن المؤسسات المالية الدولية.

وتعتبر قمة منظمة طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية (تيكاد) مبادرة حكومية من اليابان حول التنمية الأفريقية، وكانت قد أطلقت لأول مرة في سنة 1993. وتضم القمة خمسة أطراف رئيسية يطلق عليها مسمى «المنظمون المشاركون»، وهم الحكومة اليابانية، ومفوضية الاتحاد الأفريقي، ومكتب المستشار الخاص لشؤون أفريقيا التابع للأمم المتحدة، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية والبنك الدولي.

وتسعى «التيكاد» إلى تعزيز الحوار السياسي بين أفريقيا وشركائها، وحشد الدعم لصالح مبادرات التنمية الأفريقية. وتتمحور أشغال القمة والاجتماعات الجانبية التي تلتئم على هامشها حول تطوير الشراكة مع الدول الأفريقية في ظل التحولات الاقتصادية وتحسين بيئة الأعمال، من خلال تشجيع الاستثمارات الخاصة والابتكار، وتعزيز الأمن والاستقرار والسلام. وتجدر الإشارة إلى أن اليابان استضافت مؤتمرات «تيكاد» الستة الماضية، وستكون تونس ثاني دولة أفريقية تحتضن هذا الحدث الدولي الكبير خارج اليابان بعد مؤتمر نيروبي بكينيا سنة 2016.

تونس عضو في السوق المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا

> وقعت تونس رسمياً على وثيقة انضمامها إلى منظمة «كوميسا» لدول شرق وجنوب أفريقيا خلال القمة التي عقدها رؤساء هذه الدول في مدينة لوساكا، عاصمة جمهورية زامبيا خلال الصيف الماضي. وبذا أصبحت تونس العضو العشرين في هذه المنظمة الإقليمية الاقتصادية الأفريقية، وبدأت تفعيل هذا الاتفاق واستقبلت وفوداً من الأمانة العامة للمنظمة في سياق بحثها عن «بدائل» للشركاء التقليديين.

هذا، وأوردت الأمينة العامة لمنظمة «الكوميسا» شيليشي كيبوابوي (Chileshe Kepwepwe)، خلال زيارة أدتها إلى تونس أن انضمام تونس إلى تركيبتها «سيعطى الفرصة أمام مجتمع الأعمال والمال في تونس والدول الشمال أفريقية لفتح أسواق جديدة والتعرف على الشركاء المحتملين من بلدان (الكوميسا)، وتجسيم الفرص الاستثمارية والمميزات التنافسية التي تتمتع بها دول المجموعة، وما يمكن أن تقدمه لبعضها البعض وإلى باقي دول العالم».

كذلك، أكدت الأمينة العامة أن دول تجمع شرق وجنوب أفريقيا تعد في طليعة الدول المشاركة في مبادرات التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي في القارة الأفريقية، بما في ذلك دورها الريادي في اتفاقية التجارة الحرة الثلاثية الأطراف. وهو ما سيساعد البلدان الأفريقية على جني ثمار فتح مزيد من الأسواق، واستغلال الموارد المتاحة، ورفع القدرة التنافسية، والحد من الاعتماد على الشرکاء التجاریین التقلیدیین.

ونبهت كيبوابوي إلى أن القارة الأفريقية تمر بمرحلة تنموية تستوجب تطوير التعاون والتكامل بين بلدانها على مستوى الحكومات فيما بينها، ومع القطاع الخاص الأفريقي والدولي من جهة أخرى.

من ناحية أخرى، اعتبرت الرئاسة التونسية، بمناسبة تفعيل انضمام تونس إلى هذا الفضاء الاقتصادي الإقليمي والدولي، هذه الخطوة «فرصة بالنسبة للقطاعين العام والخاص وأصحاب المؤسسات الصناعية والمالية التونسية الشمال أفريقية، وستستفيد تونس من فرص الانفتاح الاقتصادي على بلدان القارة السمراء، حيث فرص النمو كبيرة جداً خلافاً لغالبية دول العالم. كذلك توقع وزير الخارجية التونسية أن يؤدي انضمام تونس إلى منظمة سوق شرق وجنوب أفريقيا إلى تمكن المستثمرين ورجال الأعمال التونسيين والعرب من بناء شراكات مع نظرائهم ببقية الدول الأعضاء في هذا التجمع الاقتصادي المهم». ووصف هذا التجمع بأنه يعد «سوقاً واعدة لعديد المنتجات وللمؤسسات العاملة في مجالات مثل البنية التحتية وتكنولوجيات المعلومات والاتصال، وأيضاً التعليم والتدريب المهني والتعليم العالي والصحة والصناعات الغذائية والهندسة والمحاسبة والتمويل وغيرها من المجالات».

مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on الاتحاد المغاربي بعد «الربيع العربي»: قنابل موقوتة وحروب استنزاف جديدة

الاتحاد المغاربي بعد «الربيع العربي»: قنابل موقوتة وحروب استنزاف جديدة

بعد 55 سنة من مؤتمر طنجة الذي جمع قادة الأحزاب الوطنية، في كل من تونس والجزائر والمغرب، وتعهد بإنجاز «الوحدة المغاربية في أقرب وقت»، تتنوع التوترات الأمنية والسياسية بين دول شمال أفريقيا، إلى حد إلغاء سحب السفراء، وإلغاء زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المنطقة.

وبعد نحو ربع قرن من قمة مراكش «التأسيسية للاتحاد المغاربي»، في فبراير (شباط) 1989، بمشاركة قادة الدول المغاربية الخمس، يبدو تحقيق شعار «الحلم الوحدوي المغاربي» الذي رفعه المصلحون والمناضلون الوطنيون، خلال القرن الماضي، بعيدا جدا.
لقد برزت «قنابل موقوتة» وصراعات «استراتيجية» جديدة، ارتبط الكثير منها بعجز ساسة «الدولتين الكبريين»، الجزائر والمغرب، عن التخلص من مضاعفات «حروب الاستنزاف الحدودية» الموروثة عن عقود الاحتلال، وعلى رأسها الصراع العنيف منذ 1975، حول الصحراء.
وبعد الآمال التي علقت على مساهمة «الربيع العربي» في التقريب بين العواصم المغاربية، زاد الوضع تعقيدا، وتعمقت الهوة، وتباينت الأجندات، رغم «الشعارات الجميلة» التي تردد هنا وهناك.
فإلى أين تسير المنطقة المغاربية؟ وهل سيغير ساستها أولوياتهم بعد تأكدهم من حجم الخسائر المالية والتنموية الهائلة التي تتسبب فيها سياساتهم «العدائية» بعضهم لبعض، ومن «الكلفة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية» الباهظة جدا لعدم إنجاز آلاف القرارات والتوصيات «الوحدوية» الصادرة خلال العقود الماضية، عن القادة والوزراء والخبراء في الدول الخمس؟
ينبغي الإقرار أولا بكون حصيلة مسيرة مؤسسات العمل المشترك في المنطقة المغاربية لم تكن دوما سلبية، فقد أسفرت مئات، وربما آلاف، من اجتماعات الخبراء والمديرين والوزراء والقادة، خلال السنوات الخمس والخمسين الماضية، عن تطوير العلاقات البينية مغاربيا، وخصوصا بين كل من تونس وليبيا، وتونس والجزائر، والمغرب والجزائر.
ومن خلال المتابعة الدقيقة لتطورات الشراكة الثنائية والجماعية بين الدول المغاربية الخمس، يتضح أن الإخفاقات السياسية الوحدوية لم تمنع تطوير المشاريع المشتركة بالجملة في مختلف القطاعات، والاستفادة من الإعفاءات الجمركية والتسهيلات والامتيازات التي منحتها الاتفاقيات واللجان العليا المشتركة ومؤسسات العمل الثنائية والمغاربية التي ما تزال ترعاها الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي في الرباط والهيئات التي تشرف عليها، وبينها مؤسسات مالية وإدارية عليا وجهوية يدعمها عدد هائل من الخبراء والفنيين وصناع القرار الحكومي والخاص.
ورغم غلق الحدود الجزائرية المغربية منذ أغسطس (آب) 1994، والأزمات الأمنية والسياسية، فإن المغرب هو الشريك التجاري العربي والمغاربي الأول للجزائر، حسب إحصائيات المبادلات الرسمية في البلدين.
في الوقت عينه، تؤكد تقارير أمنية واقتصادية متفرقة أن ملايين السكان في الجزائر والمغرب يعيشون في المحافظات الحدودية للبلدين من «التجارة الموازية»، ومن «التهريب»، وما يسمى «الاقتصاد الموازي» أو «السوق السوداء».
وتتكرر الظاهرة نفسها بحجم أكبر في المحافظات الحدودية التونسية الجزائرية، والتونسية الليبية، حيث أصبحت «التجارة الموازية» و«صناعة التهريب» من بين «آليات التشغيل والتنمية» المسموح بها رسميا من قبل سلطات البلدان الثلاثة، إلى درجة أصبحت فيها تقديرات جامعية وإعلامية وشبه رسمية تونسية وليبية وجزائرية، تتحدث عن كون قيمة المبادلات الرسمية بين تونس وكل من جارتيها ليبيا والجزائر تفوق بخمسة أضعاف، الأرقام الرسمية التي تحوم حول مليار دولار بالنسبة لكل بلد.
وتقدر مصادر تونسية شبه رسمية عدد العاملين في قطاع «التهريب» مع ليبيا والجزائر، بأكثر من نصف مليون مواطن، أي أن ما لا يقل عن عشر السكان في تونس يعتمدون في مورد رزقهم على المبادلات التجارية البينية «غير القانونية»، وعلى المواد «الآسيوية» المهربة من جمارك الدول المغاربية.
وفي قطاعات السياحة والعلاج الخاص والخدمات، تقدر المصادر الرسمية أن تونس وحدها تستقبل سنويا، منذ عقود، ما بين مليونين وأربعة ملايين سائح مغاربي غالبيتهم من ليبيا والجزائر، يؤكد الجميع أنهم يجلبون معهم إلى تونس وإلى الاقتصاد الموازي مليارات من الدولارات، ويساهمون في إحداث عشرات آلاف مواطن الرزق الإضافية.
وتتكرر الظاهرة نفسها بين المغرب والجزائر، إذ تؤكد إحصائيات مؤسسات الطيران والسياحة والأعمال، تنقل عشرات آلاف المسافرين والسياح الجزائريين والمغاربة في الاتجاهين جوا، رغم غلق الحدود البرية.
تحديات لكن المؤشرات الإيجابية الكثيرة لا ينبغي أن تحجب حقائق مؤلمة أكدها غالبية الجامعيين والساسة من البلدان الخمسة مرارا، على رأسهم الدكتور عبد الجليل التميمي مدير «مؤسسة التميمي للدراسات»، الذي نظم مؤتمرا دوليا عن «الخسائر الاقتصادية والاجتماعية» بسبب تعثر إنجاز الاتحاد المغاربي، تحت عنوان «كلفة اللامغرب». وأكدت الورقة الختامية لهذا المؤتمر الدولي أن «الكلفة ثقيلة جدا: حرمان دول المنطقة من أكثر من نقطتين في نسب النمو ومئات الآلاف من فرص التشغيل الجديدة».
لا بد من التسليم أولا بأن الساسة في البلدان المغاربية كانوا سباقين منذ 1958 إلى إعلان الإرادة السياسية للوحدة، خلال لقاء الزعامات التاريخية لأحزاب التحرير في مؤتمر طنجة التاريخي.
في هذا السياق أيضا، أكد الدكتور توفيق البشروش أن «التجارة الخارجية والعلاقات المغاربية تتأثر سلبا بعجز السياسيين عن بناء الاتحاد المغاربي»، بينما أكد مصطفى الفيلالي، الوزير في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ثم المسؤول عن آلية التنسيق بين الدول المغاربية في تونس، أن «قادة حكومات الاستقلال وبناء الدولة الحديثة لم ينجحوا في بناء توافق مغاربي يمكنهم من تكريس القرارات الإدارية والحكومية، والتوصيات الطموحة الخاصة بتفعيل الشراكة الاقتصادية».
حلقة مفرغة ويرى كثير من الخبراء والسياسيين أن «الدوران في حلقة مفرغة» بدأ منذ إعلان الرباط غلق حدودها مع الجزائر المضطربة أمنيا، مما أعاد المشروع المغاربي إلى «المربع الأول» على حد تعبير الأستاذة الجامعية الليبية الدكتورة فايزة يونس الباشا.
ويربط المؤرخان عبد اللطيف الحناشي، وخالد عبيد، بين تعثر تحقيق الاتحاد الاقتصادي والسياسي والأمني، و«مربع حروب الاستنزاف بين الشقيقتين الجزائر والمغرب، بسبب الخلافات الحدودية الموروثة عن التقسيم الاستعماري للمنطقة عشية استقلال تونس والمغرب، ومربع النزاع حول الصحراء الغربية، وتناقضات المواقف من جبهة البوليساريو التي تعمل منذ أواسط عقد السبعينات من القرن الماضي، على الانفصال عن المغرب وتأسيس (جمهورية عربية صحراوية) تتخذ قيادتها منذ عقود مخيمات «البوليساريو» في تيندوف (جنوب غربي الجزائر) مقرا دائما لها».
ولفت الجامعي والناشط الحقوقي التونسي جلول عزونة، الانتباه إلى ما وصفه بتسبب «معضلة الصحراء الغربية» في عرقلة مسار تفعيل الآلاف من «قرارات القمم والاجتماعات رفيعة المستوى حول الشراكة بين دول الاتحاد المغاربي ثنائيا وإقليميا».
واتضح أن على رأس تلك العوامل «الخلافات الحدودية» بين الجزائر والرباط، الدولتين الكبريين في المنطقة المغاربية، والأهم من حيث حجم الجالية في المهجر عموما، وفي فرنسا وبلدان جنوب أوروبا خصوصا.
ولا تقتصر تلك الخلافات الحدودية على ملف الصحراء، بل تشمل كذلك خلافات حول ترسيم الحدود شمالا، لأن السلطات الاستعمارية توسعت عام 1956 غربا وشرقا، عند رسم حدودي المملكة المغربية وتونس قبل إعلان استقلالهما، لأن قيادتها كانت تصف الجزائر ب«الفرنسية»، وتعدها جزءا من التراب الفرنسي، ولم تكن تنوي الانسحاب منها.
وتسبب ذلك الخلاف الحدودي في اندلاع أول «مواجهة مسلحة» مغربية – جزائرية عام 1963 (حرب الرمال) بعد سنة من إعلان استقلال الجزائر.
بطالة الشباب وتكشف تقارير رسمية ومستقلة كثيرة، مثلما يورد الأستاذ عيسى البكوش، ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، بسبب تعذر تنفيذ القادة لالتزاماتهم بشأن بناء الاتحاد المغاربي اقتصاديا.
ومن أهم تلك الخسائر:
* حرمان مئات الآلاف من شباب الدول المغاربية العاطلين عن العمل، من فرص توفير موارد رزق بالجملة، له علاقة مباشرة وغير مباشرة بتجسيم قرارات تحرير تنقل رؤوس الأموال والسلع والمسافرين في كل الاتجاهات في الدول الخمس.
* حرمان رجال الأعمال في الدول المغاربية من فرص بناء سوق موحدة بها نحو 100 مليون مستهلك عوض الأسواق الصغيرة الحالية. وانعكس ذلك سلبا على كل فرص الإنتاج والاستثمار والتشغيل، كما حال دون «تحسين السيولة المالية وترفيع قيمة الادخار وعلى تجسيم نيات الاستثمار الوطني والمغاربي والعربي والدولي»، على حد تعبير الخبير العربي الدكتور عبد الله تركماني.
* حرمان اقتصادات الدول الخمس من فرص التكامل الثنائي والجامعي: جنوب – جنوب، عبر تقاسم الأدوار والأولويات والاختصاصات، مثلا عبر تخصص موريتانيا في صيد الأسماك والزراعات الحيوانية وصناعات الحديد، والمغرب وتونس في إنتاج الفوسفات والباكورات الزراعية والزيوت والصناعات الغذائية وصناعات الإلكترونيك ومكونات السيارات، مقابل تخصص الجزائر وليبيا في إنتاج المحروقات (بسعر تفضيلي للدول المغاربية) والصناعات النفطية والبتروكيماوية.
* حرمان المنطقة المغاربية من شركاء ومستثمرين عرب وأجانب من الحجم الكبير، لأن الدول الأوروبية وأميركا واليابان والصين والهند، وبقية الدول الصناعية الغنية، تشترط توحيد المنطقة المغاربية وتحسين البنية الأساسية فيها «حتى تغامر باستثمارات عملاقة فيها»، على حد تعبير الدكتور الصادق بلعيد.
* حرمان المنطقة المغاربية من لعب دور الفاعل الاستراتيجي الإقليمي والدولي، بما يتماشى مع موقعها الجغرافي المميز بالقرب من أوروبا وعلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وكبوابة لأفريقيا وللعالم العربي.
* حرمان ملايين المهاجرين المغاربة في أوروبا وخارجها، من لعب دور اقتصادي وسياسي يفيدهم في بلدانهم الجديدة ويمكنهم من المساهمة في توظيف المليارات من مداخيلهم في أوروبا وأميركا وآسيا (خصوصا في دول الخليج) في تنمية مواطنهم.
الوساطة السعودية يذكر أن التنسيق المغاربي في مستوى الخبراء والوزراء وقادة الدول، تواصل بشكل ماراثوني طوال السنوات الستين الماضية، لا سيما منذ قمة «زيرالدة» بالجزائر في يونيو (حزيران) 1988، التي جمعت، لأول مرة، قادة الدول المغاربية الخمس بحضور العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز.
وأمكن إنجاز تلك الخطوة بعد وساطة سعودية مماثلة قام بها الأمير فهد، حين كان وليا للعهد، في المغرب على هامش قمة عربية، إذ جمع لأول مرة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، في خطوة ساهمت في إذابة جليد عقد حرب الصحراء.
ومهدت تلك الخطوة التاريخية لقمة تأسيس الاتحاد المغاربي في فبراير (شباط) 1989 في مراكش، ثم قمته الأولى في تونس في يناير (كانون الثاني) 1990، التي وضعت الأسس القانونية والإدارية والترتيبية والاقتصادية لتجسيم المضمون السياسي لاتفاقية التأسيس في مراكش.
إذن فالأسس القانونية والسياسية رسمت منذ نحو ربع قرن في مراكش وتونس، ووقع تفعيلها في القمم المغاربية الدورية التي عقدت ما بين 1990 و1994 في الجزائر وفي ليبيا ثم في الدار البيضاء ونواكشوط.
ووقع تركيز الآلية الدائمة للاتحاد في الرباط مع اتفاق على أن يكون الأمين العام تونسيا ومساعدوه من بقية الدول الخمس، ويتولى هذه الخطة منذ نحو ثماني سنوات الحبيب بن يحيى، وزير خارجية تونس الأسبق، خلفا للحبيب بولعراس ولمحمد عمامو، وكلاهما وزير سابق للخارجية في تونس.
كما وقع تفعيل الشراكة الاقتصادية قطاعيا وثنائيا وثلاثيا بصيغ كثيرة، لا سيما من خلال الاتفاقيات والخطوات العملية التي قطعتها تونس مع كل بلد مغاربي بصفة ثنائية، وبصفة أخص مع جارتيها ليبيا والجزائر.
وأوشكت المنطقة المغاربية أن تسبق الاتحاد الأوروبي في تجسيم قرارات طموحة جدا، من بينها التحرير الجمركي الشامل، وتحرير تنقل السلع ورؤوس الأموال والمسافرين من دون شروط.
تحديات وفرص لكن رغم كل هذه التحديات والنقائص، فإن المنطقة المغاربية تبدو أمام فرص كثيرة لتدارك أمرها، والانطلاق بنسق أسرع في تجسيم المقررات الخاصة ببناء المشروع المغاربي قطاعيا وثنائيا وإقليميا.
* أولى أبرز الفرص الجديدة بعد «الربيع العربي»، تصالح غالبية النخب العلمانية وصناع القرار البارزين في الدول الخمس مع القوى السياسية الإسلامية، التي أصبحت طرفا فاعلا في اللعبة السياسية داخل كل دول شمال أفريقيا، سواء تلك التي شملتها إصلاحات داخلية عميقة مثل المغرب، والتي أصبحت مسرحا لتغييرات راديكالية على أعلى هرم السلطة مثل تونس وليبيا.
* وبصرف النظر عن المشكلات الأمنية والسياسية المعقدة التي تعيشها تلك الدول، وخصوصا ليبيا، بسبب «انهيار مؤسسات الدولة المركزية»، فإن التقارب بين التيارين الإسلامي والعلماني في الدول الخمس زائد مصر، يمكن أن يوفر ضمانات جديدة لإنجاز المشروع المغاربي وضمان بناء سوق كبيرة مفتوحة تمتد من سيناء إلى طنجة ونواكشوط.
ولعل من أبرز المؤشرات الإيجابية التي قد تدعم الخروج من دوامة «الإفلات» من تنفيذ المقررات الوحدوية الصادرة عن الاجتماعات والقمم المغاربية، دخول دول جنوب المتوسط في مسار شراكة وتبادل حر مع فضاءات اقتصادية ومالية عالمية عملاقة، من أبرزها الاتحاد الأوروبي، الشريك الرئيس لدول الاتحاد المغاربي زائد مصر.
ومهما كانت الخسائر التي لحقت باقتصادات دول جنوب المتوسط، بسبب انهيار عدد هائل من شركاتها الصغرى، التي تضررت من منافسة نظيرتها الأوروبية والعالمية، فإن من مميزات اتفاقات الشراكة الأورومتوسطية والأوروبية المغاربية، أنها أقحمت كل بلد مغاربي في الفضاء الاقتصادي نفسه مع جيرانه بصفة آلية، بعد إبرام اتفاقيات مع بروكسل.
وإذا سلمنا بأن واشنطن ومنافسيها الآسيويين، اليابان والصين والهند، يشجعون الدول المغاربية على الاندماج، فإن مسار التوحد يمكن أن يتقدم بضوء أخضر دولي أكثر وضوحا.
خلاف الصحراء لكن كثيرين، وضمنهم السفير صلاح الدين الجمالي (وزير الدولة التونسي الأسبق للشؤون المغاربية)، يرون أن كل «مؤشرات الانفراج الاقتصادية والسياسية والأمنية ستبقى محدودة الأثر إذا لم يتوصل صناع القرار في الرباط والجزائر إلى توافق سياسي وسطي ينهي عقودا من الاقتتال ومن حروب الاستنزاف ومن (الانفجارات) غير المرغوب فيها بسبب تباين وجهات النظر في طريقة حسم الخلافات الحدودية والسياسية الجزائرية والتناقضات فيما يتعلق بطريقة تسوية نزاع الصحراء الذي طال أكثر من اللازم».
ويعتقد بعض الخبراء أن «حسم نزاع الصحراء يحتاج إلى تدخل دولي أكثر حزما ونجاعة».
الورقة الدولية وبعد أن تعثرت أخيرا زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المنطقة، بسبب التوتر الجديد في علاقات الرباط والجزائر و«أزمة القنصلية الجزائرية في الدار البيضاء»، فإن إقرار مبدأ تنظيم الزيارة الرسمية للعاهل المغربي إلى واشنطن، رغم إلغاء زيارة كيري، دليل آخر على كون واشنطن ما تزال تتحكم في جانب كبير من قوانين اللعبة الدبلوماسية والسياسية في بلدان شمال أفريقيا.
وفي هذا السياق، تبدو واشنطن وشركاؤها الغربيون أكثر قدرة من ذي قبل على «الخروج من الحياد السلبي في النزاعات الجزائرية المغربية»، وعلى تقديم «مقترحات ملموسة» توقف إهدار المليارات في نفقات التسلح ودبلوماسية الحرب وفي حماية «حدود هشة»، خصوصا بعد أن تصاعد تأثير عصابات الإرهاب وتبييض الأموال، وتنوعت عمليات الجماعات المسلحة وتوسعت لتشمل كل دول «الساحل والصحراء وشمال أفريقيا» من سيناء إلى المحيط الأطلسي.
لقد تسبب «الربيع العربي» في نزوح نحو ثلث الشعب الليبي إلى كل من تونس ومصر والجزائر والمغرب، وبينهم آلاف من أعضاء الميليشيات السابقة الموالية للعقيد الراحل معمر القذافي أو لمعارضيه، بما يوشك أن يفجر «قنابل موقوتة كثيرة» في كل الدول المغاربية، وخصوصا في الجزائر المجاورة لمالي، والتي تؤكد التقارير أن «المهربين» و«الإرهابيين» في جنوبها يقومون سنويا بتهريب أكثر من عشر إنتاج الجزائر من المحروقات في اتجاه مالي وبلدان «الساحل والصحراء الأفريقية»، حيث السلطات المركزية ضعيفة جدا، وبعضها متورط بدوره مع عصابات التهريب والإرهاب و«الاتجار غير المشروع في المال والسلاح والمخدرات والبشر».
فهل يحسن قادة المنطقة الجدد الاستفادة من المعطيات الدولية الجديدة لتجسيم أحلام الوحدة التي تغنى بها شهداء الحركة الوطنية ورواد الدولة الحديثة بعد الاستقلال، أم تنتصر عليهم القوى الانفصالية وعصابات العنف والجريمة المنظمة وجماعات الإرهاب الجديدة، التي تسبب القصف الفرنسي الأطلسي لمواقعها في «مالي»، في هجرتها نحو «الشمال»، وخصوصا نحو الجزائر وتونس وليبيا المجزأة والمقسمة منذ انهيار السلطات المركزية فيها؟

 

مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on ايقاف نهائي للحروب في ليبيا وسوريا واليمن ؟ بقلم كمال بن يونس

ايقاف نهائي للحروب في ليبيا وسوريا واليمن ؟ بقلم كمال بن يونس

صمتت المدافع وتوقف القتال في أغلب بؤر التوتر العسكرية والنزاعات في البلدان التي تشهد حروبا بالوكالة منذ مدة طويلة ، خاصة في ليبيا وسوريا واليمن والعراق ..وفلسطين المحتلة وأفغانستان..حيث انتشرت الجريمة المنظمة والأمراض والأوبئة والمخدرات ..

خفف انشغال العالم ب”بوباء كورونا” معاناة عشرات الملايين من المواطنين ضحايا حروب الاستنزاف الجديدة ..وانسحبت أغلب الجيوش الى ثكناتها ..وسرح اغلب العسكريين ..لأن ” العدو الجديد” ، أي فيروس كورونا ، لا يتسامح مع التجمعات البشرية ..ولا يهتم إن كان أصحابها من بين المدنيين أو العسكريين ..كما نجح في اختراق حاملات الطائرات و البوارج الحربية العملاقة و القصور المحصنة ..

انهزمت الجيوش المتقابلة في ساحات الحروب التقليدية أمام “فيروس حقير” تسبب إلى حد الآن في إصابة أكثر من مليون بشر وفي قتل أكثر من مائة ألف ..وفي خسائر مالية لا تحصى لمليارات من البشر وللبورصات والشركات العملاقة 190 دولة ..بينها الولايات المتحدة وغالبية دول الاتحاد الأوربي والصين والهند واليابان والنمور الآسيوية ..

رب ضارة نافعة..

وكثرة الهم تضحك..كما يقال ..

تنفس ملايين الأطفال والنساء والشيوخ والعجز والمدنيين الذين يعانون منذ حوالي 10 أعوام ويلات الحروب والتشريد والتهجير والجوع والفقر والحرمان ” تنفسوا الصعداء” .. بالرغم أن ” الهدنة ” منحها لهم ” الوباء”..

اكتشف شعوب بلدان عريقة من حيث تاريخها ، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا ، أن ” الاوبئة ” أرحم بهم من غالبية السياسيين والقيادات العسكرية وأصحاب المال والجاه والزعامات الحزبية والدينية والطائفية و..

لكن هل تكون هذه ” الهدنة ” ظرفية أم تدوم ؟

هل سيفهم صناع القرار الاقتصادي والسياسي الذين أشعلوا نيران الحروب ” الأهلية والطائفية ” المدمرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان .. وفي غيرها من الدول أن إهدار مليارات من ثروات شعوبهم في التسلح  كان غلطا فادحا وأن الأفضل إنفاق مثل تلك الأموال في تحسين واقع الشعوب والخدمات العمومية في قطاعات الصحة والتعليم والتربية والثقافة والإعلام والتأمينات الاجتماعية ؟

لقد انهارت العملات السورية واليمنية والعراقية والليبية والسودانية والإيرانية بشكل مفزع .. وتدهورت الأوضاع المعيشية للشعوب والدول العربية التي تعاني الحروب منذ 40 عاما ، وبصفة أخص منذ 10 أعوام ..

ثم شمل الدمار والخراب أغلب الدول العربية والإسلامية والإفريقية ..

إلى ان جاء وباء كورونا ..ففرضت هدنة على ” المرتزقة ” و” الجيوش النظامية ” وغير النظامية ..وعلى اللوبيات التي تتمعش من تجارة الأسلحة و من قتل الأبرياء .. إقليميا ودوليا ..

فهل يفهم العالم وساسة المنطقة الدرس أم يعودون للإشعال نيران الحروب والدمار ؟

في كل الحالات لا سلام ولا أمن ولا استقرار ولا تقدم دون إيقاف الحرب نهائيا في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان و…لأن نيرانها وشضاياها سوف تنتقل إلى كل بقية دول المنطقة والعلم مثلما انتقلت جرثومة كورونا ..

وانجاز هذه المهمة ممكن اذا تظافرت جهود الدول ال20  الأغنى في العالم والامم المتحدة ..

مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on دبلوماسي فلسطيني: كورونا أسقطت “صفقة القرن” نهائيا

دبلوماسي فلسطيني: كورونا أسقطت “صفقة القرن” نهائيا

المفكر والدبلوماسي الفلسطيني سيف الدين الدرين، مسؤول الشؤون العربية في الدائرة السياسية الفلسطينية وفي الجامعة العربية سابقا، من بين نخب حركة التحرر الفلسطينية الذين ناضلوا في لبنان ثم وقع ترحيلهم إلى تونس بعد حرب 1982.. ثم عين رئيسا للجالية الفلسطينية بتونس .

عمل سيف الدين الدرين عن قرب مع الزعيمين الراحلين ياسر عرفات وخليل الوزير، أبو جهاد، ثم مع الزعيم فاروق القدومي، مكلفا بالدراسات الاستشرافية والإستراتيجية. وعمل دبلوماسيا مكلفا بالدراسات الفلسطينية والعربية في جامعة الدول العربية وشارك في الوفود التفاوضية العربية ـ الإسرائيلية في 1993، ثم انسحب بعد أن اكتشف أنها كانت “وهما لتبرير دور وظيفي جديد لإسرائيل وعملائها في المنطقة ولتشريع التمدد الإسرائيلي داخل الدول العربية والإفريقية”، على حد تبعيره.

“عربي21” التقته وكان لها الحوار التالي حول المتغيرات الإقليمية والدولية بعد وباء “كورونا”.

س ـ كيف يستشرف الباحث والمفكر الفلسطيني سيف الدين الدرين مستقبل المنطقة والعالم بعد وباء “كورونا”؟

ـ أولا بالنسبة للشعب الفلسطيني والوطن العربي أعتقد أن مبادرات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن القدس وفلسطين والصراع العربي الإسرائيلي المعروفة بـ” صفقة القرن” سقطت نهائيا .. وسيغلق ملفها نهائيا بعد كورونا..

لكن وضع شعبنا الفلسطيني بائس.. بائس.. بائس ..

إن مزيد انشغال السياسيين في المنطقة والعالم عن حقوقه الوطنية والسياسية والإنسانية قد يزيد الوضع تعفنا.. خاصة أن الوضع الداخلي الإسرائيلي تأزم أكثر بسبب فشل السياسيين في تحقيق توافق حول حكومة جديدة بعد 3 انتخابات عامة.. وبسبب تعمق التناقضات بين “المتدينين المحافظين” و”العلمانيين”..

لذلك فإن مستقبل فلسطين والدول العربية والإسلامية قد يكون قاتما أكثر.. والتحديات القادمة سوف تكون أكبر.. بسبب سياسيين يلعب أغلبهم “دورا وظيفيا” خدمة لأجندات أجنبية استعمارية وللوبيات تدعم منظومة فاسدة ونظاما إقليميا ودوليا تأكد فشله ..

إسرائيل “دولة وظيفية”

س ـ هل يعني هذا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سيزداد دورها داخليا وفي المنطقة بعد أزمة كورونا؟ ألا تتوقعون انتكاسة لسياسة إهدار المليارات في أمريكا وأوربا لدعم الجيش الإسرائيلي وجيوش العالم بعد أن تبين أن البشرية تخوض حربا مع جرثومة لا طاقة لكل القوات المسلحة بمواجهتها؟

ـ فيروس كورونا خلط الأوراق عالميا وفي إسرائيل وداخل صناع القرار في الدول العربية والإسلامية والإفريقية التي أنفقت أموالا طائلة خلال العقود الماضية في التسلح ودعم المؤسسات العسكرية والأمنية..

هذا الفيروس “سوف يكون لديه مردود سلبي على القوات العسكرية في كل مكان، بما في ذلك القوات المسلحة الإسرائيلية، التي وجدت نفسها عاجزة مثل غيرها عن حماية مجتمعاتها وشعوبها وساستها رغم ما تمتلكه من أسلحة دمار تقليدية ونووية وكيمياوية..

بل إن الخوف من العدوى وسقوط الضحايا داخل التجمعات العسكرية والمدنية سوف يستنزف طاقات المؤسسات المسلحة والجيوش، بما فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يتباهى بـ “القبة الحديدية” التي تحمي شعبه..

سوف تضطر قيادات جيش الاحتلال وعساكر القوات الأجنبية في الوطن العربي الإسلامي وإفريقيا وآسيا إلى تعديل ساعاتها وإعادة النظر في أولياتها، وفي خيار “تجميع عدد كبير من العسكريين”.. تحسبا لحروب بيولوجية وجرثومية جديدة ..

رب ضارة نافعة!

س ـ هل تتوقع أن يفهم القادة والزعماء في فلسطين والدول العربية الدرس فيتوقفوا عن استنزاف الطاقات البشرية والمادية في معارك هامشية يستفيد منها “الآخر” ويدفع ثمنها الوطن والفقراء وموازنات الحكومات والرأس المال الوطني؟

ـ هناك من يتبنى نظرية “رب ضارة نافعة” ويتوقع أن تفهم القيادات الفلسطينية والعربية والإسلامية الدرس وأن تصلح غلطاتها حتى تنجح في توظيف الأزمة الحالية لصالحها.. في اتجاه بناء نظام عالمي جديد ونظام إقليمي متوازن ..

لكن كل المؤشرات تؤكد أنه لا يمكن أن تتغير الأوضاع في ظل هذا النظام العربي والدولي.. ودون مبادرات جريئة تبدأ بالنقد الذاتي وبإعداد دراسات استشرافية معمقة..

أذكر أن الأستاذ الشاذلي القليبي، الأمين العام لجامعة الدول العربية بين 1979 و1990، دعا مع فريقه في مقر تونس سفراء الدول العربية في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية عام 1989 على نفقة الأمانة العامة.. وجرى الاستماع خلال أسبوع كامل لشهادات وتقييمات السفراء والدبلوماسيين والخبراء لمنعرج “انهيار جدار برلين” و”المعسكر الشرقي”.. بهدف مساعدة صناع القرار في الدول العربية والجامعة في الفهم والاستشراف ..

هل نتوقع اليوم مبادرة من هذا النوع وفي مثل هذا التوجه؟

أستبعد ذلك..

وأتوقع مزيدا من الانقسام بين الأنظمة العربية، أي مزيد إضعاف مؤسسات العمل العربي المشترك.. الأغلبية في مستوى الشعوب والدول في الوطن العربي الإسلامي ليس لديها أموال.. والأقلية التي لديها أموال تتحكم فيها لوبيات مشبوهة و”قيادات وظيفية”.. مكلفة بمهمات لصالح “الآخر” الأجنبي والإسرائيلي ..

بصراحة لا يمكن تغيير الأوضاع دون تغيير هذا النظام الإقليمي والدولي.

بعد الثورات العربية

س ـ هل يمكن للأزمات الدولية والعربية بعد وباء كورونا أن تستفز الهمم وتعيد الأمل بانتصار قوى التغيير بعد عشرية من اندلاع الثورات الشعبية العربية؟

ـ التغيير مسار حتمي.. ولن يفشل.. والثورات الشعبية العربية عبرت عن إرادة الشعوب للتغيير والإصلاح..

وإذا قارنا بين أوضاعنا والأوضاع في عهد آبائنا وأجدادنا فالأمور تحسنت والتغيير ماض.. وإرادة التغيير والأصلح سوف تنتصر.. لكن أطرافا كثيرة سوف تحاول أن تعرقلها.. لأن شرعية هذه المنظومة العربية بأيدي الآخرين.. شرعياتها من الخارج..

هي منظومة “وظيفية”..

هذه المنظومة العربية أعاقت الثورات العربية وتعيق جهود تحقيق الوحدة الفلسطينية والعربية والإسلامية.. وتفتعل أعداء وهميين شيوعيين ويساريين أو قوميين أو إسلاميين.. في تناغم مع مخططات القوى العظمى..

شعوبنا تستنزف.. وأرض فلسطين وقدراتها تستنزف بعيدا عن قضيتنا المركزية، أي إنهاء الاحتلال..  وفي فلسطين والدول العربية وأغلب دول العالم قد يزداد بعد كورونا استنزاف الطاقات في قضايا هامشية وفي أزمات داخلية.. قد تكون دينية أو طائفية أو عرقية..

إسرائيل “دولة وظيفية”

س ـ هل يمكن أن يستفيد الفلسطينيون والعرب من استفحال الانقسامات داخل إسرائيل ومن سيناريو نقص الدعم الدولي لسياسات الاحتلال بعد كورونا؟

ـ الانقسام الإسرائيلي ـ الإسرئيلي عمق الأزمة داخل سلطات الاحتلال.. وقد زادت الانقسامات بعد كورونا بما في ذلك بين “المتدينين” والبقية لأن نصف الإصابات الإسرائليية وسط المتدينين.. الذين لا يهتمون بالتلفزيون والأخبار ويبقون كثيرا في الكنيس.. ولا يحترمون قرارات منع التجمعات والاكتظاظ..

والوضع الاقتصادي في إسرئيل أيضا سيئ.. لكن إسرائيل دولة وظيفية.. وإذا استفحل الخلل في النظام العالمي.. فإن السؤال الكبير مستقبلا هو: ما هي الوظيفة التي سوف تؤديها القوة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة؟

وحسب مؤشرات عديدة فإن تواجد القوات الغربية على الأراضي العربية سيعني تراجع الحاجة إلى إسرائيل وخدماتها الأمنية والعسكرية..

العمالقة يتصارعون حول “الكمامات”

س ـ لكن القوات الأمريكية والأطلسية تعيد انتشارها منذ عهد أوباما في العالم العربي والإسلامي.. وبعضها انسحب مؤخرا من سوريا والعراق وإفريقيا.. هل ستعود الحاجة إلى “الدور الوظيفي الإسرائيلي”؟

ـ  الأوضاع معقدة وقد تزداد تعقيدا ..

في العراق وسوريا مثلا هناك مواقف متناقضة من الوجود الأمريكي والأطلسي.. عارضه البعض وخاصة الشيعة ودعمه بعض الأكراد والسنة بطلب من دول عربية .. لكن وباء كورونا قلب المعطيات.. وقد يغيرها بسرعة أكبر..

قد تكون “القوات غير النظامية” (أو “الميليشيات” و” “المرتزقة”) أول مستفيد من الأزمة الحالية.. وقد لاحظنا في العراق مثلا أن القوات غير النظامية هي التي أخرجت القوات الأمريكية والأجنبية وليس القوات الحكومية..

في نفس الوقت فإن كورونا جعلت الذين احتموا بكردستان هربا من الاقتتال وسط العراق يكتشفون أن الحرب اليوم أصبحت من نوع جديد.. وأن مفهوم الأمن الجغرافي سقط ..

ولا أتوقع أن تستفيد الأطراف المتحالفة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العراق وسوريا وفي المنطقة، لأن ذلك سوف يفقدها شرعيتها السياسية والاخلاقية والوطنية ..

في المقابل فإن الدول الغنية المتضررة من وباء كورونا مثل الولايات المتحدة قد تحاول أن تفرض مزيدا من الضغوطات على الدول النفطية العربية لابتزازها ولتحصل على أموال جديدة إضافية لتعويض خسائرها ..

سيزيدون النهب.. وسينوعون صيغ ابتزازهم لثروات العرب والدول النامية ..بعد كورونا التي كشفت معارك بينهم حول الكمامات أنهم سينقسمون أكثر.. الاتحاد الأوروبي سوف يكون أضعف وأكثر تفككا.. وما دام الموت لم يجمعهم قد يفتعلون صراعات وحروبا جديدة حول أسباب وهمية مثل افتعال بديل “للعدو الشيوعي” و”العدو الإسلامي”.. إلا إذا انتصر الحكماء الذين سوف يوقفون سياسات “فبركة الأعداء” وافتعال النزاعات المسلحة والحرب خدمة لمصالح لوبيات صنع السلاح الدولية وحلفائهم ..

 

كمال بن يونس

مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on جعيط : الإسلاميون لم يقدموا بديلا للدولة الوطنية

جعيط : الإسلاميون لم يقدموا بديلا للدولة الوطنية

عندما تجلس إلى المفكر والمؤرخ التونسي والعربي الكبير هشام جعيط في مكتبه ببيته بين مئات من المصادر والمراجع بعدة لغات قد تغفل أن مخاطبك بلغ 85 عاما قضى أكثر من 60 منها يحقق في المخطوطات ويقدم قراءات نقدية لدراسات كبار المفكرين والفلاسفة والمؤرخين وخاصة لمؤلفات المستشرقين والخبراء في الدراسات الفسلفية والتاريخية و المختصين في السياسة الدولية المعاصرة.

قدم لي الأستاذ هشام جعيط كتابا جديدا أكمله عن التاريخ الإسلامي.. ومجلدا أنيقا أعدته دار سيريس للنشر التونسية ضمنته الأجزاء الثلاثة من بحثه المطول الذي أعده عن سيرة النبي محمد ومرحلة  “فجر الإسلام” وأثار جدلا وترجم مثل أغلب كتبه إلى عدد من لغات العالم.

بدا جعيط كعادته فخورا بمشروع كتاب جديد يعده عن تاريخ الأديان وبقراءاته المحينة لتاريخ الأديان وللتاريخ الإسلامي ثم لواقع العرب والعالم اليوم.. بعد الثورة التكنولوجية وانتشار ما وصفه بـ “الأمية الفكرية” داخل النخب الحداثية والحركات السياسية اليمينية واليسارية وما يسمى بـ “تيارات الإسلام السياسي”…

فتح قلبه لنا فكان الحوار التالي:

 

س ـ منذ حوالي 50 عاما يناقش الكاتب والمفكر والمؤرخ هشام جعيط اشكاليات الإصلاح والنهضة في العالم العربي الإسلامي في علاقة بتجارب ببناء “الدولة الوطنية” الحديثة في أوروبا. ناقشت مفاهيم عديدة للوطن والأمة والدولة القومية والإسلامية والوطنية. فكيف تنظر اليوم إلى هذا الملف وسط تعمق الهوة بين أنصار “الدولة القطرية” (بضم القاف) والمشاريع السياسية للتيارات الوحدوية القومية العروبية والإسلامية؟

ـ الأوضاع تراوح مكانها. وتبين بعد قرن من انهيار الخلافة العثمانية وبعد عشرات السنين من بروز دعاة الدولة القومية والوحدة الإسلامية أن السياسيين الذين يؤمنون بـ “الدولة الوطنية المصغرة”، مثل الحبيب بورقيبة، كانوا أصح.

بقي حلم بناء دولة الحرية والاشتراكية والوحدة القوية أو الدولة الإسلامية الكبيرة التي تقام على  أرض الخلافة السابقة طوباويا.

انتصر مفهوم الحكام البراغماتيين للدولة الوطنية الجديدة، رغم مشاعر الانتماء داخل كامل العالم الإسلامي لأمة واسعة بأبعادها الثقافية والحضارية..

وتبين أن أغلب السياسيين الجدد ليس لديهم رؤيا ولا فكر سياسي واضح عن الدولة الوحدوية الكبرى ولم يقدموا لها مرجعيات فكرية متكاملة مثلما فعل المفكر ميشيل عفلق في مؤلفاته وخاصة في كتابه “في سبيل البعث”.

وقد ولد ميشيل عفلق في دمشق في 1910 ومات منفيا في العراق في 1989 دون أن يحقق الأحزاب البعثية التي تنتسب إليه حلم الدولة القومية.

وسجلت نفس الظاهرة بالنسبة للكتاب والسياسيين الوحدويين الإسلاميين مشرقا ومغربا. بقيت خواطرهم وأفكارهم عن الدولة الإسلامية المعاصرة طوباوية وحبرا على ورق.

بل لقد تعمقت الهوة في الدول التي تبنت القومية والوحدة ذاتها. وابتعد الساسة ورجال الدولة عن أفكار ميشيل عفلق وصديقه منذ أيام الدراسة صلاح البيطار (1912 ـ 1980) اللذين أسسا معا حزب البعث  العربي الاشتراكي في سوريا، ورغم تحمل صلاح البيطار مسؤوليات كبيرة في الدولة وقيادة الحزب في سوريا في مرحلة الوحدة مع مصر وبعدها.

 

التيارات السياسية التي تفتقر إلى مفكرين قد تنحرف نحو العموميات ثم نحو العنف اللفظي والمادي

فر ميشيل عفلق بأفكاره وقناعاته عن العروبة والإسلام والوحدة من سويا إلى العراق. وفر صلاح البيطار الى لبنان ثم إلى أوروبا ..

وفشل بقية المنظرين للوحدة العروبيين والإسلاميين مثلما فشل دعاة “العالمية الاشتراكية”.. وتم تكريس واقع “الدولة الوطنية”..

وبالنسبة للحركات الإسلامية بقي خطابها السياسي غالبا شعاراتيا وعاما، وأفرزت كتابا وليس مفكرين لديهم عمق فلسفي ومعرفة معمقة بالتاريخ والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا ..

لم تنتج أحزاب “الإسلام السياسي” مفكرين ومجددين من حجم محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وحسن حنفي وميشيل عفلق وأنور عبد المالك وعلي حرب وهشام جعيط ..

محمد اقبال وتجديد الفكر الديني

س ـ ألا ترى أن الهوة كبيرة في المجتمعات العربية والإسلامية بين النخب السياسية والإعلامية والجامعية وسياسيين يؤثرون في واقع الدولة والشعب عبر خطاب سياسي وديني أو عبر الشعر والأدب، مثل الفيلسوف والشاعر الهندي محمد إقبال ثم الكاتب المصري سيد قطب؟

ـ المفكر والشاعر الهندي محمد اقبال لعب دورا مهما قبل الحرب العالمية الثانية بمؤلفاته وأشعاره ونجاحه في تعلم اللغات الهندية (الأوردو) والفارسية والعربية والأنجليزية.. وتجاربه في ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا.. وساهم في وضع أركان تأسيس دولة الباكستان..

وقد أثر المفكرون الكتاب الهنود، ثم الباكستانيون، في الدول العربية والفكر السياسي الإسلامي الدولي ثم في الجماعات الإسلامية، مثلما تأثرت الدولة العربية والإسلامية منذ العهد العباسي بالثقافات الهندية والصينية واليابانية واليونانية وبتراث بقية الأديان وخاصة الدين اليهودي والدين المسيحي ..

 

لم تنتج أحزاب “الإسلام السياسي” مفكرين ومجددين من حجم محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وحسن حنفي وميشيل عفلق..

وقد قدم الفيلسوف والشاعر محمد اقبال إضافات عبر كتاباته عن تجديد الفكر الديني وإصلاح واقع المسلمين في الهند وفي العالم.. واستفاد من دراساته في أوروبا وقراءته للفلسفة الألمانية البريطانية ..

لكن الحركات الإسلامية المعاصرة تأثرت أكثر بالفقهاء و”الدعاة” الهنود والباكستانيين، الذين أسسوا جماعات للإصلاح الاجتماعي ودعوا إلى أفكار عامة وطوباوية عن الدولة الإسلامية والوحدة الإسلامية وإلى إحياء الخلافة.

 

“الصحوة الإيمانية” دون وعي وعمق معرفي تتطور إلى صراع عنيف مع الدولة والمجتمع والنخب وإلى خلط بين الجهاد والإرهاب.

أغلب كتابات الإسلاميين السياسيين ذات صبغة أيديولوجية ولم تقدم إضافات كبيرة للفكر السياسي الدولي. كما غابت الدراسات المعمقة للدولة بمفهومها العصري الذي تتحكم فيه عوامل جيو استراتيجية وموازين قوى دولية وليس الأيديولوجيات..

وزن التاريخ الإسلامي وفهم الحداثة ..

س ـ الأستاذ هشام جعيط ينحدر من عائلة فقهاء وقضاة وعلماء دين وشريعة درس الفلسفة والتاريخ في أوروبا وتعلم منهجية البحث العلمي الغربية.. ألا تعتبر كتاباتك عن السيرة النبوية وتاريخ الأديان والتاريخ الإسلامي والعرب والمسلمين زمن النهضة والصراع مع الاستعمار مساهمة فكرية حداثية من داخل المنظومة الثقافية الوطنية العربية الإسلامية؟

ـ شخصيا ولدت في عائلة فقهاء دين وقانون.. في عائلة محافظة ثقافيا ودينيا لكني تأثرت مبكرا منذ الثامنة عشرة من عمري بالفلسفة والفلاسفة الغربيين..

وأعتقد أن اكتشاف الفلسفة مهم جدا للمفكر والباحث في تاريخ الأفكار والأديان والثقافات والحضارات ثم في فهم المتغيرات السياسية.. الفلسفة والدراسات التاريخية تساعد على التخلص من منطق “البديهيات” و”المسلمات” والفكر الجامد..

 

فشل مشاريع بناء الدولة الحديثة أفرز معارضات يسارية ويمينية تفتقر إلى “رؤيا” غلب عليها الارتجال و” ردود الأفعال”

وخلافا لغالبية الجامعيين لم أهتم عندما ذهبت للدراسة في دار المعلمين العليا في باريس بالسياسة والتحركات السياسية ولكن بالفكر وإبداعات المفكرين الغربيين… ثم اهتممت بعد ذلك بالدراسات الحضارية والسياسية. لم أعتقد أن عظماء الرجال في الغرب المعاصر هم الساسة بل كبار المفكرين والمبدعين والمؤرخين.

قرأت لكارل ماركس (1818 ـ 1883) وغيره من المفكرين لكني اهتممت بفكره وليس بالأيدولوجيا التي روجوا لها. وتأثرت أكثر بمؤلفات جورج فريديريش هيغل ( 1770 ـ 1831) وغيره من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين الألمان والأوربيين مثل نيتشة وايمانويل كانط الذين أثروا منذ مطلع القرن التاسع عشر في الفكر السياسي العالمي وصناع القرار في الدول الوطنية / القومية التي برزت في أوروبا.

وقد تطور مفهوم الدولة ـ الأمة والدولة القومية في أوروبا بعد الثورات القومية والوحدوية في القرن التاسع عشر ثم بعد التوسع الاستعماري وغزو الدول الصناعية لبلدان كثيرة في إفريقيا وآسيا.. وفي بقايا الخلافة العثمانية السابقة..

 

لم تستوعب الحركات اليسارية والقومية والإسلامية أن انهيار “دولة الخلافة ” ومشاريع الوحدة منذ قرن أقنع الشعوب والساسة بمزايا “الدولة القطرية”

وهنا أثرت كتابات أخرى في مفهوم الدولة الوطنية والأمة والقومية والدولة الحديثة من بينها كتابات جون بول سارتر وألبير كاميه.. وغالبا كانت كتابات الفرنسيين لا ترتقي إلى مستوى الكتابات الألمانية والأنجليزية وتبدو مسيسة أكثر ..

في نفس الوقت فإن حركات التحرر الوطني والثورات القومية والوطنية في العالم العربي الإسلامي، وبينها الأحزاب والجماعات الإسلامية، كانت أساسا سياسية وردود فعل على ظلم سلطات الاحتلال ولم تقدم مفكرين وفلاسفة ومنظرين.. والمعادلة دوما تبقى التوفيق بين مشاغل الفكر الأكاديمي والخطاب السياسي والحضاري الملتصق بالواقع فيما كان يسمى بدول “العالم الثالث” ويمستجدات الفكر الديني، والفكر الوطني والقومي.

وأعتقد أن الصراعات العربية والفلسطينية مع إسرائيل أثرت كثيرا في ملامح الفكر الوطني والقومي والخطاب السياسي للحركات الإسلامية. لقد كانت “نكسة حرب 1967” هزيمة سياسية ونكسة للتوجهات السياسية القومية العربية التي كانت ترمز إليها “الناصرية”.

وقد تأثرت شخصيا في تلك المرحلة من شبابي مثل كثير من الشباب والجامعيين العرب بكتاب ميشال عفلق “في سبيل البعث”، ووجدته “جريئا وقوميا وحداثيا في آن واحد”.

 

الجامعات والنخب ووسائل الإعلام لم تعد تساهم في بلورة فكر عربي إسلامي تجديدي وتلازما بين مشاغل جيل اليوم و شعارات التحديث والانتقال الديمقراطي .

لكن أفكار ميشيل عفلق عن الدولة القومية العربية لم تطبق بدورها وانتصرت “الدولة الوطنية القطرية” الضيقة. وقد ألفت في تلك الفترة كتابين حاولت فيهما تقديم جهد تأليفي تحليلي عن الدولة والمجتمع عند العرب والمسلمين من خلال تطور علاقاتهم بالآخر، أي بأوروبا والغرب.

الكتابان هما “الشخصية العربية الاسلامية” و”أوروبا والإسلام”..

المسلمون والغرب

س ـ تربط بين الدولة الحديثة والغرب وتعتبر أن من بين ثغرات المثقفين العرب والمسلمين من جهة والغربيين من جهة ثانية والأحزاب القومية والإسلامية من جهة ثالثة عدم استيعاب تيار عريض منهم لخصوصيات العلاقة مع الذات والآخر في الدولة العلمانية المعاصرة؟

ـ الحداثة والدولة الديمقراطية المعاصرة والحداثة والقيم الإنسانية الكونية برزت أساسا في أوروبا والغرب.. وأصبحت هذه القيم بالنسبة للمختصين في “تاريخ الزمن الراهن” والمختصين في الفكر السياسي المعاصر غربية عن تيار كبير من الساسة والمصلحين العرب والمسلمين الذين لم يستوعبوا التقدم العلمي والفكري والأدبي والثقافي والتكنولوجي.

صحيح أن الدولة الوطنية شجعت في العالم العربي الإسلامي التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والدراسات التكنولوجية لكنها لم تنجح في تخريج دفعة كبيرة من العلماء والمفكرين ممن يكون لديهم عمق معرفي فسلفي وتاريخي بما في ذلك تاريخ الأديان والأفكار وعلاقة بين الحروب والنزاعات المسلحة والمشاريع الاستعمارية القديمة والمعاصرة بالصراعات ذات الصبغة الحضارية التي توظف فيها قراءات للدين.

توظيف استعماري جديد

س ـ بعد عقود من هيمنة المنهجية “الأوروـ مركزية ” على كتابات المفكرين والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الأديان في الغرب انتشرت مجددا ظاهرة “محدودي المعرفة” بالمصادر وكتب السيرة والوثائق الأصلية.. وقد انتقدت مؤخرا بعض الكتب والكتاب واتهمت أصحابها بالسطحية والابتعاد عن المنهجية العلمية وبتوظيف التراث الإسلامي منذ الدولة العربية الإسلامية الأولى خدمة لمشاريع استعمارية جديدة..

ـ بالفعل تعاقبت الكتب “التبسيطية” والموظفة للإساءة للتراث العربي الإسلامي.. ربما بهدف ضرب ما يسمى بحركات “الإسلام السياسي” التي تطورت أحيانا من المطالبة بالإصلاح والتحرر الوطني إلى العنف والإرهاب باسم الجهاد.. مثل داعش والجماعات المتشددة المقاتلة في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان..

(تنقل من مكانه وسحب من مكتبه إصدارا جديدا ضخما بالفرنسية وصله مؤخرا قدمه لي قائلا ..)

على سبيل المثال صدر مؤخرا (في موفى 2019) على سبيل المثال كتاب ضخم في فرنسا تحت عنوان “قرآن المؤرخين” (Le Coran des Historiens) وصلتني نسخة منه .

توقعت أول الأمر أنه سيكون فعلا محاولة تأليفية وقراءات تركيبية تحليلية للسيرة النبوية ولفحوى القرآن الكريم ولتطور فهم المسلمين له خلال 14 قرنا ونيف، وخاصة خلال الخمسين عاما الماضية التي برزت فيها الأبحاث والدراسات المختصة في ديانات الشرق وفي التراث الإسلامي وأدبيات الحركات الإسلامية وشعاراتها وممارساتها .

لكني اكتشفت أن الكتاب أعد أساسا لمزيد نشر تقييمات سطحية ومتسرعة للقرآن والسيرة وللإسلام  والمسلمين.

للأسف تزايدت المنشورات السطحية الصادرة عن بعض الكتاب والباحثين والمستشرقين الغربيين، وخاصة في فرنسا، بهدف محاصرة المفكرين والمستشرقين الألمان وبعض الخبراء البريطانيين والأمريكيين الذين قدموا أبحاثا أعمق للقرآن والإسلام ولمفاهيم الأمة والدولة والخلافة والمجتمع ونظم الحكم والشريعة..

 

خيبة أمل الشباب من نخبه والثورة التكنولوجية وقيم العولمة قلصت من دور الدولة الوطنية والمرجعيات الثقافية الوطنية والعربية الإسلامية

هناك شيطنة واضحة لكامل التاريخ الإسلامي وتبسيط لمضامين بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.. وسجلت في هذا الكتاب مثلا خلط بين أحكام الحدود في الفقه الإسلامي وتاريخ الدول العربية  والإسلامية ومقاصد التشريع الإسلامي وبقية المجالات التي اهتم بها العلماء والفقهاء والفلاسفة المسلمون والعرب ماضيا أو في الحقبة المعاصرة.

وفي الوقت الذي ننقد فيه بعض الدراسات والمؤلفات الفكرية والفسلفية والتاريخية والسياسية الغربية يجب أن ننقد مع عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون أنور عبد المالك وحسن حنفي وغيرهم الصورة “النمطية” عن الدولة الإسلامية والتراث في مؤلفات كثير من الكتاب والسياسيين العرب والمسلمين..

نحن لم نعد اليوم في مرحلة “أخذ ما يصلح لنا من الغرب” حتى “استرجاع قوتنا القديمة كما كانت زمن الخلافة والدولة الاسلامية القوية الممتدة جغرافيا “،بل نحن نواجه أزمة وجود تاريخي  جيو سياسي وثقافي وحضاري …

إن المعطيات الجديدة والمتغيرات تفرض على المسلمين نخبا وحكاما وشعوبا أن يستوعبوا التحديات الجديدة، وأن يتجاوزوا الأطروحات القديمة بما في ذلك ثنائيات الهوية والحداثة والتراث والقومية والإسلام السياسي..

 س ـ لماذا ؟

ـ لأنه لم يعد قيمة لمثل هذه الأطروحات من وجهة الفكر المنهجي والقراءات العلمية الحالية..

على العرب والمسلمين والمختصين في دراسة تطورات الفكر والسياسة والمستجدات الجيو استراتيجية  تجاوز المنهجيات القديمة التي تنبئ بعجز عن طرح الإشكاليات الحقيقية ومرفع التحديات الحالية وحسم الأمور في الواقع. الدول والنخب في العالم الإسلامي ضحية قرون من التأخر الفكري والعلمي والاقتصادي طال العالم الإسلامي كله منذ عام 1700 إلى حدود عام 1920. ومنذ حوالي قرن برزت نهضةٌ اقتصادية وتقنية وسياسية في مجالات عديدة في دولنا. لكن هذه النهضة لم تبرز في مجالات الثقافة والابداع الفكري والمعرفي ، فتفوق الآخر أكثر ..

الإسلام والدولة الوطنية

س ـ بالنسبة لمفهوم الدولة الوطنية، هل تهدّده فعلًا فكرة الخلافة التي تنادي بها الحركات الإسلامية الراديكالية، وكذلك السلفيون؟

ـ الدولة الوطنية مفهوم غربي نشأ متأخرًا، بداية من القرن السابع عشر. وهو مفهوم نسبي اليوم، بفعل توجّه الدول الغربية نحو بناء تكتلات اقتصادية كبرى، مثلما حصل في أوروبا، التي اتجهت نحو بناء وحدة أوروبية، رغم أن الوحدة السياسية لا تزال تواجهها صعوبات حقيقية بل لقد أصبحت الوحدة الأوروبية مهددة بعد انسحاب بريطانيا وتلويح دول أخرى بالانفصال.. وعادت يافطات الدولة الوطنية القومية لتفرض نفسها من جديد.

مشروع الدولة الأوروبية الموحدة التي يمتد نفوذها على كامل القارة الأوروبية أصبح من جديد مهددا، ولا يزال يصطدم برغبة قوية في الحفاظ على السلطة القطرية كاملة.

ثبت أن “الدولة الاتحادية الأوروبية الكبرى” و”الدولة القومية المصغرة” تواجهان ضغوطات داخلية خارجية، ومن قبل منظّمات مالية عالمية وشركات متعددة الجنسيات، تجنح إلى ترسيخ العولمة بشروطها.

أمّا مفهوم الدولة / الأمّة في المنطقة، فقد نشأ في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية. لكن حتّى في ظلّ هذه الخلافة، يُلاحظ بأن الخصوصيات القطرية قد صمدت، وكانت تعبّر عن نفسها بأشكال متعددة.

 

كتابي “الشخصية العربية الإسلامية” قدم رؤيا لعلاقة الدولة بالدين في واقع المسلمين تاريخيا

أما فكرة الخلافة فقد بقيت موجودة دائمًا في وجدان عموم المسلمين وجمهورهم لم تنقطع أبدًا.

ومن بين مشاكل العالم العربي أن خلافات فكرية وعقادية وفلسفية وتاريخية مهمّة وأساسية، لم تُحسم بعد بما في ذلك مفهوم الدولة والخلافة والنظام السياسي الملكي والجمهوري بين المشاركة والمركزية والدساتير والتشريع وحدود الاجتهاد هل يشمل النص القرآني والحديث أم لا ..الخ

لذلك لابد من تعميق الدراسات وعدم الوقوع تحت ضغط الاجندات السياسية الظرفية الغربية التي تحاول اختزال الاسلام والتراث السياسي الاسلامي في قراءات منتقاة للاحاديث النبوية ومقتطفات من كتب السير دون استكمال التحقيقات ومناقشة النتائج التي توصل اليها عدد كبير من المستشرقين ومن الباحثين العرب والمسلمين ..في نفس الوقت على المفكرين والمثقفين في الجامعات والدول العربية والاسلامية تقديم مزيد من المساهمات العلمية وعدم الاكتفاء برسالة جامعية واحدة ، كما يجب عليهم تجاوز الضغوطات السياسية الظرفية التي أفرزها تصاعد اعمال العنف والارهاب باسم الاسلام والعروبة ..

المهمة صعبة وازدادت صعوبة بحكم انتشار المشاغل ووسائل تلهية الاطفال والشباب والكهول بالالعاب الالكترونية والمواقع الاجتماعية.. بما يحد من الاهتمام بالكتاب والدراسات الفلسفية والتاريخية والسوسيولوجية والاستراتيجية المعمقة ..

ولا ينبغي أن يغيب عنا أن خيبة أمل الشباب من نخبه والثورة التكنولوجية وقيم العولمة قلصت من ايمانهم بدور الدولة الوطنية والمرجعيات الثقافية الوطنية والعربية الإسلامية ، وأصبح همهم الهجرة والفرار من واقعهم وبلدانهم..

مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on فيلسوف تونسي: العالم في حاجة إلى فكر ونظام دولي جديدين

فيلسوف تونسي: العالم في حاجة إلى فكر ونظام دولي جديدين

المفكر التونسي حمادي بن جاب الله، عرف أستاذا مثيرا للجدل لمادة الفلسفة في الجامعة التونسية وفي فضاءات ثقافية وسياسية تونسية وعربية ودولية كثيرة منذ 40 عاما. كما عرف بكتاباته العلمية والسياسية في عدة موسوعات ومجلات فلسفية وتربوية وسياسية مختصة. يعتبر كثيرون أن من بين نقاط قوته تعدد اختصاصاته، لأنه جمع بين الدراسات التاريخية والفلسفية وابستمولوجيا العلوم الفيزيائية.

وفي الوقت الذي تتباين فيه التقييمات والمواقف من حمادي بن جاب الله وبعض مواقفه في وسائل الإعلام والمنابر الثقافية يحرص على أن يكون “مثقفا عضويا” ينزل من علياء الجامعات وينخرط في الشأن العام ويقدم قراءات للمستجدات محليا ودوليا.

الإعلامي التونسي كمال بن يونس التقى المفكر حمادي بن جاب الله وأجرى معه هذا الحوار الخاص بـ “عربي21″، ليستشرف معه المتغيرات إقليميا ودوليا بعد مرحلة “الحرب على وباء كورونا” فكانت هذه آراؤه:

س ـ كيف ينظر المفكر والمثقف المتابع للمستجدات الدولية إلى التحولات التي تشهدها المنطقة العربية ودول العالم على هامش انتشار “فيروس كورونا ” بحدة توشك أن تتسبب في أكبر أزمة طبية وأخلاقية وسياسية واقتصادية واجتماعية منذ الحرب العالمية الثانية؟

ـ نحن مقبلون على تغييرات عميقة ستخلط الأوراق وتتسبب في إعادة التفكير في المسلمات والنظريات الفلسفية والتاريخية والمقولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تمهيدا لبناء نظام عالمي جديد..

وستهتز الثقة في كثير من الشعارات. وسيواجه خطاب السياسيين والمفكرين وصناع القرار في كل المجالات تحديات جديدة، قد تصل حد بروز تيار يؤمن بانهيار “الثوابت” و”المسلمات” و”الأسس” التي بني عليها الخطاب السياسي الدولي المعاصر.

ستؤدي هذه الأزمة إلى مراجعات للأولويات العالمية والإقليمية في المجالات الطبية والسياسية والفلسفية والخيارات الاقتصادية. كما ستفرز إعادة نظر واسعة في التوجهات العامة للخطاب السياسي العالمي وشعارات العولمة والتقدم والازدهار والعيش الكريم والتفوق والأولويات الأمنية والعسكرية والتنموية.. الخ.

الوجه الآخر لفشل المنظومة

س ـ هل تساير وجهة النظر التي تعتبر أن العالم شهد تغييرات عميقة تاريخيا بعد كل الأوبئة والحروب الكبرى وغير أولوياته وسياساته؟ فهل سوف تؤدي الأزمة الحالية إلى “بركان” يعصف بصناع القرار الذين سيحملون مسؤولية الأوبئة والحروب وإخفاق السياسات الاقتصادية والصحية والعسكرية الحالية؟

ـ فعلا ستكون من بين نتائج الغليان الذي تسببت فيه الحرب على فيروس كورونا عالميا، إعادة النظر في أداء السياسيين ومراجعة نظريات كبار المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين والسياسيين في العهدين الحديث والمعاصر.

كورونا أسقطت أوهام الرأسمالية ومقولات لينين والعولمة

من المتوقع أن تسقط بعض “المقدسات” وأن تنهار بعض الأوهام.. وبينها بعض الكتابات والخطب حول القيم والقراءات لإنجازات الحداثة وما قبل الحداثة وما بعد الحداثة وقيم الحرية والازدهار والرفاهة والعدل الاجتماعي والعولمة.. التي برزت مع فلاسفة وشخصيات تاريخية في حجم “أب الفلسفة الحديثة الفرنسي” رينيه ديكارت (1695- 1650) والفيلسوف المفكر الاقتصادي الليبرالي آدم سميث (1723-1790) ثم مع رموز الفكر الاشتراكي الشيوعي مثل فلاديمير لينين ( 1870- 1924).. وصولا إلى رواد “العولمة” في القرن العشرين ..

ستسقط في المدة القادمة 3 أوهام كبرى

ـ الوهم الأول الذي برز بعد الثورة الصناعية والاعتماد على الآلة الحديثة وبروز شخصيات في حجم آدم سميث والدعوات إلى مقولات ليبرالية من نوع “دعه يعمل دعه يمر”.. أعلنوا عن تراجع “نهائي” لدور الدولة الاقتصادي لصالح رأس المال الذي يخلق الرفاهية والازدهار والسعادة.. وتابع مفكرون ومنظرون اقتصاديون بعدهم الترويج لهذه المقولة التي تبين فشلها.. وأنها كانت “وهما”..

ـ الفشل الثاني: سقوط النظريات التي قام عليها فكر رواد الاشتراكية والشيوعية حول نهاية الدولة ونهاية التاريخ وفق مسار صراع الطبقات.. وبشرت هذه النظريات كذلك بنهاية الرأسمالية وانتصار الديمقراطية الاجتماعية.. لكن الحصيلة كانت الوصول إلى الدولة القمعية الحديدية ورأسمالية دولة جديدة..

ـ الفشل الثالث يهم مقولات “ما بعد الحداثة”.. والعولمة الاقتصادية والفكر السياسي الاقتصادي الذي وعد بالتنمية الشاملة والديمقراطية والشراكة بين الإدارة ورأس المال والمجتمع المدني.. واعتبر دور المجتمع المدني محوريا.. لكن الحصيلة كانت عولمة متوحشة أنتجت أصنافا من الظلم واختلال التوازن والفوارق.. ونظما في الحكم وتوزيع الثروات من أبشع ما عرفت البشرية من ظلم ..

المركز والأطراف

س ـ هل تساير هنا مقولات بعض رموز “اليساريين الجدد” مثل المفكر المصري والخبير الاقتصادي الدولي سمير أمين صاحب نظرية “التنمية غير المتكافئة” ومقولات اختلال التوازن بين المركز (مراكز الدول العظمى والرأسمالية المتوحشة) و”الأطراف”، أو “الهامش”، أي ما يسمى بدول العالم الثالث؟

ـ البشرية تجد نفسها اليوم في مرحلة إخفاقات متعددة الأوجه وفي مختلف المستويات بسبب بهيم الرأسمالية المتوحشة، وتعمق الفوارق بين الدول والشعوب والقوى الاقتصادية والاجتماعية ..

انتهينا فعلا إلى تعميق “التنمية اللامتوازنة واللامتكافئة” بين “المركز” و”الأطراف” (أو “الهامش” و”المهمشين”) مثلما يقول المفكر والخبير الاقتصادي اليساري المصري سمير أمين..

نحن في نهاية “الكذبة الثالثة”.. وفي مرحلة انهيار “الوهم الثالث”.. ولابد من مراجعة النظريات الاقتصادية والفكرية والفلسفية والسياسية استعدادا لمرحلة تبلور النظام الدولي الجديد..

أين الحكماء؟

س ـ وكيف تتوقع أن تتطور المنطقة العربية الإسلامية والعلاقات بين الدول العظمى التي فضحت “كورونا” ثغرات قاتلة في سياساتها وخيارات زعمائها؟

ـ طبعا السؤال الكبير اليوم: كيف سيكون الوضع بعد الأزمة الحالية بسبب كورونا؟

شخصيا لا أرى في العالم قيادات لديها حكمة سياسية قادرة على أن توجه العالم في وجهة جديدة.. نفتقر إلى حكماء حقيقيين.. يكونون في مستوى الحاجة لبناء نظام عالمي جديد..

نحن في وضع حرج جدا وتاريخي: القوي يكتشف حدود قوته، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والضعيف أصبح لا يتحمل ضعفه.. ودول “الجنوب تبدو” تحت ضغط مضاعف ومتعدد الأشكال..

النتيجة قد تكون مزيدا من التفكير في الهجرة والمغامرة بالحياة والأمن والمصالح القديمة ..

من صالح الجميع اليوم إعادة الاتفاق على نظام عالمي جديد.. بعد أن تأكد فشل النظام الكوني الحالي وسقطت “كذبة العولمة” وسقطت معها أوهام انتهاء دور الدولة والرهان المطلق على رؤوس الأموال أو على المجتمع المدني ..

العالم يتطلع إلى واقع جديد يفرض الحد من استغلال الكبار للصغار.. ومن هيمنة “الدول العظمى” على دول الجنوب.. وعلى شعوب دول الجنوب والمجتمعات الفقيرة الحد من السلبية والكسل وسياسات البحث عن “حلول ترقيعية”..

المطلوب الالتقاء حول أولويات جديدة على رأسها “تحرر العالم”.. من التحرر الوطني إلى التحرر الاجتماعي والحريات الفردية والعامة وتكريس قاعدة الحرية.. التي أعتبرها على رأس الأولويات..

3 مدارس تاريخية

س ـ لو سألت المفكر والباحث في التاريخ والفيلسوف حمادي بن جاب الله قراءة استشرافية لتطور العالم ضمن رؤية تأليفية.. ماذا يقول؟

ـ يمكن تحقيق التنمية الشاملة والتقدم وضمان الحريات في صورة استقراء عميق للتاريخ وللمنهجيات التي اعتمدت في فهم المتغيرات التاريخية ..

عموما يمكن الحديث عن 3 نظريات في قراءة التاريخ وفهم المسارات التاريخية:

ـ الأولى منهجية “التاريخ يعيد نفسه” التي دافع عنها العلامة المؤرخ وعالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.. وقد تبينت حدودها ..

ـ الثانية هي منهجية التاريخ عند الكتاب والمفكرين “الأصوليين “الأوربيين وتلامذتهم في العالم، الذين يقدمون قراءة تبسيطية لتاريخ البشرية بمختلف تضاريسه، ويقومون بإسقاطات لأنهم انطلقوا من مسلمة غالطة تقول إن الابتعاد عن الأصل والأصول يؤدي إلى الدمار، وأن العلم والعقل يدمران الإيمان..

ـ الثالثة تعتبر أن التاريخ يتقدم موضوعيا وأن واقعنا مهما كانت ثغراته ونقائصه أفضل من واقع الآباء والأجداد، وأن الأولوية ينبغي أن تعطى للبناء والتنمية وتكريس الحرية.. ورفض الظلم والحرب لأن الحروب هي الشر المطلق ..

وإذا كان واقع البشرية اليوم سيئا جدا بسبب إصابة ملايين بفيروس كورونا وسقوط ملايين آخرين في الحروب التي تشهدها مناطق كثيرة في العالم، خاصة منذ تفجير حروب الخليج في الثمانينيات وحروب العراق 1991 و2003، فإن عدد ضحايا هذه الحروب أقل بكثير من الـ 50 مليون الذي سقطوا في الحرب العالمية الثانية مثلا.. لذلك علينا دعم القراءة الثالثة للتاريخ ..

مطلوب مراجعة كل “المسلمات” الفلسفية والسياسية والاقتصادية

إن جهود التنوير اليوم تخترق ظلمات تراكمت على امتداد القرون. وبالتالي فلا بد من دعم الجهد للبناء والاستشراف ودعم قيم الحرية..

إنّ أهم قيمة بُنيت عليه “الملّة الإبراهيميّة” أو “الأديان الثلاثة الكبرى” أي اليهودية والمسيحية والإسلام، هي الحرّيّة.. والحرية هدف في حد ذاتها، أمّا العلم والعقل فهما الوسيلة…

ولا أعتقد أن أتباع “الديانات الثلاث”، اليهوديّة أو النّصرانيّة أو الإسلاميّة، لديهم فرص الاجتهاد والإبداع والاستشراف عصرا أفضل ممّا هي عليه اليوم.

لقد حققت البشرية تقدما فاق ما تحقق في القرون الوسطى والعهدين الحديث والمعاصر في أوروبا والغرب وفي المستعمرات.. وفاق ما تحقق في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم.. علينا أن نستشرف الماضي ونتجاوز كسلنا وسلبيتنا وأن لا نرضى بنقائصنا ومآسينا.. ثم نتقدم.. نحو واقع أفضل..

البارزة, مقالات و دراسات ابن رشد, وجهات نظر 0 comments on العالم بعد كورونا: روسيا والصين في صعود.. لكن أمريكا لن تنهار .. بقلم الاستاذ منير شفيق

العالم بعد كورونا: روسيا والصين في صعود.. لكن أمريكا لن تنهار .. بقلم الاستاذ منير شفيق

العالم بعد كورونا:
روسيا والصين في صعود.. لكن أمريكا لن تنهار
**حروب وصراعات جديدة في الافق

بقلم الاستاذ منير شفيق

الحرب العالمية التي شنها كورونا (كوفيد- 19) على كل دول العالم، فرضت على أكثر من ثلاثة مليارات من البشر أن يعتزلوا في بيوتهم، وأدت إلى إغلاق المدن، ووقف المواصلات العامة، وتعطيل الحياة الاقتصادية، وتأثرت علاقات الدول بعضها مع بعض، وغير ذلك كثير مما يمكن أن يُقال حول ما أحدثته وتحدثه هذه الحرب، الأمر الذي فرض التساؤل: إذا كان ثمة شبه إجماع على أن عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما بعدها، فما هو التغيير الذي يمكن توقعه، بداية، بالنسبة إلى الوضع الدولي؟

حكومات الدول الكبرى، ولا سيما أمريكا التي تعدّ نفسها الدولة الكبرى رقم 1، وجدت نفسها عاجزة، حتى في بلادها نفسها عن مواجهة هذا الوباء كما يجب، ومقصرة في عنايتها بالصحة العامة، ومفتقرة إلى المتطلبات اللازمة، وغير قادرة على تأمينها بالسرعة المطلوبة، علما أن زيارة الوباء للعالم أمر متوقع، ولا يجوز عدم تأمين الحدود الدنيا استعدادا له، كما تفعل في توقع الحرب العسكرية فتجعل موازنة وزارة الدفاع أضعاف ما تخصصه للمجالات الأخرى.

ولهذا لا عجب حين تكتب “الواشنطن بوست” الأمريكية: “كورونا عرّت ترامب”. ويكتب معلقون كثر أن “الصين تفوقت على أمريكا في مواجهة كورونا”. ولا عجب أن تنتشر “قرصنة” دولية في الحصول على الكمامات، وأجهزة التنفس الصناعي، وثياب الوقاية، ووسائط التعقيم. وأضف إلى ذاك تصدع علاقات في ما بين دول حليفة، وتصاعد الاتهامات بين أمريكا والصين، بين أمريكا ومنظمة الصحة العالمية، بين أمريكا وكل من ألمانيا وفرنسا.

هذه المؤشرات تعزز السؤال: ما هو التغيير الذي يمكن توقعه بالنسبة إلى الوضع الدولي ما بعد الحرب العالمية الكورونية على العالم؟ طبعا هذا السؤال يمتد إلى ثلاثة أسئلة أخرى مؤجلة، هي: ما هو التغيير المتوقع بالنسبة إلى وضع كل إقليم من أقاليم العالم، ولا سيما الإقليم العربي- الإيراني- التركي؟ وما هو التغيير المتوقع في كل دولة على حدة؟ وما هو التغيير المتوقع على مستوى الفرد والعلاقات الأسرية والاجتماعية وعيا وأيديولوجية ومسلكا؟

فبالنسبة إلى السؤال الأول المتعلق بالتغيير الذي ينتظر الوضع الدولي، وهو موضوعنا هنا، يحتاج في الإجابة عنه أن يبنى على لحاظ ثلاثة أسس تاريخية، تتعلق بسنن التغيير في الوضع الدولي.

أولا: الذين تبنوا نظرية في التاريخ تقول إن الأوبئة كانت وراء قيام وسقوط إمبراطوريات وحضارات، ويستدلون على أن الوباء الأنطوني (165-190م) أسقط الإمبراطورية الرومانية، أو طاعون جستنيان (541-543م) زعزع أركان الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. وهذه نظرية غير صحيحة، لأن الأولى سقطت على يد القبائل الجرمانية عام 476م، أي بعد حوالي ثلاثة قرون، والفارسية بعد مئة عام تقريبا، وانتهت البيزنطية بعد 900 عام تقريبا.

فالتغيير لم يكن فوريا وله أسباب أخرى أهم، ومن ثم يجب أن يفرق بين دور الوباء في الإضعاف ودوره في التغيير. وكذلك حين يُعزى للوباء الأنطوني أنه أدى إلى إضعاف الإيمان بتعدد الآلهة، ومهد للمسيحية (315-333م) فالتغيير حدث بعد 150 عاما. أو عندما يعتبر أن الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن 14، أدى إلى إفلاس الملوك وانهيار الإقطاع والقنانة، وأدى إلى النهضة الأوروبية، فأنت تتحدث هنا عن مئة عام تقريبا، فيما الذي أدى إلى فتح باب التغيير (النهضة) كان اكتشافات الأمريكيتين، وطريق رأس الرجاء الصالح أواخر القرن الخامس عشر، ثم احتاج التغيير إلى الثورة البرجوازية، والنهضة بعد مئة أو مئتي سنة أخرى.

فعندما يقول هنري كيسنجر، “إن كورونا سيغيّر النظام العالمي للأبد”، يتقمص تلك النظرية، ولا يلحظ الفارق بين الإضعاف أو هز الهيبة، وبين حدوث التغيير.

ثانيا: فعل الأوبئة في الإمبراطوريات والحضارات والدول مثل فعل كورونا الحالي بالإنسان الفرد (أكان فتيا وشابا أم كهلا وشيخا). فالإمبراطورية إذا كانت في مرحلة نهوضها تتجاوز الوباء بالرغم من الخسائر التي يسببها، وقد يؤخرها بعض الوقت، لكنه لا يزرع أسباب سقوطها، أو يمنع نهوضها.

مثلا عندما ضرب طاعون عمواس في جيوش الفتح الإسلامي عام 18هـ، الموافق 640م، وقد ضرب في بلاد الشام حتى البصرة، تم تجاوزه، بالرغم من أنه قتل ما بين 25 و30 ألفا من الجند وخيرة القادة (مثلا أبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وعدد من الصحابة رضي الله عنهم). وكذلك القوى الناهضة في الغرب تجاوزت وباء 1918-1920 واستمرت في النهوض.

أما الإمبراطورية عندما تصبح في كهولتها أو شيخوختها، ففعل الأوبئة فيها أشد تأثيرا في إضعافها أو التمهيد لأفولها، من دون أن يكون السبب الرئيسي للأفول.

ولهذا، ونحن في البحث عن تغيير الوضع الدولي بسبب كورونا الراهن، ينبغي لنا أن نفرق في تأثيره بالنسبة إلى من هو في حالة صعود، ومن هو في حالة تراجع في ما بين الدول الكبرى. كما نفرق بين التغيير المباشر بعد كورونا في السنين العشر الأولى والثانية، ثم مدى تأثيره في التغيير في المدى البعيد، بالرغم مما سيتوفر من أسباب أخرى، أشد تأثيرا منه في حدوث التغيير الأكبر والنوعي.

ثالثا: طبيعة الدول القائمة وأنظمتها مثل طبيعة الطبقات والمكوّنات الاجتماعية، ثابتة لا تتغير نوعيا بسبب الأوبئة، أو بسبب كورونا هذا. فالوباء لا يقضي على الدولة والنظام القائم بالإسقاط، لأن الإسقاط يحتاج إلى من يحل مكانه. والوباء في النهاية هو الذي يُقضى عليه، أو يدخل في مرحلة كمون طويلة الأمد. لذلك؛ فإن طبيعة الدول الكبرى أو إسقاطها لا يكون بفعل وباء مثل كورونا، وإنما فعله سيقتصر على السمعة والهيبة إضعافا وخسائر في حالة الهرم والشيخوخة، أو يتم تجاوزه، ومن ثم الاستمرار في النهوض (ربما بعد نكسة مؤقتة).

فالرأسمالية في الغرب مرت بأوبئة، وبحالات من الضعف والقوة، من دون أن تتغير طبيعتها الربحية والنهابة والاحتكارية والهيمنية، الذي يتغير مع تغيّر موازين القوى هو تغيير كمي في مدى الجشع والهيمنية.

والسمات العامة للوضع الدولي وموازين قواه وطبيعة كل دولة كبرى فيه، ستبقى هي هي قبل كورونا وبعده. فكورونا لا يستطيع أن يطيح بأمريكا، ولا يستطيع أن “يعلو” بالصين لتصبح الدولة الكبرى رقم 1. وكذلك بالنسبة إلى روسيا وأوروبا واليابان والهند، وليس هو الذي يقرر التغيير الذي يحدث بعده.

تأثير كورونا على أمريكا وأوروبا أنه هزّ سمعة النظام الرأسمالي الغربي وهيبته، إذ بدا هشّا أمام هجمة كورونا، فيما بدت الصين ونظامها أقدر وأفعل في مواجهة الوباء كوفيد- 19. وبدت أوروبا ضعيفة أمامه وتكاد “تتصدع”، فيما حافظت روسيا على مكانتها وهيبتها. ولكن موازين القوى العسكرية فيما بين الدول الكبرى لم تتغير قبل كورونا وبعده مباشرة. وهذه هي الحاسمة في إحداث التغيير النوعي، أو الكمي، أما الهيبة والقدرة فلهما أهميتهما في حسابات موازين القوى العامة، ولكنهما لا تحدثان التغيير في الموقع الذي تحتله الدولة المعنية في ميزان القوى.

الفرق بين الحرب العسكرية بين الدول والحرب ضد كورونا؛ أن الأولى تنتهي بمنتصر يفرض سيطرته ومهزوم يخرج من المعادلة ولو مؤقتا. أما الثانية عندما يُهزم كورونا، فالكل يخرج منتصرا، أما في أثنائها، فالكل سيعاني من خسائر وأزمات بتفاوت، عدا البعد المتعلق بالهيبة والقدرة، حيث امتازت الصين حتى الآن بهما. هذا يعني أن الوضع العالمي بعد أن تضع الحرب الكورونية العالمية أوزارها، سيتشكل من الدول الكبرى نفسها، ويكون متعدد القطبية، مع متغيرات كمية هنا وهناك، سياسية واقتصادية ومعنوية، الأمر الذي سيحتاج إلى تغيير، ولكن دونه خرط القتاد (صراعات حامية الوطيس).

فالوضع العالمي بعد كورونا سيبقى متعدد الأقطاب، وبالأقطاب نفسها، وبفوضى، ولا نظام، ولكن بمتغيرات كمية في معادلة موازين القوى العامة، والأهم من دون اعتراف بمنتصر أو مهزوم، ومن دون استجابة للتغيير الذي أصبح على الأجندة. فما من دولة تتنازل بخاطرها عن مربعها، نزولا إلى مربع أدنى، فالنزول والصعود لا يتمان إلّا مدافعة وغلابا. وفي الماضي قبل “النووي” كانت الحرب حتمية، وهي القول الفصل.

على أن انقشاع ظلمة كورونا سيكشف ما غطته من أزمة اقتصادية عالمية تتسم بالركود والتضخم في آن واحد، وأزمة حرب أمريكية اقتصادية- سياسية على الصين، وأزمة أمريكية- روسية وصينية اتسمت بسباق تسلح محموم، وأزمة أمريكية- إيرانية تنذر بحرب إقليمية في أية لحظة، وأزمة أمريكية مع كل من ألمانيا وفرنسا وجنوبي كوريا واليابان. فجميع هذه الأزمات وراءها أمريكا، وهي في حالة من الضعف والتراجع، وقد حان أوان نزولها عن “عرشها” الذي تربعت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، واستغلته لتفرض الدولار سيّدا على العلاقات التجارية والمالية العالمية، مما جعلها تطبع الدولارات بلا غطاء ولا حساب. وجاء دونالد ترامب ليعلن “أمريكا أولا”، وراح يبتز أغلب دول العالم، وينزل العقوبات ضاربا عرض الحائط بالقانون الدولي والهيئات الدولية، وبمصالح كل الدول تقريبا.

كل الدول الكبرى، وبتفاوت، طبعا، تريد رفع هذه السيطرة الغاشمة السياسية- الدولارية- المالية التي تهدد بالعقوبات والحصار ودفع الأتاوات والخوات (المعاصرة)، وتشيع الفوضى العالمية وتهدد الإنسانية بالكوارث.

والمشكل الذي لا تتنبه له الإدارة الأمريكية؛ أنها تفعل كل ذلك في الوقت الذي لم يعد وضعها في ميزان القوى العسكري والاقتصادي والسياسي والتقني، يسمح لها باستمرار ما كان بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؛ فالأرض راحت تميد تحتها قبل هجمة كورونا وفي أثنائها، فكيف ما بعد كورونا؟

كل الدلائل تشير، منذ بضع سنين، إلى أن الصين تتقدم بسرعة لتتفوق على أمريكا بالإنتاج والذكاء الاصطناعي، وروسيا تتقدم عليها بصناعة الصواريخ البالستية السباقة للصوت أضعافا، والدول الكبرى تضغط عليها لتتنازل عن عرشها الذي لم تعد لائقة به، ولم يعد لائقا بها. ولكن أنّى لها أن تتخلى عما أخذته بالقوة والقدرة، وما يشبه الحرب في الأقل. فأن يختل ميزان القوى في غير مصلحة أمريكا شيء، وأن تعترف بهذا الاختلال شيء آخر، وأن تتقدم الصين اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا وذكاء اصطناعيا شيء، وأن تسمح أمريكا لها بأن تمضي بهذا التقدم شيء آخر.

صحيح أن الوضع الدولي بعد كورونا لن يبقى كما كان قبلها أو في أثنائها، ولكنه لا يتغير إلّا عبر صراعات ونزاعات وأزمات، قد تجعلنا نترحم على أيام كورونا.

أخبار, البارزة, حوارات, مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on الزعيم الفلسطيني التاريخي فاروق القدومي : متفائل بمضاعفات كورونا عالميا

الزعيم الفلسطيني التاريخي فاروق القدومي : متفائل بمضاعفات كورونا عالميا

· حضور أكبرللصين وروسيا وايران في افريقيا والمتوسط

· الوحدة الوطنية الفلسطينية ممكنة بشروط

حاوره كمال بن يونس

يعتبر فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية القيادي المؤسس الأبرز لنواتات الكفاح الوطني الفلسطيني في الخمسينات من القرن الماضي ثم لحركة التحرر الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير في الستينات مع الزعيم المؤسس الراحل ياسر عرفات ورفاقه التاريخيين بزعامة صلاح خلف ،أبو إياد، وخليل الوزير، أبو جهاد ..

ترأس القدومي وفودا فلسطينية شاركت خلال الستين عاما الماضية في مؤتمرات عربية وإسلامية ودولية وأممية في العالم أجمع بصفته ” رئيسا للدائرة السياسية ووزير خارجية دولة فلسطين ” ، لكنه عارض منذ البداية مسار أوسلو 1993 وما أفرزه من اتفاق وعارض بقوة التنازل عن الحق في المقاومة والكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية المحتلة .وبعد اغتيال متطرفين يهود لاسحاق رابين اعتبر أن مسار أوسلو مات وطالب بالتراجع عن الاتفاقيات المبرمة .

هو شاهد على العصر على أكثر من صعيد عربي ودولي ..

على هامش الحرب العالمية الحالية ضد وباء كورونا ، كان لنا معه الحوار التالي :

· كيف يتابع المناضل الوطني والسياسي المخضرم والخبير الكبير في السياسة الدولية فاروق القدومي المستجدات العالمية بعد انتشار ” فيروس كورونا ” وتسببه في خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة ؟

++ ابتسم كعادته ..وعلق بنبرته الضاحكة والدبلوماسية قائلا :

نعيش اليوم حربا عالمية من نوع خاص ..

لقد عشت طفلا الحرب العالمية الثانية ثم كل الحروب العربية الاسرائيلية منذ 1948 وكل حروب اسرائيل ضد شعبنا الفلسطيني البطل ..وواكبت عددا كبيرا من الحروب والنزاعات وحضرت كما هائلا من مؤتمرات القمة الدولية والعربية والإسلامية والإفريقية ..

لكن ما أعيشه اليوم هو حرب مختلفة من حيث وسائلها ودلالتها و أسلحتها ..حرب غير تقليدية همش فيها دور المؤسسات العسكرية العملاقة بما في ذلك دور الجيش والترسانة النووية والحربية في الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي ..

إنها حرب كشفت أن دور ” العمالقة ” الحاليين قد يكون انتهى ..وسيتراجع في كل الحالات ..بدءا من دور العملاق الأمريكي والأطلسي ..

كانت واشنطن تحمي نفوذها السياسي والاقتصادي الدولي بالاعتماد على تفوقها العسكري وحاملات الطائرات وتقدمها النووي والعلمي وفي مجال اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات .. فكشفت الأزمة الحالية هشاشة كل منظومات القوة التقليدية ، وتبين أن فيروس صغير جدا يمكن أن يفجر” الحرب البكتيرية ” الأخطر..ويتسبب في غلق أغلب المطارات والموانئ والشوارع والمدن في العالم أجمع ..ويتسبب في خسائر كبيرة وغير مسبوقة في الأرواح والأموال ..

إنه مؤشر عن أن قوة الولايات المتحدة الأمريكية والدول العظمى أصبحت مهددة بالانكماش والتراجع على كل المستويات ..

رابحون وخاسرون

· بمنطق الربح والخسارة ..

من هم الرابحون والخاسرون في المشهد السياسي الدولي بعد هذه الحرب ” ضد كورونا “؟

وكيف تستشرف تطور موازين القوى والعلاقات الدولية بعد السيطرة على هذا “الوباء” ورفع الحجر الصحي الشامل المفروض لأول مرة على مليارات من البشر؟

++ أعتقد أن الأوضاع الجيو سياسية سوف تتغير عالميا ..

وستكون الولايات المتحدة واسرائيل وبعض الدول العظمى من أكثر المتضررين .. من التحولات الجيو استراتيجية الدولية والاقليمية ..

سوف “ينكمش” الدور الامريكي وحجم اسرائيل ويتراجع نتيجة ذلك الخوف الذي انتشر في عدة عواصم عربية وفي دول العالم من بعض اللوبيات المتطرفة التي تحكم امريكا حاليا والتي تضغط لصالح سلطات الاحتلال الاسرائيلية..

وسوف تحرص الدول الخليجية خاصة والعربية عامة على التحرر من ” الخوف من الغول الامريكي ” ومن ” القوة الامريكية التي لاتقر” و” القوة الاسرائيلية التي لا تهزم”.. بما سيعني تراجع تأثير اللوبيات الامريكية المتطرفة واللوبيات الصهيونية على مؤسسات صنع القرار في العالم وفي الوطن العربي وبصفة أخص في بعض الدول العربية والافريقية والاسلامية والخليجية ..

وسينقص بالضرورة الرهان في اغلب العواصم العربية والافريقية والاسلامية على اللوبي الصهيوني خوفا وطمعا .. من سلطات تل ابيب ومن اللوبيات التي تقف وراءها في واشنطن ..

في نفس الوقت سوف تنفتح اغلب دول العالم والدول العربية والافريقية والاسلامية أكثر على الصين وروسيا واليابان وعلى ” الدول الصاعدة ” بما فيها الهند وكوريا ء وايران وتركيا ..

سمعة واشنطن في الميزان ؟

· تبدو واثقا من أن القوى الأعظم في العالم والأكثر تأثيرا عربيا ، بما فيها الولايات المتحدة واسرائيل ، سوف تكون الخاسر الاكبر من أزمة ” كورونا “؟

ما هو رأيك فيمن يعتبر أن هذه القوى لديها احتياطي اقتصادي وعسكري ضخم وتقدم علمي بما سوف يضمن خروجها من الازمة الحالية باقل الاضرار ؟

++ اعتقد ان الامور ستتغير ايجابا في المنطقة وعالميا في ظرف عام ..لأن المتغيرات الجيو سياسية تأخذ وقتا ..

الجميع يتساءل منذ عقود : حتى متى سوف تتابع سلطات الاحتلال الاسرائيلية سياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ودول المنطقة ؟

وحتى متى سوف تواصل اسرائيل سياسة التوسع والتمدد عربيا وافريقيا واسلاميا بصيغ رسمية وغير معلنة ؟

الانظمة العربية والافريقية منزعجة من تضخم التدخل الاسرائيلي ومن تزايد دور اللوبيات المتطرفة في الولايات المتحدة ..

وأعتقد أن دول الخليج ستسعى لخدمة مصالحها وسوف تعمل على الحد من ” التمدد الاسرائيلي ” و” غطرسة ادارة ترامب ” في المنطقة تحت يافطات عديدة من بينها ” التصدي للخطر الإيراني “..ولو كان الثمن الصمت على قراراتها بشأن القدس والجولان السوري المحتلين ..

لقد فهم السياسيون العرب أن افتعال التناقضات الداخلية عربيا وإسلاميا وفلسطينيا لا يفيد إلا خصومهم وأعداءهم …وأن انكماش الولايات المتحدة وانغلاقها المرتقب على شؤونها الداخلية سوف يضعف المخططات ” الامتداد الإسرائيلي ” عربيا ودوليا ..

ان سمعة واشنطن وتل أبيب وحلفائهما في الميزان بعد كورونا .. وهو معطى يمكن أن يستفيد منه قادة الدول النامية وحركات التحرر الوطني بما في ذلك من حيث تنويع شركائهم والانفتاح أكثر اقتصاديا وسياسيا على الدول العربية والاسلامية وعلى روسيا والصين وعلى ايران الإسلامية واليابان ودول اوربا الشرقية والمانيا واليابان ..

روسيا والصين

· يجري الحديث منذ الحرب العراقية الايرانية وحربي الخليج في 1991 و2003 و” ثورات الربيع العربي ” في 2011 عن نظام اقليمي جديد ونظام دولي جديد ، هل تعبر أن تغييرا عميقا سيتحقق في اتجاه اعادة تشكيل هذين النظامين ؟

++ شعوب المنطقة وحكام العالم فهموا بعد أزمة كورونا أن العالم الذي يتحكم فيه ” قطب واحد ” بزعامة الولايات المتحدة عالميا واسرائيل اقليميا انتهى ..وولى عهده..

النظام العالمي الجديد سوف يتشكل بوضوح في ظرف عام من الان ..بعد أن يتأكد انكماش الدور الأمريكي والاسرائيلي وتراجع الحاجة الى النفقات العسكرية التي فرضتها مؤسسات صنع السلاح الامريكية والاوربية على العالم وخاصة على الدول الافريقية والعربية والاسلامية ..

وقد فهم ساسة المنطقتين العربية والافريقية ودول ” عدم الانحياز” أن بعض الدول مثل الصين وروسيا والهند وايران وتركيا يمكن أن تعدل الكفة ..رغم تناقضات مصالحها حول بعض الملفات وخاصة في دول محورية ومهمة جدا مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن ودول مجلس التعاون الخليجي..

لكن الجميع فهم أن ” الربيع العربي” وقع توظيفه من قبل بعض اللوبيات الدولية والاسرائيلية لفرض نفقات وسياسات وتحالفات لم تكن في صالح شعوب المنطقة ودولها.. كانت حصيلة الاعوام العشرة الماضية حروبا ودمارا في سوريا والعراق وليبيا واليمن وقلاقل ومصائب في دول أخرى ..وحان الوقت لبناء نظام اقليمي جديد تساهم العواصم العربية في صنعه ورسم ملامحه ولا يفرض عليهم من جهات متنفذة في مؤسسات عسكرية صناعية في الحلف الاطلسي اواسرائيل ..

وفي كل الحالات اعتقد ان الترحيب سيكون كبيرا بزيادة دور روسيا والصين في البحر الابيض المتوسط وافريقيا والوطن العربي الاسلامي الكبير..

دور الهند

· وماذا عن الهند ..القوة الصاعدة دوليا التي تحتل المرتبة الخامسة دوليا اليوم وترشح نفسها لان تكون الثالثة قبل عام 2030؟

++ الهند كانت في عهد غاندي وزعمائها السابقين زعيمة “دول عدم الانحياز” وصديقة لقضايا التحرر الوطني في العالم ..

وقد تقدمت اقتصاديا ، لكن يبدو أن ساستها مترددون سياسيا ..وتبدو ضحية الضغوطات التي تمارس عليها في سياق حرصها على الاستفادة من مزايا الانفتاح الاقتصادي الامريكي والاوربي على منتوجاتها ومستثمريها ..

لكن الهند قد تستفيد بدورها من انكماش الدور الامريكي و الاسرائيلي..قد تلعب دورا أكبر ..لكنها تبدو حذرة جدا ..

حذر روسيا والصين

· لكن سياسات روسيا والصين و” الدول الصاعدة ” حذرة بدورها نسبيا ..

وسلوكيات ساستها خلال الازمة التي فجرها فيروس كورونا تؤكد ذلك ..

++ صحيح ..

لكن في كل الحالات فإن معطيات كثيرة ترجح تزايد دور روسيا والصين عالميا وفي المنطقة المتوسطية وفي الدول العربية والاسلامية والافريقية ..

صحيح أن خلافات ثانوية برزت بعد مسار ” استانة ” في كازكستان عن سوريا الذي ساهم في تأسيس “محور شرقي” تتزعمه روسيا ويضم تركيا وايران ..

وصحيح أن الصين لديها مصالح في مناطق مختلفة من العالم بما في ذلك في امريكا واروبا ..

لكني اعتقد ان روسيا والصين سوف تدعمان علاقاتهما مع الدول العربية والافريقية و مع بلدان اوربا الشرقية وبلاد البلقان وبعض دول اوربا الغربية بزعامة المانيا ..

وسترحب المانيا بالانفتاح شرقا في مرحلة خرجت فيها بريطانيا من الاتحاد الاوربي وكشفت فيها ازمة ” كورونا ” محدودية التضامن الاروبي – الاوربي..

نحن أمام متغيرات دولية تاريخية ..

وقد أثبتت روسيا بعد حوالي 10 أعوام من انهيار جدار برلين أنها لاعب دولي كبير.. وأثبت أداء حكام الصين الجدد بمناسبة الحرب على ” كورونا ” أنهم قادمون ..وسيحققون انتصارات جديدة اقتصاديا وسياسيا وعلميا وطبيا ..

قامت روسيا والصين بمبادرات رمزية وقوية اتجاه ايطاليا واسبانيا وإيران والدول الأكثر تضررا من وباء كورونا ،بما سوف يمهد لدور أكبر يلعبانه لاحقا ..

سوريا والعراق وليبيا واليمن

· وهل تتوقع أن تنفرج الأوضاع الأمنية والعسكرية والإنسانية ” بعد كورونا ” في البلدان العربية التي تعاني من حروب مدمرة منذ حوالي عشرة أعوام مثل سوريا وليبيا واليمن..ومنذ 40 عاما مثل العراق ؟

++ نتمنى ذلك ..

لكن الاطراف المتدخلة كثيرة .. وقد تكون كل التطورات رهينة ” الانكماش الامريكي والاسرائيلي” وترفيع مستوى الحضور الصيني والروسي في المنطقة ..

عندما سوف تتأكد الأطراف التي انخرطت في الحروب التي وقع تفجيرها في سوريا والعراق واليمن وليبيا أن هذا الانكماش أصبح أمرا واقعا سوف تغير اولوياتها وتعتمد أكثر على الدول الشقيقة والصديقة عوض أن تتحالف مع ” الآخر” ضدها..

سوريا رقم صعب في المنطقة وبين الدول المجاورة لفلسطين المحتلة وللبنان والاردن والعراق ..ولا يمكن أن تظل طويلا في هذه الوضعية ..ولا يمكن إلا أن تكون في صف دعم المقاومة الفلسطينية والانتصار لحركات التحرر الوطني .. وقد استفادت من تحالفها مع روسيا وايران ..

الوحدة الفلسطينية ..

· وماهي آفاق تفعيل الوحدة الوطنية الفلسطينية ؟

هل تستفيد الاطراف المتصارعة في الضفة الغربية وغزة من المناخ الجديد فتجمد تناقضاتها الثانوية وتمضي في تكريس تعهداتها بتفعيل الوحدة الفلسطينية وتنظيم الانتخابات المؤجلة ؟

++ نتمنى ذلك ..

لكن يبدو أن كثيرا من الاخوة في فلسطين لم يستوعبوا بعد كثيرا من دروس الماضي ..ولم ينخرطوا بعد في مسار الاصلاحات المطلوبة وبينها تكريس الوحدة الوطنية ..والتوافق حول أولويات التحرر الوطني والكفاح المشترك من أجل انهاء الاحتلال ..

حاوره كمال بن يونس

أخبار, البارزة, حوارات, مقالات و دراسات ابن رشد 0 comments on مورو: أدعو قادة الدول المغاربية إلى انقاذ بلداننا وشعوبنا من ” الخطر الداهم”

مورو: أدعو قادة الدول المغاربية إلى انقاذ بلداننا وشعوبنا من ” الخطر الداهم”

·
·
· 60 بالمائة من القضايا أمام المحاكم العربية ” عائلية”

حاوره كمال بن يونس

أورد رئيس البرلمان التونسي السابق والمرشح البارز للرئاسة في سبتمبر الماضي عبد الفتاح مورو أن ” تونس وأغلب الدول العربية والنامية مهددة بمرحلة ” خطر داهم ” على عدة مستويات . لذلك توجه بنداء إلى قادة الدول المغاربية للتشاور واتخاذ قرارات جريئة وفورية لتجنيب الشعوب ودول المنطقة مخاطر امنية سياسية واجتماعية اقتصادية بالجملة تهددها جميعا ،بما يحتم تفعيل آليات الاتحاد المغاربي فورا .

شعبوية ..و انتكاسة الديمقراطية

وتوقع مورو أن تستفحل مخاطر الفقر والبطالة في تونس والدول المغاربية وأن يتراجع الرهان على الحريات وعلى الديمقراطية وأن تبرز” ديكتاتوريات جديدة ” على أنقاض النخب السياسية الحالية التي تعمقت ثقة الشباب والشعوب فيها .

واعتبر أن وباء كورونا كشف في أغلب دول العالم ، وبينها تونس والدول المغاربية والعربية ، لاشعبية أغلب السياسيين وهشاشة البينة الاساسية والمنظومة الطبية والصحية العمومية .

وتوقع مورو أن تشهد الانظمة الديمقراطية والتعددية ، وبينها النظام التونسي ، انتكاسة بسبب اقتناع مزيد من المواطنين والسياسيين بأن المستفيدين من الشعارات السياسية الديمقراطية هم أساسا ممثلو أطراف شعبوية ولوبيات تهريب وفساد مالي وسياسي عجزت عن تحسين واقع الشعب وعن ضمان مشاركة الشباب في الشأن العام والانتخابات والحياة السياسية .

3 ملايين تونسي مهددون بالجوع والفقر

وقدر عبد الفتاح مورو أن مالا يقل عن ثلاثة ملايين مواطن أي ربع الشعب، تضرروا من قرارات الحجر الصحي وحظرالجولان، وخسروا مؤقتا موارد رزقهم، وقد ينفجر بعضهم في أي وقت ، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالعائلات التي ليس لديها موارد رزق تكميلية وموظفين يحصلون على رواتبهم بصفة دائمة ” بدعم من الدولة “.

ولاحظ مورو أن ” أنصار الخطوات الشعبوية ” كانوا يزايدون قبل أسابيع ويطالبون بفرض حجر شامل وحظر للجولان ، فلما اتخذت الحكومة القرار اصبحوا يزايدون في الدفاع عن ملايين المهمشين والفقراء والمحالين على البطالة الفنية في سياق اجراءات الوقاية الوطنية والدولة من انتشار وباء كورونا.

وأرجع هذا التذبذب إلى غياب ” مؤسسات دراسات استشرافية معمقة ” و” لجنة وطنية عليا للاستشراف ومجابهة الكوارث” تعنى بالاستشراف والدراسات المعمقة وليس بمجرد ” المتابعة التقنية ” وتقديم ” حلول فنية ” للمشاكل الطارئة ”

الخلافات بين الرؤساء الثلاثة

وأعرب رئيس البرلمان السابق عن تخوفات مما وصفه بين” غياب التناسق والتوافق داخل مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية وداخل الحكومة والبرلمان” في تونس مما تسبب في تأكيد ما يروج عن ” الخلافات العميقة بين الرؤساء الثلاثة : رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان وأنصارهم .

واعترف عبد الفتاح مورو أن هذه الخلافات ليست جديدة على المشهد السياسي والإعلامي التونسي وقد برزت في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ( 2015-2019) لكنه سجل أن الأعوام الخمسة الماضية ضمنت سير مؤسسات الدولة التنفيذية والبرلمانية لأسباب عديدة من بينها فوز حزبين كبيرين هما نداء تونس وحركة النهضة بأكثر من ثلثي مقاعد البرلمان السابق .

في المقابل فإن نتائج انتخابات الخريف الماضي أفرزت ” فسيفساء حزبية وسياسية وتشرذما ” وأوصلت إلى الحكم شخصيات ومجموعات سياسية لديها كتل برلمانية صغيرة لا يمكن أن تضمن السير العادي لعمل البرلمان والحكومة وبقية مؤسسات الدولة .

وتوقع مورو أن ” يتغير المشهد السياسي الحالي المتأزم ” في أقرب وقت ، وبمجرد مرور مرحلة الصراع مع وباء كورونا “.

مراجعة الأولويات السياسية

وسجل عبد الفتاح مورو أن حوالي ثلثي القضايا التي تنظر فيها المحاكم التونسية والعربية تتعلق بنزاعات عائلية وقضايا طلاق ونفقة وعنف لفظي ومادي بين الاقارب و خلافات حول توزيع تركة الأب والام .. ” وهو ما يؤكد تعمق أزمة الثقة داخل الأسرة والمجتمع وتراكم الأسباب التي تدفع نحو العنف والفوضى والتحركات الفوضوية التي يستفيد منها المتمردون على مؤسسات الدولة وعلى المنظومة الإعلامية والسياسية والاقتصادية الحالية .

ودعا عبد الفتاح مورو السياسيين في تونس والدول المغاربية الى إعادة النظر في أولوياتهم السياسية المحلية والإقليمية والدولية ، والى الرهان أكثر على الأمن الغذائي والزراعة والاقتصاد التضامني وتنويع شراكات البلاد للاستفادة من فرص انفتاح بعض البلدان الأوربية مثل ألمانيا وايطاليا واسبانيا والدول الصاعدة على دول جنوب البحر الأبيض المتوسط وبينها تونس و المجموعة المغاربية .