3 جوان 1955 الباي محمد الأمين يوقع على جملة من الاتفاقيات المصيرية مع الجانب الفرنسي سنة قبل اعلان استقلال تونس وإنهاء الاستعمار الفرنسي للبلاد وهي اتفاقيات اتضح فيما بعد أنها مكبلة لنا وأنها تديم الاستعمار وتجعله متواصلا ولو بطرق مختلفة حتى وإن رفع العلم التونسي وخرجت الجيوش الفرنسية من أراضينا .. نذكر بهذا التاريخ المفصلي في تاريخ تونس الحديث لسبب بسيط وهو أنه تاريخ جعل كل من واكب ندوة مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ليوم السبت 21 جانفي الجاري يشعر بأننا لا نزال نراوح مكاننا و لا زلنا لم نتجاوز حقبة الاستعمار ومازلنا في تلك الأجواء التي سبقت الإمضاء على اتفاقيات إدامة الاحتلال الفرنسي لتونس.

نستحضر تاريخ 3 جوان 1955 ونتذكر المفاوضات التي أجراها عن الجانب التونسي الطاهر بن عمار والمنجي سليم وعن الجانب الفرنسي إدغار فور و بيار جولي والتي مهدت لإمضاء محمد الأمين باي لست اتفاقيات بأن جليا اليوم أنها خطيرة وأنها قد قوضت وثيقة الاستقلال وجعلت البلاد التونسية رغم إعلان استقلالها تابعة على الدوام لمستعمرها القديم ومرتهنة له على الدوام .. نستحضر هذه الاتفاقيات ونحن نستمع إلى الثالوث الميز السيدة جنات بن عبد والأستاذ جمال الدين العويديدي والأستاذ أحمد بن مصطفى الذين أثثوا ندوة هذا الأسبوع في مؤسسة التميمي وهم يتحدثون عما يحدث اليوم في بلادنا من تزوير للأرقام وإخفاء لحقيقة المعطيات المتعلقة بالمبادلات التجارية وما تقوم به الحكومة من مغالطة الشعب في حديثها عن حقيقة عجز الميزان التجاري وإخفائها لحقيقة هذا العجز وعن مغالطة أخرى تتبعها الحكومة في طريقة احتساب العجز التجاري حتى لا يظهر حجمه الحقيقي وحتى لا تكتشف الجهة التي تساهم بقسط كبير فيه.

منطلق الحديث عن هذا الموضوع وبداية تحليل حقيقة العجز في الميزان التجاري كان الكشف عما يحصل اليوم داخل الحكومة من مغالطة في احتساب نسبة التوريد مقارنة بنسبة التصدير وتعمد إظهار أن الفارق بينهما مقبول وفضح خطورة مثل هذا التصرف على المالية العمومية والتغطية عن العجز الكبير الحاصل والأخطر من ذلك التستر عن الجهة المتسببة فيه و إظهار أن الفارق السلبي ليس بالكبير .. كان المدخل الذي اختاره المحاضرون في هذه الندوة الفكرية هو ما امضت عليه بلادنا من اتفاقيات شراكة اقتصادية وتجارية مع الجانب الأوروبي والتي بدأت سنوات قليلة بعد الاستقلال و لقيت حينها معارضة من القوى الوطنية التي اعتبرت أن تحويل تونس إلى قطاع مناولة لفرنسا فيه إهانة للسيادة الوطنية وهذا ما يجعلها خادمة لها و هو طريق لاستعادة الاستعمار من جديد من بوابة الشراكة الاقتصادية والتجارية غير المتكافئة ولا الندية وقد كان اتفاق الشراكة هذا وقتها سببا في ابعاد الزعيم أحمد بن صالح عن الحكم وغضب بورقيبة عليه وبداية الخصومة بين الرجلين وقد صرح أحمد بن صالح في تعليقه على هذا الابعاد بأن الذي أخرجه من السلطة هي فرنسا.

ويتواصل هذا التصور للتعاون الثنائي وهذه الشراكة مع الضفة الغربية وتحديدا فرنسا وبلدان الإتحاد الأوروبي مع اتفاقية التبادل التجاري الحر الشامل والمعمق التي امضتها تونس مع الجانب الأوربي في سنة 1995 ودخلت حيز التنفيذ في سنة 1996 وهي اتفاقية وإن كانت توحي في الظاهر بتمكين تونس من امتيازات تجارية وتمكنها من تحرير تجارتها وكسب عائدات من وراء ما تصدره، إلا أن الأيام قد كشفت أنها اتفاقية مضرة بالاقتصاد بل أضرت بما نملك من صناعة وجعلت المنافسة التجارية غير متكافئة وتسببت في غلق المئات من المؤسسات والمصانع وأنتجت بطالة كبيرة في صفوف الشباب وكانت السبب فيما بات يعرف اليوم بالهجرة غير الشرعية للشباب العاطل عن العمل إلى أوروبا بحثا عن وضع إجتماعي أفضل ..

نذكر بهذه الاتفاقيات في حديثنا عن غياب المصداقية فيما تعلن عنه الدولة التونسية من مؤشرات اقتصادية غير صحيحة لنوضح ونكشف أن ما يصدر من مغالطة في احتساب عجز الميزان التجاري هو متأت من منوال التنمية المتبع القائم على تطبيق التزامات و اتفاقيات الشراكة الأوروبية والتي حولت البلاد إلى قطاع مناولة لصالح الشركات الأجنبية غير المقيمة والمصدرة كليا ” Régime offshore ” وهي شركات لا تخضع إلى قانون الصرف للبنك المركزي التونسي في عملية التصدير والتوريد لذلك فهي غير مُلزمة بدفع قيمة المواد الموردة و هي لا تسترجع ما تربحه من أموال من وراء تصدير منتجاتها إلى الخارج وحسب هذا النظام التجاري فإن هذه الشركات معفية من المعاليم الديوانية و هي مُطالبة فقط بالقيام بمجرد تصريح تلقائي و غير مراقب من طرف الديوانية التونسية، تكشف فيه قيمة المواد الأولية عند دخولها و قيمة المواد التي تمت مناولتها في تونس عند خروجها بعد أن يتم تحويلها إلى بضاعة ومنتجات لذلك فإن ما هو محمول على هذه المؤسسات وما هي مطالبة به يقتصر فقط على تسديد أجور العمال وفواتير نفقات كل مكونات كلفة الإنتاج داخل البلاد التونسية وما تحصلت عليه من خدمات.

والمغالطة التي ترتكبها الحكومة وهي تقدم مؤشر العجز التجاري الذي عادة ما يكون غير متوازن بين ما نورد وما نصدر وهو غالبا ما يكون مختلا نتيجة تراجع نسبة التصدير في مقابل ارتفاق نسبة التوريد الذي يتصف بالفوضوي والعشوائي وهي حالة يعدها المختصون في الاقتصاد بأنها حالة مرضية بما أنها تستنزف رصيد البلاد من العملة العصبة لتفاقم المواد الموردة وخاصة تلك التي يمكن الاستغناء عنها أو التقليل منها أو التوقف الوقتي عن جلبها كما الحال في توريد المكثف للسيارات.. وتظهر المغالطة في محاولة الترويج إلى أن عجز الميزان التجاري ليس بالكبير وبأن الاقتصاد في طريقه الى التعافي والايهام بتحسن عمليات التصدير وذلك من خلال اقحام أرقام معاملات البضائع التي تصنع وفق نظام الشراكات غير المقيمة والمصدرة كليا ضمن مؤشر الميزان التجاري بما يجعل نسبة التصدير ترتفع في مقابل ما نورده من سلع وبهذه الطريقة يظهر وكأن الخلل في الميزان التجاري ضعيف أو قليل والحال أن ما تنتجه شركات المناولة هذه لا يعد تصديرا تونسيا حتى يحتسب ضمن مؤشرات الميزان التجاري، ناهيك أن العبرة في اعتبار البضاعة ضمن الصادرات المحلية وتابعة للاقتصاد التونسي أن تكون المواد الأولية تونسية وغير تابعة للبلد المصدر للبضاعة بما يعني أن المؤسسة أو الشركة التي تنشط وفق نظام المؤسسات غير المقيمة والمصدرة كليا والتى لا تخضع إلى رقابة الديوانية ولا البنك المركزي، لا يعد ما تنتجه وتقوم بإخراجه من منتجات خارج حدود الوطن وإعادته إلى بلده الأصلي تصديرا .

وهذا يعني أن اعتبار المنتجات التي تعود إلى بلدانها الأصلية بناء على اتفاقيات الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوروبي الذي فرض نظام التبادل التجاري الحر وفق صيغة المناولة من قبيل البضاعة المصدرة واحتسابها ضمن مؤشرات الميزان التجاري للتقليل من عجزه وإظهار بأن الوضع الاقتصادي في طريقه إلى التحسن هو مغالطة كبرى ترتكبها الحكومة التونسية وتزييف للأرقام وهو الأمر الذي يعلمه كل من المعهد الوطني للإحصاء والبنك المركزي ولكن لا أحد يتحرك لإيقاف هذه المغالطة ولا أحد يجرؤ على كشف هذه الحقيقة ومصارحة الرأي العام بها.

المغالطة الثانية في الحديث عن حقيقة عجز الميزان التجاري و ما يروج إعلاميا من أن الفارق الكبير بين الواردات والصادرات والذي يكبد الدولة هدر كمية كبيرة من العملة الصعبة وراءه التوريد الكبير من الصين وتركيا في مقابل تصدير قليل إلى هاذين البلدين وبالتالي فإن العجز كله متأت من التوريد المكثف مع هاذين البلدين وأن الميزان التجاري مع الاتحاد الأوروبي وتحديدا فرنسا يشهد فائضا بما يعني أن علاقتنا التجارية مع فرنسا لا تعرف عجزا بين ما نورد منها وما نصدر لها وهي مغالطة إلى جانب كونها لا تستقيم واقعا وإلا كانت فرنسا وفق هذا المعطى تعرف عجزا تجاريا مع تونس ويجعل اقتصادها مرتهنا للاقتصاد التونسي ، فإن حقيقة العلاقة التجارية مع دول الاتحاد الاوروبي تشهد عدم توازن و عجزا واضحا مع كل من ألمانيا وايطاليا وفرنسا وأن حقيقة الميزان التجاري مع بلد العم سام ليس كما يقول الخطاب الرسمي ويردده جانب من الإعلام المتواطئ مع التوجهات الفرنكفونية في تونس حيث كشف تقرير صادر عن المعهد الوطني للإحصاء أن مبادلاتنا مع الطرف الأوروبي غير متوازنة وتقوم على خلل كبير بين المبادلات والصادرات وأن تونس تعرف عجزا في المبادلات التجارية مع فرنسا .

ما نخرج به من هذه الندوة المهمة هو جملة من الحقائق منها أن تونس بناء على اتفاقيات الشراكة وفق الصيغة الحالية قد تحولت إلى بلد مناولة للأوروبيين وهي مرتهنة للشركات الفرنسية والمصالح الفرنسية وأن تونس غير مسموح لها أن تتحول إلى بلد مصنع ويقيم علاقات متكافئة مع غيره من الدول وخاصة دول الضفة الغربية وأن تونس هي بلد اقتصادها يقوم على تقديم الخدمات لا غير .

الحقيقة الأخرى أن ما يحصل مع الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا والتي تنشط في بلادنا فضلا عن تمتعها بالكثير من الامتيازات الديوانية فإن نشاطها التجاري لا يمكن اعتباره مبادلات ولا تصدير وإنما هونت قبيل المناولة لا غير لا يمكن اعتبارها ضمن مؤشرات احتساب الميزان التجاري وهذا يعني أن تغطية العجز التجاري الذي دمر البلاد وأن التوريد الفوضوي الذي استنزف العملة الصعبة من خلال اعتبار نشاط هذه الشركات تصديرا وإقحامه ضمن مؤشرات الميزان التجاري هو مغالطة كبرى وتزيف للأرقام وتلاعب بها.

من الحقائق الأخرى التي وردت في هذه الندوة أنه ليس من السهل على المستعمر القديم أن يفرط في مستعمراته القديمة حتى وإن اعترف باستقلالها وأن ما أمضت عليه تونس من اتفاقيات مع فرنسا قد جعلنا إلى اليوم مرتهنين وتابعين لها في كل المجالات والميادين فما تم الوقوف عليه هو أنه ليس من السهل ان تفرط فرنسا فيما تعتبره مصدر ثروة لها وهذا يحتاج إلى استراتيجية حتى تبقى المستعمرات القديمة في تبعية دائمة لفرنسا .

ما نعيشه اليوم مع كل ما يحصل من مغالطات في احتساب العجز في الميزان التجاري والتغطية على حقيقة العجز التجاري مع فرنسا هو استراتيجية جديدة تقوم على استدراج تونس إلى وضع الاستعمار الجديد من خلال برنامج الشراكة الاقتصادية والتجارية الذي يقوم على فكرة تحويل تونس الى بلد للمناولة وإحلال الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا محل المؤسسات التونسية وتمتيعها بامتيازات قمرقية لا تتمتع بها المؤسسة التونسية وفكرة تشجيع الاستثمار الاجنبي المباشر بدعوى خلق مواطن شغل .

أما الحقيقة الأخرى فهي تكثيف الحديث عن ترشيد التوريد مع تركيا والصين وتجاهل مراجعة ما نورده من دول الاتحاد الاوروبي وخاصة من فرنسا، بل لا نكاد نتحدث عما يحصل لنا من خلل تجاري كبير معها وهذا ما يفسر كيف أن توريد السيارات الاوروبية وخاصة الماركات الفرنسية متواصل رغم العجز الحاصل في موارد الدولة والعجز الآخر في الميزان التجاري في الوقت الذي يشهد فيه سوق السيارات طفرة كبيرة غير مدروسة .

وقد حاولت المحاضرون قوله هو أنه منذ اتفاقيات 3 جوان 1955 وتونس إلى اليوم تبحث عن تحررها الحقيقي واستقلالها الذي يمنحها السيادة الكاملة وتعمل على فك الارتباط مع مستعمرها القديم الذي اتضح اليوم أنه هو العائق نحو تقدم البلاد .. وقد حاولت هذه الندوة ابرازه هو أن الشعب التونسي منذ الاستقلال وهو تحت حكم المركزية الأوروبية الذي أعادت تشكيلنا ثقافيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا وجعلتنا في تبعية شاملة الامر الذي انتج وعيا بأن تونس لا تزال الى اليوم في مرحلة تحرر وطني متواصل.

ما حاولت هذه الندوة ابرازه أن استراتيجية الاستدراج الى وضع الاستعمار الجديد وإن كان يحتاج إلى اطار نظري والى قوانين واتفاقيات شراكة مكبلة ومعطلة فإنها تحتاج إلى اذرع تعينها وتكون في خدمة مشروعها ومن هذه الاذرع الجهاز الاعلامي والآلة الاعلامية، فاليوم مع كل أسف لدينا جزء من الاعلام متواطئ مع الفرنكفونية ويدافع عن الخيارات الفرنسية ويروج لثقافته ويعمل على تشكيل وعي جماهيري متصالح مع الهيمنة الغربية .

تحرير نوفل سلامة

الصريح اون لاين تونس في 23/01/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *