أصبحت سورية تقع في بؤرة الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد الإنخراط الروسي العسكري في سورية،إذْ نجحت روسيا في السنوات القليلة المنصرمة من الأزمة والحرب في سورية، في بناء التوازن الاستراتيجي مع الغرب أو الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي في سورية، وبالتالي إعادة بناء التوازن الدولي بكامله، أو لنقل توازن القوى في النظام الدولي، بعدما اختل ميزان القوى الدولية لمصلحة واشنطن وحلفائها في الغرب، في أمريكا وأوروبا، وفي العالم بأسره، كماتمكنت روسيا كذلك من المحافظة، حتى اليوم ،على وحدة الدولة الوطنية السورية وضمانها ومنع التقسيم أو الفدرلة، ناهيك عن فرض خطوط حمراء في سورية، وتأمين الالتزام بها أو عدم تجاوزها وتخطيها،لا سيما في مجال بقاء واستمرار السلطة السياسية التي يجسدها الرئيس بشار الأسد، لكنَها لم تنجح في حلحلة الأزمة السورية .

زيارة الأسد إلى موسكو والأزمة السورية

في الزيارة الرسمية التي قام الرئيس بشار الأسد إلى موسكوفي منتصف شهر مارس الجاري

لإجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالتزامن مع تأجيل اجتماع لنواب وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران وسورية بشأن عملية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى موعد غير محددٍ، لم تنجح روسيا في تليين موقف الرئيس الأسد من مسألة التقارب مع تركيا، في ظل اقتراب موعد الانتخابات التركية المزمع إقامتها في 14 أيار/ مايو 2023حيث تسعى حكومة حزب “العدالة والتنمية” لانتزاع ورقة اللاجئين السوريين من يد طاولة المعارضة السداسية قبيل التوجه إلى صناديق الاقتراع.

فقد تمسك الأسد بشرط انسحاب الجيش التركي من كافة الأراضي السورية قبل البدء بأي مفاوضات، وهو الموقف الذي يتعارض مع رغبة بوتين الذي كان ينتظر من الرئيس الأسد ليونة عقب لقائه معه تجاه ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية، وعودة العلاقات مع تركيا إلى وضعها الطبيعي، ما يسهم في حل الكثير من القضايا، وأهمها ملفات اللاجئين والنازحين، والشروع بوقف تدهور الوضع الاقتصادي في سورية.

وتواجه عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق صعوبات بعد سنوات من العداء بين الطرفين طيلة سنوات الحرب ، إذ يتهم الرئيس الأسد تركيا بدعم مجموعات إرهابية واحتلال الأراضي السورية في الشمال الغربي ، في حين يعتبر الرئيس أردوغان وجودجيشه ضمن الأراضي السورية شرعيًا استنادًا على اتفاقية أضنة لعام 1998 التي تتيح لتركيا الدخول إلى الأراضي السورية في حال وجود خطر يهدد الأمن القومي للبلاد، بحسب ما أفاد به عدة مسؤولين أتراك في وقت سابق.

من وجهة نظر موسكو التقارب بين سورية وتركيا،يسهم في إعادة انتخاب الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة،والذي يحتاج إلى تحقيق تقدم ملموس في قضيتين رئيسيتين ترفعان أسهمه في الانتخابات ، وهما قضية اللاجئين السوريين في تركيا، وقضية الخطر الكردي القادم من الجنوب التركي عبر الأراضي السورية، فالرئيس بوتين يفضل فوز أردوغان الذي أصبحت علاقاته متوترة مع أمريكا ، على فوز مرشحي المعارضة المقربين جدًّا من واشنطن، بينما ظل الرئيس الأسد مصرًا على شرطه للقائه المحتمل مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذْ قال الأسد: “بالنسبة إلى اللقاء مع الرئيس أردوغان، فهذا يرتبط بالوصول إلى مرحلة تكون تركيا فيها جاهزة بشكل واضح ودون أي التباس للخروج الكامل من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم الإرهاب وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدء الحرب في سورية، هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن عندها أن يكون هناك لقاء بيني وبين أردوغان، عدا عن ذلك ما هي قيمة هذا اللقاء ولماذا نقوم به إن لم يكن سيحقق نتائج نهائية بالنسبة إلى الحرب في سورية؟”.

رغم أنَّ روسيا بسبب ظروف الحرب في أوكرانيا،وتعرضها لعقوبات شديدة من الغرب، ما يجعلها عاجزة اقتصاديًا وماليُا عن الإسهام في إعادة إعمارسورية،وجلب الشركات الروسية استثماراتها لإعادة بناء الاقتصاد السوري المنهار، فإنَّ الرئيس الأسد وصف الوجود العسكري الروسي في سورية، بأنه فكرة جيدة، إن كان لدى روسيا رغبة في ذلك.

ورأى الأسد في حديثه مع وكالتي “نوفوستي” و”سبوتنيك” وقناة “روسيا اليوم”، أن النظرة إلى القواعد العسكرية الروسية “لا يجب أن ترتبط بموضوع مؤقت مثل مكافحة الإرهاب، ونحن نتحدث عن توازن دولي، وجود روسيا في سورية له أهمية مرتبطة بتوازن القوى في العالم”.

وبشأن التعاون الاقتصادي، قال الأسد إن اجتماع اللجنة المشتركة ركز هذه المرة على نقاط محددة، وتحديداً على المشاريع الاستثمارية التي تصل إلى 40 مشروعاً في مجالات الطاقة، أي الكهرباء والنفط، والنقل والإسكان، وفي المجالات الصناعية، مشيراً إلى أن الإعداد لاتفاقية التعاون المشترك في هذه المجالات، التي ستُوقَّع قريباً، استغرق سنوات.

جوهر المبادرة العربية لحل الأزمة السورية

يكاد لا يمر يوم واحد إلا وتتحدث فيه أجهزة الإعلام العربية عن مؤشرات التطبيع بين الدول العربية وسورية، لا سيما بعد الزلزال الأخيرالذي ضرب تركيا وسورية في 6فبراير/شباط الماضي، ومن هذه المؤشرات زيارات الرئيس الأسد الرسمية إلى كل من سلطنة عمان،ودولة الإمارات العربية المتحدة، علْمًا أنَّ الإمارات أعادت فتحت سفارتها في سوريا عام 2018، قبل أن يزور الرئيس السوري، بشار الأسد، أبو ظبي في مارس الجاري .

هذه المبادرة العربية ليست وليدة كارثة الزلزال أو نتيجة لها، بل تعود في الواقع إلى خمسة أشهر على الأقل، عندما حصل الأردن على موافقة مبدئية من المملكة العربية السعودية على إطلاقها، ليعلن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في سبتمبر الماضي عنها.

وتقوم ملامح المبادرة المأمول تحقيقها، والتي على أساسها تم التوافق داخل جامعة الدول العربية لتأجيل عودة سورية إليها قبل انعقاد القمة العربية في نوفمبر الماضي، على تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بشأن سورية.

ضمن هذا السياق،قال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إنَّ بلاده تنسق مع الأمم المتحدة، من أجل إطلاعها على مضمون المبادرة العربية التي طرحتها بلاده سابقاً، لإيجاد حل الملف السوري.وجاء ذلك بعد لقائه المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدسون، يوم الثلاثاءالماضي ، خلال زيارة يجريها الأخير إلى العاصمة الأردنية عمّان، لبحث العملية السياسية والمتمثلة باللجنة الدستورية السورية.

وقال الصفدي في مؤتمر صحفي، إنَّ المبادرة التي طرحتها بلاده “تستهدف إطلاق دور عربي مباشر ينخرط مع الحكومة السورية في حوار سياسي يستهدف حل الأزمة في سورية ومعالجة تبعاتها الإنسانية والأمنية والسياسية”.”المبادرة” قد تكون بقيادة عربية تشمل السعودية ودولاً أخرى، وستستند إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، لوضع خارطة طريق لتسوية تفاوضية، إضافةً إلى تصاريح مراقبة وتسليم المساعدات الإنسانية إلى سورية.

وحسب صحيفة “وول ستريت جورنال “بتاريخ 17مارس ، نقلاً عن مسؤولين عرب وغربيين، قولهم؛ إنَّ الدول العربية التي جمدت العلاقات مع الدولة السورية ، تعرض عليه اتفاقًا لاستعادتها من أجل كبح نفوذ إيران.

وذكرت الصحيفة أنَّه في “تحول جيوسياسي جديد لإعادة اصطفاف الشرق الأوس الواسع”، تعتقد الدول العربية أنَّ إعادة العلاقات مع الأسد سيقلل من نفوذ إيران في المنطقة.وأوضحت الصحيفة أنَّه في المحادثات التي قادها الأردن في البداية، اقترحت الدول العربية مساعدات بمليارات الدولارات لإعادة بناء إعمار سورية بعد الحرب التي دامت 12 عاما، وتعهدت بالضغط على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية لرفع العقوبات عن حكومة الأسد، على حد قول المسؤولين.

وفي المقابل، سيتعاون الرئيس الأسد مع المعارضة السياسية السورية، ويقبل أن توفر القوات العربية الحماية للاجئين العائدين، ويوقف تهريب المخدرات غير المشروع، ويطلب من إيران التوقف عن توسيع وجودها في سورية.وقال مستشار لدى الحكومة السورية ، ومسؤولون عرب ومسؤولون أوروبيون مطلعون على المحادثات للصحيفة الأمريكية؛ إنَّها لاتزال في مرحلة مبكرة، ولم يُظهر الأسد أي اهتمام بالإصلاح السياسي أو استعداد لاستقبال القوات العربية. وتُعَدُّ المملكة السعودية من أقوى الدول العربية والخليجية حاليًا، التي تدعم المبادرة العربية ،ففي شباط/فبراير الماضي، قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في تصريحات للصحفيين في لندن، إنَّ الإجماع يتزايد في العالم العربي على أن عزل سوريا لا يجدي، وأن الحوار ضروري معها لمعالجة الوضع الإنساني هناك، وفقا لوكالة رويترز.وتابع بأن الحوار مع دمشق، قد يؤدي في النهاية إلى عودة دمشق إلى الجامعة العربية ، ولكن من السابق لأوانه مناقشة هذا الأمر في الوقت الحالي.وستستضيف السعودية القمة العربية هذا العام.

وتأتي موافقة المملكة السعودية مؤخرًا على استعادة العلاقات مع إيران في صفقة بوساطة الصين، لتؤكد أنَّ المملكة منفتحة على تغيير المسار السياسي في الشرق الأوسط، وتسعى لـ”إعادة اصطفاف الشرق الأوسط الواسع”، حيث تتلاشى التوترات التي نشأت عن الربيع العربي وتتحول مصالح القوى الأجنبية في المنطقة.

وحسب وكالة رويترز،اتفقت الرياض و دمشق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، بعد قيطعة أكثر من عقد بسبب الحرب الأهلية السورية.وقال مصدر مقرب لدمشق لوكالة “رويترز”، إن الاتصالات بين الرياض ودمشق اكتسبت زخما بعد اتفاق تاريخي لإعادة العلاقات بين السعودية وإيران، وهي الحليف الرئيسي لسورية.وستكون عودة العلاقات بين الرياض ودمشق بمنزلة أهم تطور حتى الآن في تحركات الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الأسد، الذي قاطعته العديد من الدول الغربية والعربية بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011.

وستطلب المبادرة العربية من الحكومة السورية البدء أولاً بمكافحة عمليات تهريب المخدرات، وإظهار خطوات جدّية وملموسة لمعالجة الوجود العسكري الإيراني في سورية، مقابل انخراط عربي محدود في البداية بتقديم المساعدات المالية والإنسانية، على أن يبدأ بعد ذلك في تنفيذ خطوات بناء الثقة مع المعارضة، وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المفقودين، وتوفير ضمانات جدّية لعودة من يرغب من اللاجئين والنازحين إلى دياره، من أجل الشروع بمفاوضات جدّية مع المعارضة للوصول إلى حل سياسي شامل على أساس القرار الدولي 2254.

خاتمة:يرى الخبراء و المحللون العرب أنَّ سورية اليوم بحاجة إلى خريطة طريق عربية للخروج من أزمتها المستعصية، حتى لا تظل ملعبًا وأرضًا لصراع القوى الإقليمية و الدولية ، خصوصًا أنَّ مواقف الدول الغربية (أمريكا و الاتحاد الأوروبي)تعارض التطبيع مع نظام الأسد “ما لم ينخرط في حل سياسي حقيقي يتماشى مع القرار الأممي رقم 2254″، هذه الحقيقة الأولى.أما الحقيقة الثانية، فإنَّ استعادة سورية الموحدة،لا يمكن أن تتم إلاَّ عبر بوابة إعادة بناء الدولة الوطنية السورية وفق منطق العصروحقائقه،أي بناء دولة المؤسسات المنتخبة ديمقراطيًا،وتغيير النموذج الاقتصادي الذي وصل إلى مأزقه المحتوم ،لا وفق صورة سورية القديمة الموروثة من عهد الحرب الباردة.

الحقيقة الثالثة،من المفد جدًّا أن تعي المملكة العربية السعودية ومعها الدول الخليجية و العربية أهمية حل الأزمة السورية من خلال المبادرة العربية، بدلآ من تدويل الأزمة السورية كما دعت إلى ذلك الأطراف الإقليمية و الدولية و المعارضة المعادية للدولة الوطنية السورية.

ويُعد المسار الدستوري أحد أعقد مسارات التفاوض في عملية السلام السورية القائمة، نظراً إلى تباين مواقف أطراف النزاع حوله، فضلاً عن كونه الإطار الجامع الذي ينبغي أن تتجسد فيه كل التوافقات الأخرى التي ستتم وستمهد لانتقال سورية من حال العنف والنزاع إلى مرحلة التعافي

والسلام. ويحتاج هذا المسار إلى تطوير دستور 2012،وإدخال إصلاحات جذرية في مضمونه لغاية بلورة دستور جديد دائم،ودعم العملية السياسية بقيادة سورية من أجل صوغ عقد اجتماعي جديد حقيقي بين الدولة والمجتمع، والشروع في حوار وطني بين السلطة و المعارضة داخل العاصمة السورية دمشق يعالج الموضوعات المهمة كاللاجئين والمصالحة الوطنية ،والجيش والقوى الأمنية وعلاقتهم بالدستوروالميليشيات وما له علاقة بالملكيات والمشكلات التي حصلت بشأنها خلال الحرب ومسألة العفو والمعتقلين.
مجلة البلاد اللبنانية:تصدر أسبوعيًا عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان، العدد رقم 381، تاريخ الجمعة 24مارس 2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *