يسعى جان لوك ميلنشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية” (أقصى اليسار)، إلى تغيير السيناريو الذي كتب مسبقا عبر استطلاعات الرأي بشأن الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 24 أبريل/نيسان المقبل. وتشير هذه الاستطلاعات إلى خوض كل من مارين لوبان وإيمانويل ماكرون غمار هذه الدورة. لكن للوصول إلى هذا المبتغى، عليه أن يرفع بعض التحديات، أبرزها إقناع مناضلي اليسار المعتدلين والمترددين بالذهاب إلى مراكز الاقتراع وانتخابه.

أكثر من 100 ألف شخص حسب حزب “فرنسا الأبية” شاركوا الأحد الماضي في تجمع انتخابي بساحة “الجمهورية” بباريس من أجل الاستماع لخطاب جان لوك ميلنشون، زعيم حزب مصنف ضمن أقصى اليسار، الذي يطمح للوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية وإزاحة زعيمة “التجمع الوطني” (اليمين المتطرف) مارين لوبان التي من المتوقع أن تنافس إيمانويل ماكرون في هذه الدورة حسب غالبية استطلاعات الرأي.

وما يزيد الأمل لدى ميلنشون، هي التعبئة الشعبية الكبيرة التي شهدتها حملته في الأيام القليلة الماضية والمشاركة القوية لمناصري الحزب في التجمعات الانتخابية، فضلا عن استقطاب فرنسيين آخرين لا ينتمون بالضرورة إلى حزب “فرنسا الأبية”.

ويأتي هذا في وقت تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم طفيف ومتواصل في نسبة الأصوات التي قد يحصل عليها ميلنشون في الدورة الأولى، والتي تتراوح ما بين 13 و14 بالمئة، ليحتل بذلك المرتبة الثالثة وراء الرئيس إيمانويل ماكرون (30 بالمئة) ومارين لوبان (17-18 بالمئة).

وفي ضوء هذه الأرقام وحظوظ جان لوك ميلنشون المتزايدة، بدأت تظهر في معسكر اليسار فكرة مفادها أن التصويت لصالح ميلنشون قد يكون تصويتا “مفيدا”. وما زاد من هذا الاعتقاد، هو احتلال مرشحين آخرين من اليسار ذيل الترتيب في الدورة الأولى، حسب استطلاعات الرأي. على غرار زعيم حزب الخضر يانيك جادو الذي قد يحصل على 5 أو 6 بالمئة فقط من الأصوات والشيوعي فابيان روسيل الذي من المتوقع ألا يتجاوز 4 أو 5 بالمئة من الأصوات، ناهيك عن مرشحة الحزب الاشتراكي آن هيدالغو التي تتوقع بعض استطلاعات الرأي عدم تخطيها عتبة الـ2 بالمئة من الأصوات.

وفي هذا السياق، كان هدف تجمع ساحة “الجمهورية” بباريس إقناع المترددين عن التصويت في المشاركة بالانتخابات الرئاسية. وقال ميلنشون، الذي أكد خلال خطابه أن التصويت لصالح اليسار هو “مسؤولية أخلاقية”: “كل شخص مسؤول بمفرده عن النتيجة التي ستفرزها الانتخابات. كل شخص يملك مفتاح الدور الثاني. لا تختبئون وراء خلافات زعماء الأحزاب والتصنيفات. لا تتهربوا. هذه الانتخابات هي استفتاء اجتماعي. لقد حذرتكم”.

هذا، وبدا كأن خطاب ميلنشون قد لاقى آذانا صاغية لدى بعض الفرنسيين. على غرار كريستين (52 عاما) التي شاركت في مظاهرات السترات الصفراء. فبالرغم من عدم ولائها لميلنشون ولأفكاره، إلا أنها تنظر بنوع من الإيجاب إلى فكرة الجمهورية السادسة التي يريد زعيم حزب “فرنسا الأبية” إطلاقها في حال أصبح رئيسا لفرنسا.

وقالت كريستين لفرانس24: “سأصوت لصالح ميلنشون لكي يخرجنا من الجمهورية الخامسة. المجتمع بدأ يفقد إنسانيته والسياسة تتراجع. يجب تغيير النظام السياسي الفرنسي. لا أثق في رجال السياسة لكن هذه المرة هي فرصتنا الأخيرة”.

صورة مهترئة

من جهة أخرى، لم يحسم بعض مناضلي اليسار موقفهم بعد من ميلنشون ولما زالوا يشعرون بنوع من التردد تجاهه بسبب بعض التصريحات التي أدلى بها في السابق. كتلك التي تعود إلى 2018 عندما قال “أنا هو الجمهورية” أو بسبب بعض مواقفه الموالية لروسيا أو تلك التي يدعو فيها إلى خروج فرنسا من الحلف الأطلسي. ويعتقد المحلل السياسي جيرار غرانبيرغ أن هذه المواقف يمكن أن تشكل عائقا أمام جلب ناخبين جدد إليه.

وقال لفرانس24: “للمرة الأولى على الأقل، أصبح موضوع السياسة الخارجية الفرنسية يملك أهمية في الحملة الانتخابية، لكن سيكون من الصعب على جان لوك ميلنشون إقناع فئة كبيرة من مناصري اليسار والذين يتمسكون بفكرة بقاء فرنسا في حلف شمال الأطلسي”.

كما يواجه أيضا ميلنشون انتقادات لاذعة من قبل منافسيه من تيار اليسار، على غرار ممثل حزب الخضر يانيك جادو ومرشحة الحزب الاشتراكي آن هيدالغو. فكلاهما ينتقدان ميلنشون بسبب موقفه إزاء الحرب في أوكرانيا. فيما بات واضحا أنه كلما ارتفعت وتعززت حظوظ زعيم حزب “فرنسا الأبية” في الوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ازدادت حدة وتيرة الانتقادات التي تستهدفه. فعلى سبيل المثال، تصف آن هيدالغو ميلنشون بالرجل “المتواطئ مع الدكتاتوريين”.

حتى الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لم يرحم ميلنشون، بل انتقد ما سماه بـ”التصويت المفيد” أو “الصالح”. وقال هولاند: “في وقت ما، يجب أن يكون لدينا رئيسا مفيدا وليس فقط تصويتا مفيدا”.

أما المحلل السياسي جيرار غرانبيرغ، فيرى أن “الحزب الاشتراكي قد يواجه رهانا أكبر هذه المرة كونه سيخاطر بوجوده على الساحة السياسية الفرنسية” وتابع: “ندرك بأن هذه الانتخابات لن تكون من نصيب هذا الحزب وسيخسرها، لكن وصول جان لوك ميلنشون إلى الدورة الثانية سيكون بمثابة ضربة قاضية له وسيضعه على المحك”.

ولتفادي هذا السيناريو، مرشحو اليسار المعتدل أصبحوا يهاجمون بكل شراسة ميلنشون، حتى إن كانت نتيجة هذه الهجمات هو تأهيل ماكرون ولوبان إلى الدورة الثانية من الانتخابات على حساب ميلنشون.

موقع الانتخابات الرئاسية الفرنسية على فرانس24

موقع الانتخابات الرئاسية الفرنسية على فرانس24 © استديو غرافيك فرانس ميديا موند

مفتاح المشاركة

هل يكمن مفتاح الوصول إلى الدورة الثانية في إقناع الممتنعين عن التصويت بالذهاب إلى مراكز الاقتراع؟ بالنسبة للناشطة إلين (32 عاما) التي شاركت في التجمع الانتخابي بساحة “الجمهورية” بباريس، “نسبة المقاطعة عن التصويت في ارتفاع مستمر. لأن هناك نوعا من خيبة الأمل إزاء السياسة”. لكنها أضافت في نفس الوقت أن “جان لوك ميلنشون له الحق أن يقترح جمعية تأسيسية وإلغاء العهدات السياسية لأنه يجب إعطاء صلاحيات أكثر للناس”.

وما أثار اهتمام إلين هو اقتراح ميلنشون المرور إلى “الجمهورية السادسة”. فرنسيون آخرون قد يساندونه لأسباب مختلفة، كرفع الحد الأدنى للأجور أو تحديد سن التقاعد عند 60 عاما وخفض سعر الوقود إلى يورو واحد فقط إضافة إلى تقديم منحة طلابية تقدر بـ 1063 يورو إلخ.

على أية حال هذه هي الأفكار التي يسوقها مناضلو حزب “فرنسا الأبية” في الشارع. كما يحذرون أيضا الفرنسيين من مغبة التصويت لصالح ماكرون الذي يريد أن يفرض سن التقاعد عند 65 عاما.

لكن جيرار غرانبيرغ يعتقد أنه “مهما كان موقف الممتنعين عن التصويت، المشكلة الرئيسية التي ستواجه ميلنشون هي أن غالبية الفرنسيين يعتقدون أن حظوظ  إيمانويل ماكرون في الفوز بولاية رئاسية ثانية عالية جدا”.

ورغم إدراكه هذه الحقيقة، إلا أن ميلنشون لم يستسلم للأمر الواقع. بالعكس فهو يبرز أهمية وصوله إلى الدورة الثانية، معتبرا أن النقاش الذي سيدور بينه وبين ماكرون بين الدورتين لن ينحصر فقط حول موضوع الهجرة أو الأمن مثلما يحدث غالبا مع مارين لوبان، بل سيشمل النقاش مواضيع أخرى تهم الفرنسيين، مثل البطالة وسن التقاعد والحماية الاجتماعية ومشكلة السكن. مواضيع قد تغيب في حال انحصر الصراع في الدورة الثانية بين ماكرون ومرشحين آخرين من اليمين المعتدل أو المتطرف. فهل سينجح زعيم حزب “فرنسا الأبية” ميلنشون في تغيير المعادلة لصالحه؟

المصدر: France 24

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *