لا يبدو أنّ الموقف الذي اتخذه الرئيس التونسي قيس سعيّد، بوصفه من يتولّى تمثيل الدولة ويضبط سياساتها واختياراتها الأساسية وفق المرسوم عدد 117 المعوّض للدستور، وعبّر عنه مندوب تونس في الأمم المتحدة، بالاصطفاف إلى جانب المعسكر الأطلسي الغربي، والتصويت لمصلحة القرار الأممي الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، لا يبدو أنّه قد نال رضى الطيف الواسع من الرأي العام التونسي ومزاجه الشعبي الذي كان ينتظر انحياز سعيّد وحكومته إلى جانب الروس مقدّمة لتبديل موقع تونس في خريطة المعسكرات الدولية والتوازنات الجيو- بوليتيكية.

بدا الاضطراب واضحاً في الموقف التونسي، وكان التبدّل الراديكالي جلياً، فبعد دعوة وزارة الخارجية، في بيان منشور “جميع الأطراف المعنية إلى العمل على تسوية أي نزاع بالطرق السلمية، وذلك من منطلق مواقفها الثابتة بضرورة تغليب منطق الحوار”، في محاولة منها للجلوس على كرسي الحياد، الأمر الذي دفع سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، ماركوس كونارو، إلى التغريد بأنّ “المحافظة على الحياد بين المعتدي والضحية موقف في حدّ ذاته”، تبنّت تونس ما جاء في القرار الأممي الصادر عن الجمعية العامة الأربعاء 2 مارس/ آذار الجاري الذي “يأسف بأشدّ العبارات لعدوان الاتحاد الروسي على أوكرانيا” و”يطالب موسكو بالسحب الفوري وغير المشروط لجميع القوات العسكرية”.

وبناءً على ما ورد في هذا القرار الذي عارضته خمس دول (روسيا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وإريتريا وسورية)، وامتنعت عن التصويت لفائدته 35 دولة، منها الصين والهند والجزائر والعراق، وأيدته أغلبية من 141 دولة، منها تونس والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بات الموقف الرسمي التونسي يقرّ بأنّ ما حصل في أوكرانيا عدوان وغزو عسكري روسي، بقطع النظر عن التهديدات التي تشكلها أوكرانيا على الأمن القومي الروسي، لارتباطاتها الأوروبية واستعداداتها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأنّ المطالبة بسحب القوات العسكرية الروسية من أوكرانيا هو انضمام إلى المعسكر المؤيد لتلك الدولة، والداعم لها عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً وسياسياً بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. فقد غلبت البراغماتية السياسية لرئيس الجمهورية التونسية الحسّ الشعبي التونسي، أو ما يعرف في قاموس الرئيس بـ “الشعب يريد”، الذي يستبطن عداءً لا محدوداً للولايات المتحدة والمملكة المتحدة والحلف الأطلسي والكيان الصهيوني، معتبراً أنّ المسؤولية المباشرة، في ما عاشه ويعيشه العرب والمسلمون والأفارقة وكلّ العالم الثالث من حروب وهزائم ومآسٍ وجينوسيد جماعي وتهجير للشعوب وتدمير للدول في العراق وليبيا واليمن وسورية، ومن احتلال لفلسطين والعمل على تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني وتحويله إلى شتات، ومحاولة القضاء على ما بقي منه وقتله جماعياً وارتكاب الجرائم اليومية في حقّه على الهوية، ترجع إلى المعسكر الغربي دون سواه.

أما روسيا، فقد احتلّت مكاناً أكثر سموّاً في المخيال الشعبي التونسي الذي يعتبر أنّ ما تقوم به في أوكرانيا وما قامت به سابقاً في جورجيا، وربما في سورية وتحالفها مع إيران والصين، ومحاولة استعادتها إرثها السوفييتي القديم، وعملها على عودة القطبية كما كانت قبل الانهيار الحاصل سنة 1991، سيؤدّي إلى كسر شوكة الغرب بإرثه الاستعماري القديم والجديد، وظهور توازنات اقتصادية وعسكرية جديدة، على تونس بقيادة الرئيس قيس سعيّد أن تكون جزءاً منها، بعد فكّ الارتباط التاريخي مع الحلف الغربي القديم الذي انخرطت فيه تونس منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1956.

ستبقى خيارات قيس سعيّد الخارجية مجرّد حلقة متممة في تاريخ الدولة التونسية، كما رسم ارتباطاتها الخارجية ولعبة مصالحها بورقيبة

ولكن الرأي العام التونسي، بشرائحه الواسعة وأجياله الجديدة، لا يعلم أن روسيا تخوض الحرب الأوكرانية من منطلق مصالحها القومية الصرفة، وأن من مقتضيات تلك المصالح مساعدتها على هجرة مليون وثمانمائة ألف من اليهود الروس إلى دولة الكيان الصهيوني، وهي أول من اعترف به سنة 1948 قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ولها حجم معاملات مع هذا الكيان يتجاوز ستة مليارات دولار، وترتبط معه بمعاهدات استراتيجية في المجالات العلمية والتكنولوجية والعسكرية، قد تكون أكثر أهمية من وجود “صهيوني” على رأس دولة أوكرانيا، وأنها مستعدّة لتوقيع اتفاقيات جديدة مع الولايات المتحدة وحلفائها تنهي تدخلها في أوكرانيا، إذا عُرض عليها ما يرضيها ويؤمّن مصالحها دون سواها من مؤيديها.

ويغيب عن الرأي العام التونسي أيضاً أن تونس لا تستطيع تبديل موقعها في العلاقات الدولية، وما تفرزه من ارتباطات وأحلاف، وليس بإمكانها تغيير مواقفها، حتى إذا أراد رئيسها قيس سعيّد ذلك، فهي أسيرة ترسانة من الاتفاقيات والمعاهدات والسياسات الخارجية وإرث ثقيل من الارتهانات الاقتصادية والمالية والعسكرية، وربما الثقافية، ما يجعل الحياد الذي تبنّته وزارة الخارجية التونسية في البداية في التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية مجرّد شعار.

قد يستبطن الرئيس قيس سعيّد طموحات وأحلام ومخططات في أن يكون على رأس دولة ذات كاريزما وزعامة شبيهة بمصر بقيادة جمال عبد الناصر أو الجزائر بزعامة بومدين وسلفه بن بيلا أو عراق صدّام حسين أو ليبيا في زمن حكم معمر القذافي أو كوبا بزعامة كاسترو أو بوليفيا هوغو تشافيز أو إيران ما بعد الشاه، لما في تلك التجارب من تمرّد على النظام الدولي وتموقع خارج الأحلاف الاستعمارية القديمة والجديدة، ومحاولة التماهي والاحتماء بالدبّ الروسي أو بالتنين الصيني، لكنّ الواقع ودكتاتورية التاريخ أيقظا سعيّد من تلك الأحلام.

وبعد قرابة ثلاث سنوات على انتخابه رئيساً ومحتكراً وحيداً للسياسة الخارجية التونسية، يبقى الرئيس سعيّد وفياً لسياسة بورقيبة الخارجية التي ظهرت ملامحها الجنينية في رسالةٍ بعث بها إلى الحكومة الفرنسية سنة 1930، ذكرها رئيس الحكومة التونسية الأسبق، الباهي الأدغم، في مجلة “دراسات دولية” عدد 31، يقول فيها إنّ “استقلال تونس مستقبلاً لا يعني القطع مع فرنسا، بل نحن في حاجةٍ إلى حدّ أدنى من الوجود العسكري الفرنسي لحماية تونس عسكرياً”.

ويقول بورقيبة لمجلة “ذا تايمز” البريطانية، يوم 22 مارس/ آذار 1956 (بعد يومين من توقيع بروتوكول استقلال تونس): “إذا كان على تونس أن تختار بين الحلف الأطلسي والجامعة العربية، وكان ذلك مرتبطاً بي شخصياً، فسأتجه نحو الحلف الأطلسي”، ثمّ دعّم هذا التوجه في خطابه في أريحا سنة 1965 بدعوته العرب والفلسطينيين إلى الاعتراف بـ “إسرائيل” والقبول بقرار التقسيم، وتصويت تونس ومعها كوستاريكا دون سواهما في الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي للولايات المتحدة في قضية فيتنام، حسب رواية وزير الخارجية آنذاك محمد المصمودي.

الرأي العام التونسي، بشرائحه الواسعة وأجياله الجديدة، لا يعلم أنّ روسيا تخوض الحرب الأوكرانية من منطلق مصالحها القومية الصرفة

ومن استتباعات التزام تونس المقاربة البورقيبية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، توقيع الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي سنة 1995، وهي اتفاقية اقتصادية ذات أبعاد استراتيجية، لا تزال تحكم بنية الاقتصاد التونسي وتحدّد مصيره، وفتح مكتب رعاية مصالح الجمهورية التونسية في تل أبيب سنة 1996، في مسار تطبيعي مع الكيان الصهيوني، يراوح بين السرّية والعلنية. وأُردف هذا التوجه بتوقيع اتفاقٍ يجعل من تونس شريكاً مميزاً للاتحاد الأوروبي، ومباركة تدخل حلف الناتو في ليبيا، وتنظيم مؤتمر أصدقاء سورية، في زمن حكومة الترويكا الأولى بقيادة حمادي الجبالي (2011 – 2013)، ثمّ كان توقيع الرئيس السابق، الباجي السبسي، مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة سنة 2015 جعلت من تونس حليفاً لأميركا من خارج حلف الناتو. وقد جاء تصويت تونس إلى جانب دول حلف الناتو ضدّ التدخل الروسي في أوكرانيا ليؤكد أن السياسة الخارجية التونسية لا تزال محكومة بالخلفية البورقيبية نفسها، القائمة على مبدأ النأي بالنفس، في ظلّ حماية متعدّدة الأبعاد أورو – أميركية.

وسيكون بمقدور الرئيس قيس سعيّد اتخاذ قراراته باستقلالية تامة عن هيمنة الأحلاف التقليدية، ولا سيما المعسكر الغربي منها، وجعل المحرّك الأساسي لسياسته الخارجية المصلحة الوطنية دون سواها، إن هو وضع في أولوياته مراجعة المعاهدات الاستراتيجية الموقعة مع الدول السبع الضامنة في تونس، وإن هو استطاع تسديد ديون تونس لدى المؤسّسات المالية الدولية، وخصوصاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونظيريه الأفريقي والأوروبي المموّلة لتونس واقتصادها وماليتها العمومية، التي تجاوزت مائة بالمائة من الناتج الوطني الخام، ووصلت إلى مرحلة العجز عن التسديد، وإن هو وضع حداً لدبلوماسية التسوّل التي تعتمدها الخارجية التونسية، نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية المزمنة والهيكلية التي تعيشها تونس. ويستدعي هذا الأمر بناء دولةٍ تمتلك أسباب القوة الصلبة والناعمة.

أما دون تحقيق ذلك، فلن تستطيع السياسة الخارجية التونسية نزع جبتها البورقيبية، وستبقى خيارات قيس سعيّد الخارجية مجرّد حلقة متممة في تاريخ الدولة التونسية، كما رسم ارتباطاتها الخارجية ولعبة مصالحها الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال، على الرغم من الصوت المرتفع المزمجر لسعيّد في خطبه المتكررة عن السيادة الوطنية والتحرّر الوطني، وتسويق نفسه صاحب فكر جديد وقائد مرحلة جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *