تمركز المشهد السياسي في تونس حسب احداثياته النهائية التي حددها رئيس الدولة في خطابه ليلة الثالث عشر من ديسمبر 2021. فبإعلانه على رزنامة المواعيد السياسية القادمة من استشارة الكترونية واستفتاء وانتخابات تشريعية مبكرة، يكون قد ألقى للعموم بتفاصيل “مشروعه” السياسي والقانوني. في هذا الإطار، تعددت الرؤى والقراءات لما تضمّنته نص الكلمة بين من يعتبرها مطفأة حرائق قد تُعينه سياسيا على تجنب سعير ما هو قادم من اضطرابات واحتجاجات، وتصفية سياسية لخصومه من خلال إنهاء تأويلات قانونية وسياسية لحدث 25 جويلية وما رافقه من دعوات لعودة البرلمان ومبادرات من هنا وهناك، وبين من يروم فهم التسقيف الزمني وخارطة الطريق المُعلنة كرسالة للخارج المُتوجّس من ضبابية المشهد السياسي التونسي.


في الأثناء، تحول خطاب 13 ديسمبر 2021 الى إشارة انطلاق أو كلمة سر لتشكُل نواة لمعارضة مدنية وسياسية للإجراءات المذكورة، بل وللمطالبة برحيل رئيس الدولة عن السياسة والمنصب. عشرة أيام كانت كافية لترتيب جزء من الأفكار والتصورات التي يقودها بعض من التونسيين الناشطين إعلاميا ومدنيا وتتمحور جميعها في التركيز على إعادة مسار ما قبل 25 جويلية 2021 ولو بإصلاحات وتعديلات قانونية واجرائية.
أصبح لتلك الأفكار حاضنة وإطار تتحرك من خلاله ووفق ما يُمليه السياق السياسي ووتيرة التفاعلات مع الواقع التونسي، وقد وقع تسمية هذا الإطار التنظيمي “مواطنون ضد الانقلاب.”
أولى الملاحظات التي يمكن أن نسوقها في هذا الإطار، تتعلق بطبيعة التسمية، حيث يقترن فعل معارضة الانقلاب بالمواطن بما يعنيه من ضرورة أن يكون النضال ضد سلطة 25 جويلية 2021 وما بعدها شأنا مواطنيا لا يُفرد السياسيين لوحدهم أو الناشطين بامتياز الاحتجاج ومعارضة ما يجب معارضته. من ناحية أخرى، تبدو تسمية “مواطنون” عودة لممارسة السياسة من نقطة انطلاقها الأولى بصفة المواطن قبل السياسي، وهي في نفس الوقت إشارة الى تخلص الناشطين من هيمنة أو توجيه ما من قبل الفاعلين السياسيين من الأحزاب السياسية.


للإشارة، سبق وأن طرحت مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب”، خارطة طريق لإنهاء الأزمة السياسية، تحت اسم “المبادرة الديمقراطية” تتضمن انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة في النصف الثاني من العام المقبل 2022. جاء ذلك في مؤتمر صحفي عقده أعضاء المبادرة، حيث قال الناشط في المبادرة جوهر بن مبارك، إن “خارطة الطريق تهدف لإنهاء حالة الاستثناء التي تعيشها تونس حاليا وكل ما ترتب عنها من إجراءات اعتباطية”.
تأتي هذه التحركات في سياق سياسي يتطلب أن يُواجه الفعل بالفعل وأن يكون للساحة السياسية نقاط لرد الفعل وإعادة تصويب مُجريات الأحداث، ومن ثمة، أن يكون في متناول من هم ضد حدث 25 جويلية ما يُؤطر تحركاتهم ويمكنهم من الضغط والتعبئة. لكن أمام تناقضات الساحة السياسية وتركُّز مراكز القوى في قطب واحد، زائد تشتت “قيادات الصف المدني والسياسي”، قد تجعل من مستقبل المبادرة وغيرها هشيما تذروه رياح البراغماتية السياسية وقدرات المناورة ولعبة المحاور ومصالح الفاعل الإقليمي والدولي.

في هذا الجزء، يمكن أن نذكر بعضا من العقبات التي تواجه مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب”:
1-تتكون هذه المبادرة من شخصيات حقوقية وناشطين في المجتمع المدني وغيرهم من القوى الوطنية التي تتفق في شكل التحرك والقراءة العمودية للواقع السياسي، غير أن تفاصيل التنسيق وتكتيكات المواجهة لن تكون بحال من الأحوال” قياسا على تجربة التكتلات السياسية والمواطنية السابقة وطبيعة الفاعلين” ذات نفس طويل أو عائدات سياسية مهمة وربما لن تصل إلى عمقها أو مداها الأقصى.
2-انظمت الى المبادرة شخصيات سياسية لم تتمكن وهي في موقع السلطة من نسج تحالفات دائمة أو بناء تكتيك سياسي يُجنّب البلاد مثل ما وقعت فيه من مطبّات. جزء من هذه القيادات السياسية كان مسؤولا بشكل ما عن الإخفاقات السياسية والاقتصادية ولم يعد يحظى بمقبولية سياسية لدى جزء من الشعب التونسي وحتى المعارضين ل25 جويلية 2021.
3-الى حد الآن، لم تتقدم المبادرة بخارطة تحركات سياسية مقبلة، أو بمصفوفة حلول سياسية تفتح ولو كوّة في جدار الانغلاق السياسي. حيث ينهمك مؤسسي المبادرة في نقاش ليلي منقول مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
4-يتبنى بعض قيادات المبادرة وسائل ضغط متنوعة منها اضراب الجوع في الوقت الذي تسير فيه جزء من مؤسسة القضاء بنفس سرعة إجراءات وقرارات قيس سعيد، وتتالى المحاكمات والقرارات الرئاسية، بحيث تبدو مثل هذه الآليات غير ذات جدوى وفاعلية خاصة مع عدم تشبيك العلاقات السياسية والمدنية وعدم فتح قنوات التعبئة والتنسيق مع بعض من الفاعلين المحليين.
5-تبدو مكونات المبادرة ذات لون سياسي واحد –ولو تعاطفا- رغم تواجد بعض من المنتسبين الى تيارات سياسية معارضة تقليديا، وحتى أنهم كانوا من الخصوم التقليديين للتحالف الحكومي قبل 25 جويلية 2021، الا أن تمركز القيادة أو طليعة المبادرة في يد شخص واحد أو شخصين، لن يخدم تغذية صفوف المبادرة بقوى أو شخصيات أو مواطنين آخرين.
6-يُطلب من كل مبادرة سياسية أن ترسم نقاط تقاطعها وتحالفاتها وتُجاهر ببرنامج أعمالها حتى يكون خطابها المسموع متناغما مع المقروء ومتساوقا مع اللحظة السياسية، لكن الملاحظ الى حد الآن أن المبادرة لازالت متمترسة في جبهة المعارضة الاحتجاجية فقط.
بقدر ما تحتاج اللحظة السياسية الى قراءة متأنية وصارمة وعلمية، غير أن ما يُطلب من الفاعل السياسي والمدني هو أن يكون في مستوى سرعة اللحظة بالزمن الفيزيائي، وأن تكون تحركاته بنفس سرعة تحركات الواقع بالزمن السياسي. لذلك، فإن مثل هذه المبادرات –على نقائصها- لا يمكن لها إلا أن تكون خطوة الى الامام في منعرجات سياسة ما بعد 13 ديسمبر 2021 أملا في أن تنجح قوى المعارضة المدنية فيما أخفقت فيه الأحزاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *