* ترحيب كبير بالمبادرة وتخوفات من ” أزمة شرعية ” جديدة

تونس كمال بن يونس

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد غالبية المراقبين داخل البلاد وخارجها بتعيين امرأة في ال63 من عمرها رئيسة جديدة للحكومة بعد أكثر من شهرين من الجدل و الصراعات بسبب إبعاد حكومة هشام المشيشي وحل البرلمان وتعليق العمل بأغلب فصول الدستور بحجة تعرض البلاد ل” خطر داهم”.

وكانت المفاجأة الثانية أن نجلاء بودن حرم رمضان التي عينت في هذا المنصب لم تكن ضمن قائمة المرشحات له رغم تأكيد تقارير اعلامية كثيرة منذ شهرين أن خليفة المشيشي قد تكون سيدة ، توقع كثيرون أن تكون الوزيرة نادية عكاشا مديرة مكتب الرئيس وكبيرة مستشاريه في قصر قرطاج.

ولم يعرف عن السيدة بودن انخراط في الصفوف الأولى للحياة السياسية والشأن العام خلال مسيرتها العلمية والهندسية في المدرسة العليا للمهندسين ثم منذ تعيينها في 2006 على رأس مسؤوليات في وزارة التعليم العالي .

أصيلة القيروان

وخلافا للغالبية الساحقة من رؤساء الحكومات الذين تداولوا على المنصب في تونس ، منذ استقلال البلاد عن فرنسا في مارس 1956 ، لا تنحدر نجلاء بودن رمضان من محافظات “الساحل” أو من العاصمة تونس ، لكنها من أصيلات مدينة القيروان العاصمة الأولى للبلاد ولكامل شمال إفريقيا والاتدلس في العهد الأموي والعهد العباسي الأول .

وإذا تلتقي نجلاء بودن مع رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي في كونها أصيلة الجهات الداخلية “المهمشة ” مثل محافظات القيروان وسليانة وجندوبة ، فإنها تختلف عنه اجتماعيا لأنها تنحدر من واحدة من أعرق وأغنى العائلات السابقة في القيروان التي هاجرت إلى العاصمة أو إلى مدن الساحل التي ينحدر منها الرئيسان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وأغلب وزرائهما.

وهي أصيلة ” قلب مدينة القيروان التاريخية ، داخل الأسوار التاريخية ، وليست من بنات أريافها الفقيرة أو أحيائها الشعبية.

وهي من عائلة ” حضرية ” ميسورة الحال نسبيا وليست من بنات البدو و” الأعراب ” الذين أصبحوا أغلبية في المدينة وضواحيها بعد أن توسعت وتضاعف عدد سكانها عشرات المرات بسبب النزوح والهجرة .

وقد تزوجت نجلاء بودن من طبيب أصيل مدينة المهدية الساحلية السياحية ، 180 كلم جنوبي العاصمة تونس ، من عائلة رمضان .

خريجة جامعات فرنسا

وتعتبر نجلاء بودن واحدة من خريجات ” مدرسة الزعيم الحبيب بورقيبة والدولة الحديثة ” ، عندما كان النجاح في المدارس العمومية شرطا للدخول إلى جامعات العاصمة تونس والحصول على منحة دراسة في جامعة أوربية .

وبالفعل كانت نجلاء بودن واحدة من أبرز طالبات تونس المتألقات في ” المدارس العليا الكبرى ” الفرنسية للهندسة وعلوم المناجم بعد فوزها بمرتبة متقدمة في ” المدارس التحضيرية لدخول كبرى الجامعات الفرنسية “.

تخرجت نجلاء مهندسة ودكتورة من جامعة فرنسية في 1987 مختصة في علوم المناجم .

وقد مكنتها شهائدها العلمية وخبرتها في الجامعات الفرنسية من أن تعين أستاذة في المدرسة الوطنية للمهندسين في “المركب الجامعي ” الكبير في جامعة العاصمة تونس ، وهي واحدة من جامعات النخبة في البلاد .

حافظت السيدة بودن على موقعها الأكاديمي والعلمي حتى 2006 تاريخ تكليفها لأول مرة بمهمة إدارية وبيداغوجية ومستشارة في ديوان وزير التعليم العالي وقتها والقيادي في الحزب الحاكم العميد الأزهر بوعون .

مسؤولة “مخضرمة “

تابعت نجلاء بودن التدريس في المدرسة العليا للمهندسين المختصين في علوم المناجم و الزلازل والمتغيرات الجغرافية ، في نفس الوقت الذي حافظت فيه طوال ال15 عاما الماضية على خطة مستشارة بامتيازات مديرمركزي أو مدير عام مع كل وزراء التعليم العالي الذين تعاقبوا على الوزارة منذ 2006 ، بدءا من عميدي كلية الحقوق السابقين الازهر بوعون ( 2006-2010) والبشير التكاري (2010-2011) .

وبعد ثورة يناير 2011 واسناد الحقيبة إلى وزراء من المعارضة السابقة بينهم أحمد ابراهيم الزعيم السابق للحزب الشيوعي (حزب” التجديد ” و” المسار” لاحقا ) و المهندس المنصف بن سالم القيادي في حزب النهضة الاسلامي و الخبير التقني المستقل شهاب بودن ، الذي يحمل نفس الاسم العائلي وهو بدوره أصيل مدينة القيروان تخرج من جامعات فرنسية ثم عين استاذا في المدرسة الوطنية للمهندسين .

وقد عين شهاب بودن وزيرا للتعليم العالي في 2015 في الحكومة التي ترأسها المهندس الحبيب الصيد وكانت ائتلافا سياسيا بين حزبي نداء تونس بقيادة الباجي قائد السبسي والنهضة بقيادة راشد الغنوشي وحزامهما البرلماني والسياسي.

تعتبر نجلاء بودن من بين كوادر الدولة ” المخضرمين” الذين تولوا مسؤوليات عليا في الدولة قبل ثورة 2011 وبعدها، وكلفت بملفات كثيرة للتعاون الدولي بين الوزارة ومؤسسات عالمية في عهد الوزيرة الحالية ألفة بن عودة صيود وسلفيها سليم خلبوص وتوفيق الجلاصي .وقد عين كلاهما بعد خروجه من الوزارة في مؤسسات دولية خارج البلاد .

وقد نوه المدير العام السابق للتعليم العالي في الوزارة المؤرخ نور الدين الدقي في تصريح للشرق الأوسط بالخبرة العلمية والأكاديمة للسيدة بودن وأورد أنهت “شخصية ” مخضرمة ” عينت مديرة للتدريب في مدرسة المهندسين في 2004 ثم نائبة مدير فمديرة ثم مستشارة بامتيازات مدير عام في مكاتب عدد من الوزراء قبل ثورة 2011 وبعدها .

استقلالية عن كل الأحزاب

وفي الوقت الذي شكك فيه البعض في فرص نجاح رئيسة الحكومة المعينة في مهمتها بسبب استقلاليتها عن الأحزاب الكبرى والنقابات المتحكمة في المشهد السياسي في البلاد وفي مؤسسات الدولة منذ 2011 ، نوه عدد كبير من الحقوقيين والناشطات السياسيات بورقة استقلاليتها واعتبروا أنه ” الورقة الراحة ” التي راهن عليها قيس سعيد المستقل بدوه عن كل الأحزاب عند اختيارها.

وشبهت رئيسة جمعية القضاة السابقة كلثوم كنو رئيسة الحكومة المعينة بالمستشارة الألمانية انجيلا مريكل .. مع التذكير بتشابه الأسماء والأحرف بين ” نجلاء ” و” أنجيلا”..

وسارت في هذا المنحى عديد صفحات المواقع الاجتماعية التي أطلقت حملة ” نجلاء التونسية تخلف ” أنجيلا ” الألمانية “..

ويسجل أنصار نجلاء بودن وخصومها أن كفاءتها العلمية والمهنية وحيادها السياسي والحزبي واستقلاليتها يفسران ديمومتها في موقعها الاداري رغم ابعاد عدد من المسؤولين السابقين في الوزارة والدولة بعد ثورة 2011 .

ونوه المستشار السابق لوزير التعليم العالي شكري النفطي ، في تصريح للشرق الأوسط ، ب” السمعة الطيبة ” التي كانت تحظى بها نجلاء بودن وبما عرفت به من ” مثابرة في العمل صباحا مساء ” ، وهو ما فسر تكليفها برئاسة قطاعات استراتيجية في قطاعات التعليم العالي والبحث العلمي والتعاون الدولي من بينها ” مراقبة الجودة ” وتنفيذ مشاريع إصلاح التعليم العالي والشراكة مع المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو” والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ” الالكسو” وهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية والمركز الأوربي المتوسطي لرصد الزلازل …

تعمل دون كلل

و نوه عدد من الزملاء السابقين لنجلاء بودن في ديوان وزارة التعليم العالي للشرق الأوسط بينهم المدير العام للتعليم العالي نور الدين الدقي ومدير عام ديوان قطاع الخدمات الجامعية سعيد بحيرة ب” مثابرتها على العمل ” وبكونها ” تعمل دون كلل من الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء”..وأنها كانت من بين ” الأوائل وصولا إلى مكتبها ” وآخرهم مغادرة له ليلا..

تتقن اللغات الاجنبية

ونوه عدد من الوزراء و المسؤولين السابقين في وزارة التعليم العالي ممن عملوا مع نجلاء بودن قبل ثورة 2011 وبعدها بكون رئيسة الحكومة المعينة تتقن اللغات الأجنبية ، وخاصة الفرنسية والإنقليزية ، وهو ما أهلها لأن تعين على رأس قطاع العلاقات مع البنك الدولي والمؤسسات الأجنبية المعنية بالشراكة مع تونس في قطاعات التربية والتعليم والبحث العلمي والتدريب .

لكن هذا الاختصاص دفع عددا من خصومها ومعارضي تعيينها إلى شن حملة ضدها في المواقع الاجتماعية .

كما شنت بعض المجموعات ” المستقلة ” حملة ضدها واتهمتها بسوء التصرف في منحة حصلت عليها الوزارة سابقا من البنك الدولي قيمتها 60 مليون دولار أمريكي( أي حوالي 180 مليون دينار تونسي ) بهدف تحسين مستوى التعليم والدراسات في جامعات تونس (؟).

وذهب أشرف العيادي رئيس منظمة ” أنا يقظ ” غير الحكومية التونسية المدعومة ماليا من مؤسسات أمريكية وأوربية إلى حد الحديث عن ” وجود ملف تحقيق ضد السيدة نجلاء بودن ” بما يعني احتمال الحديث عن ” شبهة فساد”..وكانت تقارير هذه المنظمة تسببت سابقا في اسقاط حكومة الياس الفخفاخ في موفى 2020 بعد أن اتهمته بالتورط في ” شبهة تضارب مصالح”..

وأورد أشرف العيادي أن رئيسة الحكومة المعينة بكونها شخصية ” لقيت دعما من قبل السيدة الأولى حرم رئيس الجمهورية القاضية اشراف شبيل سعيد رغم معارضة محيط الرئيس ” واعرب عن تخوفه من أن يكون مصيرها مثل مصير رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي الذي عزل بعد ” الاجراءات الاستثنائية ” التي قررها الرئيس التونسي يوم 25 يوليو الماضي ، رغم الدعم القوي الذي لقيه أول الأمر من قبل قصر قرطاج عند تعيينه وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة .

وزيرة أم رئيس حكومة

في المقابل نوه عدد من خصوم الرئيس قيس سعيد وأنصاره بتعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة ، لكنهم تساءلوا : هل سوف يسمح لها بأن تلعب دور رئيس الحكومة حسب الصلاحيات التي ينص عليها دستور البلاد الصادر في 2014 أم ستكون مجرد ” وزيرة أولى ” في فريق حكومي يرأسه رئيس الجمهورية شخصيا حسب المرسوم عدد 117 الذي أصدره يوم 22 سبتمبر الماضي ؟

وأورد البرلماني والقيادي في حزب تحيا تونس وليد الجلاد أن رئيسة الحكومة المعينة ” شخصية جامعية محترمة سبق أن وقع تكريمها من قبل الرئيس الاسبق الباجي قائد السبسي ” .

لكنه استطرد قائلا :” لا بد من التراجع عن المرسوم 117 الذي جعل من رئيس الدولة رئيسا فعليا للحكومة والغى الفصل بين السلطات و السلطة الرقابية للسلطة التشريعية المنتخبة على الحكومة والسلطة التنفيذية “.

كما رحب غازي الشواشي زعيم حزب التيار الديمقراطي المعارض بتعيين امرأة رئيسة للحكومة لكنه طالب الرئيس قيس سعيد بالتراجع عن مرسوم 117 وعن كل القرارات التي ألغت دور البرلمان والمؤسسات المنتخبة و الدستور .

في المقابل نوه الوزير السابق والقيادي المنشق عن حركة النهضة سمير ديلو بمبدأ تعيين إمرأة على رأس الحكومة ، لكنه أعرب عن أسفه لأن هذه الخطوة جاءت في مرحلة تواجه فيه كل مؤسسات الدولة أزمة شرعية قانونية ودستورية ” داخليا وخارجيا” منذ القرارات الرئاسية الصادرة يوم 22 سبتمبر الماضي.

وفي رد على هذه القرارات وقع عشرات من أعضاء البرلمان الذي علق الرئيس التونسي أشغاله لوائح تطالب ب”استئناف العمل البرلماني والمسار الديمقراطي”. ورحب أعضاء في الكنغرس الأمريكي وسياسيون أوربيون بارزون بتعيين نجلاء بودن لكنهم اعتبروا في تصريحات جديدة أن نجاحها مشروط بمعالجة الملفات الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة وبأن تكون الحكومة ” خاضعة لرقابة مؤسسة تشريعية منتخبة “.

فهل يؤدي تعيين حكومة نجلاء بودن إلى إخراج تونس من أزمتها أم يعمق الأزمات المتراكمة منذ أعوام ؟

Encadré برويز

مؤطر

ماهي صلاحيات رئيسة الحكومة في المرحلة الانتقالية الجديدة ؟

تشق الطبقة السياسية في تونس خلافات في موقفها من تعيين نجلاء بودن رمضان ومن القرارات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 22 سبتمبر والتي أدت إلى تعليق العمل بالدستور ، ما عدا البابين الأول والثاني وبعض الفصول . كما أدت إلى تعليق عمل البرلمان المنتخب في 2019 نهائيا وإعادة تحديد دور الحكومة ومجلس الوزراء رغم اعتراضات عدة أحزاب وغالبية نواب البرلمان .

وحسب الفصول 16 و17 و 18 و 19 في المرسوم الرئاسي عدد 117 أصبح رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الوزراء وهو الذي يعين رئيس الحكومة والوزراء وكتاب الدولة ( وكلاء الوزارات ) . ووقعت إحالة صلاحيات البرلمان التشريعية إلى مجلس الوزراء .

واسندت لرئيس الجمهورية صلاحية الاشراف على كل مؤسسات الدولة الداخلية والخارجية واصدار ” أوامر رئاسية ” و” مراسيم ” تعوض القوانين التي يصادق عليها البرلمان .

ونص الفصل 19 من المرسوم 117 أن ” رئيس الحكومة يسير الحكومة وينسق أعمالها ويتصرف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية ، وينوب عند الاقتضاء رئيس الجمهورية في رئاسة مجلس الوزراء أو أي مجلس آخر”.

كما نص الفصل 14 من هذا المرسوم 117 المثير للجدل أنه ” عند شغور منصب رئيس الجمهورية بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العجز التام يتولى رئيس الحكومة القيام بمهام رئيس الجمهورية إلى غاية تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة ويؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الوزراء “.

وقد أثار هذا الفصل جدلا لأنه يعيد البلاد إلى مرحلة ما قبل 1987 عندما كان الدستور القديم ينص على أن رئيس الوزراء ( أو ” الوزير الأول “) يخلف رئيس الجمهورية في حالة الشغور النهائي . وقد اقال زين العابدين بن علي الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 بعد استصدار شهادة من اطبائه تؤكد مرضه وعجزه عن ممارسة مهامه .

في المقابل نص دستور 2014 أن رئيس البرلمان المنتخب يخلف رئيس الجمهورية لمدة 45 يوما ثم تنظم انتخابات رئاسية جديدة .

في انتظار حسم الخلافات بين صناع القرار السياسي من ” الاجراءات الاستثنائية ” والمراسيم الرئاسية الخاصة ب” المرحلة الانتقالية الجديدة ” و” القانون المؤقت المنظم للسلطات ” ، تبدو البلاد أمام تحديات اقتصادية اجتماعية سياسية وقانونية ودستورية ملحة ، وستكون على رأس أولويات المرحلة القادمة تعديل القانون الانتخابي والدعوة لإنتخابات مبكرة ..قد تضع حدا لأزمات سياسية استفحلت بسبب مسلسل اسقاط الحكومات .

وقد تداول على حكومات تونس منذ يناير 2011 تسعة رؤساء حكومات شكل بعضهم أكثر من حكومة هم على التوالي محمد الفنوشي ( 2011) والباجي قائد السبسي (2011 ) وحمادي الجبالي (2012-2013 ) وعلي العريض ( 2013 ) والمهدي جمعة (2014 ) والحبيب الصيد (2015- 2016 ) و يوسف الشاهد (2016-2019 ) و الياس الفخفاخ (2020) وهشام المشيشي( سبتمبر 2020 – 25 يوليو 2021 )..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *