نزل خبر ” انسحاب كل القوات الأمريكية والأطلسية ” من أفغانستان كالصاعقة على تيار عريض من ” الرأي العام العالمي” بسبب التخوفات من أن تتورط السلطات “السلفية والمحافظة ” الجديدة ، بزعامة ” طالبان ” ، في انتهاكات اضافية لحقوق الإنسان الكونية وخاصة لحقوق المرأة وللتعددية الفكرية والإعلامية والسياسية و لمشاريع التحديث..

ولا شك أن أغلب هذه التخوفات في مكانها ..بعد أن أقرت تصريحات الرئيس الأمريكي يوم 30 أوت ب” الواقع الجديد على الأرض” ، أي ب” الهزيمة” ..

ولا شك أن أفغانستان والباكستان و الهند وايران ودول الجوار مهددة بمخاطر وتعقيدات اضافية بعد ” خروج قوات الإحتلال الأمريكي – البريطاني والاطلسية منهزمة ” في مشهد ذكر بهزائم جيوش امبراطوريات كثيرة أخرى منذ الجيش البريطاني في القرن 19 وجيش روسيا القيصرية قبل ثورة 1917 ثم الجيش السوفياتي بعد غزو السوفيات ما بين ديسمبر 1979 و فيفري 1989 ..

انهزمت قوات ” الامبراطورية الامريكية ” وحليفاتها بعد عشرين عاما من الاحتلال المباشر و أربعين عاما من الخسائر المادية والبشرية الضخمة في حروبها في كامل وسط آسيا و في الخليج..

نسب عالية من الفقر والأمية والجهل

وتزداد تخوفات الحقوقيين والحداثيين بسبب ما تعانيه أفغانستان والباكستان والهند ودول عديدة في العالم الاسلامي منذ خمسين عاما من انتشار سريع للفقر والبؤس و ” للتيارالسلفي ” و” للجماعات المقاتلة ذات المرجعيات الدينية ” التي تصف كل هجماتها ضد القوات الأجنبية وضد خصومها ” الايديولوجيين ” ب”الجهاد” و “الكفاح القومي” و التضحية بالنفس والمال ” في سبيل الله ” … بالرغم من تسبب كثير من تلك الهجمات في خسائر بشرية ومادية ذهب ضحيتها مدنيون مسالمون وعسكريون أبرياء من بني جلدتهم ..

في نفس الوقت تجمع تقارير البنتاغون والحلف الأطلسي من جهة والاتحاد الأوربي وروسيا والصين من جهة أخرى أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أفغانستان و الدول المجاورة لها أصبحت اليوم أخطر بعشرات اضعاف ما كانت عليه قبل الاحتلال الأمريكي- البريطاني – الأطلسي لكابول في 2001 وقبل تفجير حروب ” المجاهدين ضد الغزاة السوفياتي” منذ نحو 40 عاما ..

حسب هذه التقارير فإن حوالي 80 بالمائة من الشعب الأفغاني ( وفي باكستان ) أصبح تحت عتبة الفقر ويعاني من الأمية والحرمان والتهميش و…بينما فقدت أغلب العائلات بيوتها ونسبة من أبنائها وبناتها بسبب القصف و”الحروب بالوكالة” التي كان بلداهم ضحية لها ..

هجرة لأسباب اقتصادية

لذلك صرح الناطق الرسمي لحكومة طالبان ، ذبيح الله مجاهد ، أن أكثر من 70 بالمائة من النساء والرجال والشباب الذين يريدون الهجرة نحو أمريكا وأوربا وغيرها هم من بين “المهاجرين الافتراضيين لأسباب اقتصادية ” بسبب ” الدمار الذي أحدثته قوات الاحتلال الأمريكي الأطلسي” وحلفائها منذ 2001 ..(؟؟)

وبصرف النظر عن دقة هذه التقديرات فلا يختلف اثنان في كون النفقات العسكرية والأمنية طوال العقود الأربعة الماضية تسببت في دمار افغانستان و بلدان الجوار واقتصاديات الدول ” العظمى ” التي تتنافس منذ ثمانينات القرن الماضي ثم منذ سبتمبر2001 للسيطرة على ” طريق الحرير عبر خراسان التاريخية ” وعلى ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية ..

كما لايخفى أن الادارات الامريكية وقيادات الدول الغربية اقرت منذ 15 عاما أن خسائرها البشرية والمادية في افغانستان ودول الخليج وسوريا ولبييا وافريقيا تجاوزت التقديرات وأصبحت ” لا تطاق”.. لأن كلفة العسكري الأمريكي الواحد في أفغانستان تجاوزت مليون دولار سنويا حسب البنتاغون ..

حروب غبية

ولم يعد واردا أن يمول دافع الضرائب الأمريكي حروبا ” غبية ” يشارك فيها أكثر من مائة الف عسكري ..من افريقيا الى سوريا والعراق وافغانستان..

لذلك فاز باراك أوباما والديمقراطيون في انتخابات 2008 ورفعوا شعار” إعادة الانتشار في أفغانستان والخليج ” Redeploiement..

في نفس السياق قطع الجمهوريون ورئيسهم دونالد ترامب خطوات ” أكثر جرأة ” في عهدة 2016-2020 وسحبوا أغلب قواتهم وقوات حلفائهم في افغانستان والعراق وسوريا والخليج ..وخفضوا عدد ” الاحتياطي ” في قواعدهم في دول المنطقة ..وتنازلوا لروسيا وتركيا وايران على مناطق شاسعة في سوريا والعراق وليبيا و..

وتهكم ترامب وأنصاره مرارا على السياسيين الذين كانوا يدافعون عن اهدار الاف الترليونات من الدولارات وارواح عشرات الالاف من الامريكيين والاوربيين في ” حروب الصحراء والجبال “..

وكان طبيعيا أن يمضي الرئيس بايدن وفريقه في نفس المسار ..ويعجل بتنفيذ الاتفاقيات التي ابرمتها قيادات عسكرية وسياسية أمريكية مع قيادة ” حركة طالبان” في الدوحة وخارجها بضوء أخضر من قيادات الحلف الأطلسي والصين وروسيا ودول الجوار ..

في هذا السياق يفهم احترام مقاتلي ” طالبان” والسلطات الجديدة اتفاق تأمين ” انسحاب آمن ” لأكثر من 140 ألف عسكري ومدني أمريكي وأجنبي .. وعرقلوا ” المتمردين ” و” تنظيم داعش” ..

وكان الاستثناء الوحيد شنه ” تنظيم داعش ” في محبط مطار كابول في المنطقة الخاضعة للقوات الأمريكية

..وكانت الحصيلة ” حفظ ماء وجه الجميع ” ، والحديث عن ” انسحاب متفق عليه ” وليس عن ” طرد للقوات الأمريكية والاجنبية ” مثلما وقع سابقا في فيتنام ولبنان وبعض المستعمرات الافريقية والاسيوية السابقة ..

مرحلة ما بعد التحالف مع “الخونة”

لكن ما هي أهم رسالة للعالم بعد هذه التطورات التاريخية وتصريحات الرئيس الامريكي بايدن وحلفائه عن ” طي صفحة 20 عاما من التدخل العسكري المباشر في افغانستان ودول عديدة”؟

الرسائل كثيرة دوليا وأهمها دخول البشرية مرحلة جديدة ستخفض فيها واشنطن وحليفاتها في الحلف الأطلسي وخارجه نفقاتها العسكرية و سياسات التدخل المباشر ، مقابل التفرغ أكثر لملفات التنمية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والثقافية ..

في نفس الوقت بات واضحا أن عهد هيمنة” القطب الواحد” على العالم الذي كرسته سياسات ادارتي الرئيسين جور بوش الاب والابن ما بين 1989 و 2008 ولى دون رجعة ..

ولعل الرسالة المهمة جدا بعد انهيار 300 ألف عسكري أمريكي موال لواشنطن في ظرف أسابيع في أفغانستان ، رغم تفوقهم عسكريا وتكنولوجيا ، هي أن ” الرهان على المنحازين ضد وطنهم في مواجهة معارضي الاحتلال الأجنبي ” أو ” الخونة ” و” العملاء” خيار فاشل ..فاشل ..فاشل ..

تأكد هذا الفشل مرارا في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وفلسطين ولبنان ..وتأكد مجددا في أفغانستان والباكستان ووسط آسيبا ..

أكاديمي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *