كشفت مؤشرات عديدة في تونس أن المشهد السياسي مقبل على تغييرات عميقة من المقرر أن يعجل بها الإعلان عن ” تطور ايجابي” في علاقة رئاسة الجمهورية بالحكومة والبرلمان ، بما يضع حدا لحوالي عام من التوتر وتبادل الاتهامات .

ورغم تصعيد عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري وبعض حلفائها في المعارضة انتقاداتهم للأغلبية البرلمانية والسياسية التي تحكم البلاد منذ 10 أعوام ، فإن تحركات الكواليس تكشف بوادر “توافقات جديدة ” قد تؤدي إلى تشكيل “حكومة سياسية” تنفتح أكثر على المعارضة والنقابات والخبراء المستقلين .

صدرت الرسائل الأولى عن كون “التغيير قادم” عندما تزامن تصعيد الأطراف السياسية والنقابية المتصارعة لهجتها ضد رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة مع اجتماعات “رفيعة ” ناقشت سيناريوهات “حلحلة الأزمة “، بما في ذلك عبر تشكيل حكومة بديلة عن الحكومة الحالية التي لم يباشر 11 من أعضائها مهامهم رسميا بسبب فيتو مارسه ضدهم الرئيس قيس سعيد .

قطيعة مع النقابات ؟

ولعل أخطر تصعيد سجل منذ الإطاحة بحكم الرئيس زين العابدين بن علي مطلع 2011 أن قيادة اتحاد نقابات العمال ، التي تلعب دورا سياسيا وأمنيا كبيرا جدا في تونس ، دعت إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها ، وسط مطالبات بإقالة الرؤساء الثلاثة و” إعادة العهدة إلى الشعب “.

لم تعلق رئاسة الجمهورية ولا رئاسة البرلمان أو رئاسة الحكومة على هذه الدعوات ، رغم الحملة التي شنتها قنوات إذاعية و تلفزية ووسائل إعلام محلية ودولية حول ما وصفته ب” سابقة مطالبة النقابات لرئيس الجمهورية وللبرلمان بالتنحي “.

في الأثناء حذرت أطراف سياسية عديدة من مخاطر”القطيعة والصدام”بين القيادة النقابية والرؤساء الثلاثة بعد الانتقادات الحادة التي وجهتها لهم اعلي سلطة في “الاتحاد العام التونسي للشغل” بين مؤتمرين ( ” الهيئة الادارية “) في بلاغ رسمي ، تحضيرا لمؤتمر استثنائي من المقرر أن تعقده المركزية النقابية قريبا.

في المقابل رحبت قيادات من أحزاب المعارضة ، مثل الشعب والدستوري الحر والتيار ، بالدعوات إلى ” تنظيم انتخابات مبكرة “..وأورد الناطق الرسمي باسم حزب النهضة البرلماني فتحي بها أن حزبه ” مستعد لمثل هذه الانتخابات “.

استفتاء شعبي ..

لكن أغلب خبراء القانون الدستوري في البلاد ، وبينهم الأكاديمي كمال بن مسعود والعميد السابق لكية الحقوق رافع بن عاشور ، استبعدوا تنظيم انتخابات مبكرة دون حصول ” توافق سياسي” على أعلى مستوى يؤدي إلى تعديل القانون الانتخابي والدستور .

واستدل هؤلاء بكون الدستور الحالي لا يخول لأي جهة سياسية ، بما في ذلك رئيس الجمهورية أو البرلمان ، إلغاء نتائج انتخابات 2019 والدعوة لانتخابات مبكرة .

وأوضحت الخبيرة القانونية الجامعية منى كريم أن الدستور يسمح لرئيس الجمهورية بحل البرلمان والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها في حالات نادرة من بينها عدم حصول رئيس الحكومة الذي رشحه على تزكية الأغلبية البرلمانية مرتين متعاقبتين .

كما اعتبر فتحي بالحاج الوزير السابق والقيادي في حزب الشعب المعارض والبرلماني فتحي العيادي الناطق الرسمي باسم حزب النهضة أن تنظيم انتخابات جديدة قبل تعديل القانون الانتخابي سوف يفرز نفس المشهد السياسي تقريبا .

لذلك دعا عدد من النشطاء السياسيين ، بينهم الوزيران السابقان محسن مرزوق وكمال الجندوبي وعميد المحامين السابق شوقي الطبيب ، إلى تنظيم ” استفتاء شعبي” حول تغيير طبيعة النظام السياسي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي .

وأطلق مجموعة من النشطاء اليساريين السابقين مبادرة “صمود” بهدف جمع عشرات آلاف توقيعات المواطنين الذين يدعمون تنظيم ” الاستفتاء الشعبي ” .

الرئاسة مدى الحياة؟

لكن اغلب قادة الأحزاب الحاكمة والمعارضة ، بما فيهم حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي والوزير السابق رفيق عبد السلام ، أعلنوا بوضوح معارضتهم لما نسب للرئيس قيس سعيد ومناصرين له من دعوة إلى تنظيم ” استفتاء شعبي” حول التخلي عن “دستور الثورة” الصادر في 2014 والعودة إلى دستور 1959 ، الذي انتقده أغلب السياسيين منذ 2011 واتهموه ب” التشريع للاستبداد والحكم الفردي والرئاسة مدى الحياة “.

وقد نسب أمين عام نقابات العمال نور الدين الطبوبي للرئيس قيس سعيد بعد مقابلات خاصة معه أنه يفكر ” في تنظيم استفتاء للعودة إلى دستور 1959 ” لأن الدستور الجديد قيد صلاحيات رئيس الجمهورية و كرس تضارب الصلاحيات بينه وبين رئيس الحكومة من جهة والبرلمان من جهة ثانية .

وقد نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية صورا وفيديو عن اجتماع عقده قيس سعيد مع البرلمانية السابقة والناشطة القومية العروبية مباركة البراهمي يعرض فيها صفحات من جريدة ” العمل ” الناطقة باسم الحزب الحاكم في 1959 تنوه بتصريحات الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة عن دستور يونيو 1959.

وتسبب نشر تلك الصور والاخبار في مزيد من الانتقادات للرئيس قيس سعيد وبعض مستشاريه مع اتهامهم ب” التراجع عن المكاسب الديمقراطية في دستور 2014 “.

استشارة ..وليست قانونا

لكن بعض المختصين في القانون الدستوري ، بينهم الأكاديمي والخبير القضائي الدولي هيكل بن محفوظ ، طالبوا ب” اخراج البلاد من أزمته السياسية ومن دوامة الصراعات حول الصلاحيات بين كبار المسؤولين في الدولة عبر استفتاء شعبي استشاري يدعو له رئيس الجمهورية”.

وأورد هيكل بن محفوظ في تصريح للشرق الأوسط أن ” دستور 2014 حدد مجالات تنظيم الاستفتاء العام بالقضايا التي لديها علاقة بملفات حقوق الانسان ، لكنه لا يمنع رئيس الدولة من الدعوة إلى “استفتاء عام استشاري” بما في ذلك حول التعديل الجزئي للنظام السياسي .

و اعتبر بن محفوظ أن ” الاستفتاء الاستشاري ” ليس ملزما لكنه يمكن أن يساعد صناع القرار على ” حلحلة الملفات ” واخراج البلاد من ” الدوامة ” و”الدوران في حلقة مفرغة “.

توسيع صلاحيات رئيس الدولة

في المقابل تعالت في المدة الماضية دعوات مساندة لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب البرلمان والحكومة .

وصدرت مثل هذه الدعوات بالخصوص عن وزيري العدل والتعليم العالي قبل 2011 الصادق شعبان والبشير التكاري اللذين اعتبرا أن ” الدستور الحالي يسمح لرئيس الجمهورية باعلان اجراءات طوارئ عندما يكون الأمن الوطني مهددا ، بما في ذلك عبر اجراءات استثنئاية قانونية توسع صلاحياته وتحد من دور البرلمان والحكومة الذين شلتهما الصراعات السياسية والنزاعات الحزبية والشخصية “.

ومن بين المفاجآت أن كان من بين من دعوا إلى توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية الوزير السابق والقيادي المستقيل من حزب النهضة لطفي زيتون .

زيتون انتقد البرلمان والحكومة وكامل المنظومة السياسية الحاكمة منذ 2011 مرارا ثم التقى الرئيس قيس سعيد في قصر قرطاج ودعا إلى ” احترام مقام رئيس الجمهورية وتوسيع دور مؤسسة الرئاسة بهدف إنقاذ البلاد من أزمتها .”

وكان زيتون أعلن عن موقف مماثل عندما برزت خلافات بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد الذي كان وقتها متحالفا مع قيادة حركة النهضة .وكان زيتون من بين الأقلية التي انحازت إلى قصر قرطاج في صراعه مع الشاهد وحكومته .

وساطات ..واتفاق

بصفة موازية للتصريحات النارية ولرفع سقف المطالب في الخطابات النقابية والسياسية ، أكدت مصادر مسؤولة من عدة أحزاب وفي مصادر صنع القرار أن البلاد مقبلة على مرحلة جديدة من ” التوافق السياسي ” تبدأ بحسم الخلافات بين قصري رئاسة الجمهورية والبرلمان من جهة وبين قيس سعيد وراشد الغنوشي وبعض المقربين منه من جهة ثانية .

بدأ تغيير المسار بعد الإعلان عن جلسات حوار وتشاور سياسي عقدها الرئيس قيس سعيد مع عدة شخصيات دبلوماسية وسياسية بينها الوزير والقيادي السابق في حزب النهضة لطفي زيتون ومع صديقه القديم والزعيم اليساري السابق رضا شهاب المكي المعروف بتسمية ” رضا لينين “.

بعد ذلك بأيام عقد قيس سعيد اجتماعا على انفراد دام ساعة ونصف ، هو الأول من نوعه منذ العام الماضي ، مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي الخريجي .

وحسب مصادر عديدة فقد أسفر الاجتماع عن ” توافق شامل ” حول تسوية الأزمة السياسية الحالية ، بما في ذلك عبر احتمال إعلان تعديل حكومي واسع ، واستبعاد الوزراء الذين اعترض عليهم قيس سعيد منذ 6 أشهر بعد الحديث عن ” شبهات فساد” تحف بهم .

انهيار ” الحزام السياسي ” ؟

في الأثناء صدرت عن قياديين في حزب قلب تونس ، بينهم البرلماني أسامة الخليفي ، انتقادات للتقارب بين حليفهم رئيس البرلمان وحزبه مع الرئيس قيس سعيد وحلفائه أعضاء “الكتلة الديمقراطية “في البرلمان ( حزبا الشعب والتيار ) .

وحذر عدد من نواب ” الحزام البرلماني والسياسي ” للحكومة من تصدع الائتلاف الحاكم في صورة ” تلويح الغنوشي وقيادة النهضة ” بامكانية ” التنازل عن رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي ، الذي يحظى بدعم عشرات النواب المحسوبين على أحزاب خرجت من رحم الحزب الحاكم قبل 2011 ، التجمع الدستوري الديمقراطي.

وبعد الافراج عن زعيم حزب قلب تونس رجل الاعمال نبيل القروي ، الذي نافس قيس سعيد في الدور النهائي من انتخابات 2019، تعالت مجددا دعوات إلى تشكيل ” تحالف سياسي جديد ” يشمل من يسمون ب” الحداثيين والليبيراليين ” ضد خصومهم ” الاسلاميين ” أي نواب حزبي النهضة وائتلاف الكرامة وحلفائهما.

وفي صورة قيام هذا “التحالف الجديد ” يمكن تشكيل حكومة جديدة رئاسة هشام المشيشي يدعها حزب عبير موسي ،و قد يدعمها قصر قرطاج ، تتعهد في الكواليس بغلق الملفات المالية والقضائية التي تسببت في ايقاف نبيل القروي مرتين عام 2019 وهذا العام و اصدار قرارات بمصادرة كل أمواله وممتلكاته مؤقتا.

خطوة إلى الأمام ..خطوة إلى الوراء ؟

لكن التصريحات المتفائلة ، التي صدرت عن شخصيات عرفت ب” تشددها ” مثل وزير الصحة السابق ونائب رئيس النهضة عبد اللطيف المكي ، تتزامن مع بوادر ” عودة التجاذبات السياسية ” مجددا .

لذلك فإن تونس تجد نفسها مجددا في ” مربع الدوران في حلقة مفرغة ” و مسلسل ” خطوة إلى الأمام خطوة إلى الوراء ” على حد تعبير الإعلامي والأكاديمي المنجي المبروكي ..

بل توشك الأوضاع أن تتعقد أكثر سلبا ، بعد دخول مجموعات سياسية محسوبة على “أقصى اليسار “على الخط ، وعودتها لاتهام قيادة حزب النهضة بالتورط في العنف والإرهاب و في قتل المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد الابراهمي عام 2013.

بل لقد لوح المحامي رضا الرداوي عضو هيئة الدفاع عن بلعيد والابراهمي في مؤتمر صحفي جديد عقده مع رفاقه في الهيئة بالكشف عن تورط قضاء ومسؤولين كبار في الدولة منذ 10 أعوام في قضايا العنف والارهاب ، بينهم عدد من المسؤولين في الحكومة التي سيطرت عليها شخصيات قيادية من النهضة في 2012 و2013 برئاسة المهندسين حمادي الجبالي وعلي العريض .

في الوقت ذاته بدأت جمعيات نسائية وحقوقية محسوبة على أحزاب يسارية حملة اعلامية شديدة اللهجة ضد من تصفهم ب” السلفيين ” و” الأصوليين ” و” المتطرفين ” الذين اتهمتهم بالنيل من حقوق المرأة والإساءة إلى زعيمة الحزب الدستوري عبير موسي ورفاقها.

كما تشكلت مجموعات من الجمعيات والأحزاب التي تنظم تحركات تطالب ب” إسقاط حكومة هشام المشيشي والبرلمان وكامل المنظومة السياسية التي أفرزتها انتخابات 2019 ” عبر تشجيع ” الاحتجاجات الشبابية ” و” المظاهرات في الأحياء الشعبية ” ردا على غلاء الأسعار وتضخم نسب البطالة والفقر والجريمة بسبب ” إخفاقات السياسيين ” والمضاعفات الاجتماعية والاقتصادية لوباء كورونا وقرارات الطوارئ الحكومية بعد إغلاق الحدود والشلل الذي أصاب قطاعات عديدة من بينها السياحة والصناعات التقليدية والخدمات.. .

وفي كل الحالات يتضح أن المشهد السياسي في البلاد متحرك : البعض يدفعه نحو دعم الائتلاف البرلماني السياسي الحالي عبر المصالحة مع قصر قرطاج وبعض الاحزاب المعارضة القريبة منه والبعض الآخر يسعى إلى ” تفجير التناقضات ” داخل هذا الائتلاف تمهيدا لتشكيل تحالفات جديدة ..تؤثر في مسار الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة سواء نظمت في موعدها في 2024 أو مبكرا موفى العام الجاري أو مطلع العام القادم..

Encadre

برويز

قيس سعيد رئيس “غير تقليدي”..و سياسة إعلامية جديدة

بعد حوالي عام و8 أشهر عن وصول الحقوقي والاستاذ الجامعي الخبير في القانون الدستوري قيس سعيد إلى قصر الرئاسة في قرطاج لم ينجح أنصاره وخصومه في فهم بعض مواقفه وتوجهاته وأولوياته .

ولعل أهم وصف قدمه له بعض أنصاره ،مثل المستشار السابق في قصر قرطاج والكاتب طارق الكحلاوي والوزير السابق عدنان منصر ، هي كونه ” رئيس غير تقليدي” .

قيس سعيد يحرص منذ ترشحه للانتخابات إلى اليوم على ان يكون غامضا وان يستفيد من قلة بروزه في وسائل الاعلام للخوض في الخلافات حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمستجدات السياسية الإقليمية والدولية .

ولعل أهم ” اضافة ” قدمها أنه ” ابتكر” سياسية اعلامية اتصالية خاصة به .

يتحاشى قيس سعيد المؤتمرات الصحفية والحوارات منذ وصوله قصر قرطاج خلافا لما كان عليه عندما كان اكاديميا مستقلا واستاذا في كلية الحقوق والعلوم السياسية .

لكنه يبلغ مواقفه بطريقة اثارت ردود فعل متباينة شعبيا ورسميا : فاذا اراد الاعلان عن موقف من قضية سياسية يدعو شخصية أو اكثر إلى قصر قرطاج أو إلى حدث وطني ، ويدلي بخطاب أو كلمة مصورة يبثها الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية كاملة أو منقوصة . ولا يبث تعليق الضيف أو الضيوف ، وان كان بينهم رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وقيادات نقابات العمال وبعض الأحزاب أو مجموعة من رؤساء الحكومات السابقين أو السفراء الأجانب ..

هذه الطرقة استساغها البعض وانتقدها آخرون ..فيما قيس سعيد من قبل بعض معارضيه ، بينهم العميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية عياض بن عاشور ، بكونه “ما زال يلعب دور الأستاذ الجامعي المعارض المترشح للإنتخابات ” ولا يخاطب الشعب بصفته ” رئيسا للدولة لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في قصر قرطاج ومعارضا للمنظومة السياسية التي أفرزتها انتخابات 2019 التي أوصلته إلى الحكم ودستور 2014 الذي أدى اليمين عليه قبل مباشرة مهامه الجديدة “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *