تصنف تونس دوليا باعتبارها “أكثر الدول العربية والإسلامية علمانية بعد تركيا”. واختار الرئيسان التونسيان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي والمقربون منهما ما بين 1956 و2011 الاعتماد على “الحداثيين العلمانيين” في الإشراف على مؤسسات الحكم والتعليم والثقافة والإعلام، وعلى أصدقاء الحركة الوطنية التونسية والمغاربية داخل النخبة الفرنسية، بينهم صديقه المؤرخ والصحفي الكبير شارل أندري جوليان وتلامذته.

وقد نجحت سياسات بورقيبة وبن علي وأنصارهما في “تغيير أفكار النخب والشعب اعتمادا على مؤسسات الدولة”، وأفرزت قيادات فكرية وثقافية وسياسية حاولت تأصيل “العلمانية التونسية والمغاربية” فكريا .

يسجل الباحثون في “التاريخ المعاصر والزمن الراهن” أن قراءة تطور الفكر السياسي في الدول العربية وفي عمقها الاستراتيجي الإقليمي والدولي يجب أن تنطلق من ملاحظة منهجية: ضرورة عدم الخلط بين اللائكية حسب المفهوم “الجاكوبي الفرنسي” منذ قانون الفصل بين الدين والدولة لعام 1905 و”العلمانية” في المفهوم الأنجلوساكسوني، التي تعني حيادية الدولة في الشأن الديني وأن تكون القوانين وضعية مع اعتراف الدستور البريطاني بكون الكنيسة “مؤسسة وطنية”.

تناقضات ومدارس

في نفس الوقت لا بد من التنبيه منهجيا إلى كون مفهوم العلمانية واللائكية تطور خلال القرنين الماضيين مرارا بما أفرز مدارس عديدة داخل نفس التيار. وانفجرت تناقضات كبيرة بين الدعاة إلى العلمانية في مواقفهم من الحريات السياسية والدينية والأنظمة الشمولية والهامش الديمقراطي في الدول وحقوق الأقليات والمعارضين.

كما برزت تباينات في كتابات بعض من أصلوا فكريا وثقافيا للعلمانية واللائكية، حول الهدف من منع تدخل “المقدس ورجال الدين” في السياسة: هل هو ضمان حق الاختلاف والتعدد أم تبرير “استبداد من نوع آخر” مرجعياته “حداثية” وقمع المعارضين ثم مركزة كل السلطات بين أيدي “حكم مركزي شمولي ـ توتاليتاري” يلعب فيه “الزعيم الأوحد العلماني” دور “رجل الكنيسة” في العهد الوسيط في فرنسا؟

 

فلاسفة ومؤرخون فرنسيون أغلبهم “يساريون” أسسوا الجامعة التونسية بعد الإستقلال

وتكشف بعض الدراسات عن تطور الأفكار في تونس والمنطقة الأورومتوسطية، أن بعض الرسائل الجامعية التي أعدها أو أشرف عليها أكاديميون تونسيون مثل كمال عمران وفتحي القاسمي أو عبد الجليل التميمي، انتقدت ما أسمته بخلط غالبية النخب الفرنكفونية في تونس وفي المنطقة بين العلمانية واللائكية من جهة وبين “لائكية” مطلع القرن 20 و”علمانية” مطلع القرن 21 في أمريكا أوروبا بما في ذلك في فرنسا.

ويؤكد بعض الباحثين والمفكرين التونسيين أنه على عكس المسار الفرنسي القديم، فإن مصطلحات “علمنة” (secularisation) و”تعلمن” (secularism) وعَلماني (secularist). في البلدان الأنجلوسكسونية تدعم خيارات التعدد الثقافي والسياسي” لأن المسار التاريخي الإنجليزي لم يكن مسارا صداميا يفرض “القطيعة والصدام”، خلافا لما كان عليه الأمر في فرنسا.

العنف الدموي والتعايش

وخلافا للثورة الفرنسية 1789 التي اقترنت بالعنف وعقبتها عقود من الصراعات الدموية والحروب والمعارك الداخلية والخارجية فإن ثورتا بريطانيا في 1641 و1688 كانتا سلميتين.

ويفسر هذا الاختلاف بقاء “المؤسسة الملكية” والتقاليد الثقافية والخصوصيات الاجتماعية والدينية إلى اليوم. وحافظت المؤسسات الدينية في بريطانيا والمجتمعات الانجلوسكسونية على وضعية “تعايش” مع السياسيين الحداثيين والنخب العلمانية بعيدا عن العنف والعنف المضاد الذي تسبب فيه الصدام بين “اللائكيين الفرنكفونيين” ومعارضيهم “المتدينين” في تونس وبلدان شمال إفريقيا.

نخبة وأعلام

وإذ تفتخر النخب التونسية والمغاربية بانفتاح تيار واسع منها مبكرا على المفكرين والفلاسفة والمؤرخين والأدباء الأوربيين العلمانيين عامة والفرنسيين خاصة، تكشف الأبحاث العلمية والأكاديمية أن 4 عوامل تفسر هذا “الاستثناء الثقافي التونسي والمغاربي”:

ـ أول هذه العوامل أن أغلب السياسيين والعسكريين والأمنيين البارزين الذين حكموا البلاد في عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي (1956 ـ 2011) كانوا غالبا من بين خريجي المدارس والجامعات الفرنسية، حيث الدفاع المستميت عن اللائكية وقيم الحداثة الغربية.

ـ العامل الثاني، مشاركة مفكرين وأكاديميين فرنسيين مشهورين في تأسيس الجامعة التونسية وتوجيه نخبها، وفي رسم سياسات التعليم والثقافة والإعلام والتنمية منذ 1956.

 

علمانيو تونس ” فرنكفونيون ” في قطيعة مع “الانقلوسكسونية”.. محمود المسعدي وبورقيبة والشرفي أصلافكريا العلمانية التونسية

ـ العامل الثالث، انخراط عدد كبير من النشطاء النقابيين والمعارضين السياسيين والحقوقيين التونسيين والمغاربيين مبكرا في أحزاب وحركات وجمعيات يقودها زعماء من اليسار الفرنسي والدولي أو من الأحزاب البعثية والقومية العلمانية. وبرز ذلك خاصة بعد تحركات أيار (مايو) 1968 الشبابية في فرنسا وحربي 1967 و1973 بين الدول العربية واسرائيل وخلال الصراعات بين نظام عبد الناصر في مصر والبعث في سوريا والعراق مع معارضيهم الاسلاميين .

في هذا السياق يفهم الدور المركزي لبعض “العلمانيين” التونسيين الذين مروا بتجارب حركات آفاق Perspectives والعامل التونسي والشعلة مثل محمد الشرفي وخميس الشماري وأحمد نجيب الشابي والمنصر الرويسي ومحمد بن جنات ونور الدين بن خذر وجلبار النقاش وصالح الزغيدي والعربي عزوز والصادق بن مهني وأحمد السماوي والطاهر شقروش وسهام بن سدرين وحمادي الرديسي وعلي المهذبي والمنصف عاشور..الخ

وقد لعب أغلب هؤلاء لاحقا أدوارا في الحكم وفي المعارضة وفي الجامعة والمجتمع المدني..

ـ العامل الرابع: خلافا لما وقع في الجزائر والمغرب، حيث كان للأحزاب الحاكمة “جناح علماني” وآخر “وطني عربي اسلامي”، همشت السلطات التونسية منذ 1956 غالبية خريجي الجامعة الزيتونية ثم أغلقتها، ثم همشت غالبية خريجي الجامعات المصرية والسورية والعراقية، بما في ذلك العلمانيين البعثيين والناصريين..

من الشابي إلى المسعدي

وكان المنعرج الحاسم ثقافيا وفكريا وسياسيا في تونس عزل محمد الأمين الشابي، الشقيق الأصغر للشاعر أبي القاسم الشابي، من حقيبة التربية بعد عامين من الاستقلال وتعويضه بالكاتب والمفكر الوجودي والعلماني محمود المسعدي، الذي يسميه البعض “جون بول سارتر العرب”.

ترأس المسعدي لمدة عشرة أعوام وزارة التربية ووضع الأسس التي وجهت النخب والتعليم في البلاد طوال عقود، كما تولى حقيبة الثقافة وترأس البرلمان.

لم يكن المسعدي مجرد وزير بل كان عمليا “الأب المؤسس للنظام التربوي العصري” ولإنجاز خطة الحبيب بورقيبة ورفاقه من خريجي الجامعات الفرنسية، وبينها “الدفع في اتجاه موت المقدس وتشجيع أجيال من الأطفال والشباب للانفتاح على العقلانية الأوربية”، مثلما أورد عالم الاجتماع وخبير الدراسات السياسية عبد الباقي الهرماسي.

 

وكانت من بين أسس سياسة بورقيبة والمسعدي “الانفتاح على الجامعيين والمفكرين الفرنسيين “بينهم المؤرخ والكاتب الصحفي اليساري والعلماني شارل اندري جوليان ( 1891 ـ 1991)، صديق بورقيبة والعاهل المغربي محمد الخامس قبل الاستقلال. كما انفتحوا على عدد من تلامذته الفرنسيين الذين ولدوا في شمال إفريقيا أو عاشوا فيها وناضلوا مع ساستها ضد سلطات الاحتلال ، مثل اني راي قولدزايقر أصيلة تونس اندريه نوشيه أصيل قسنطينة الجزائرية وكلود ليوزي أصيلة الدار البيضاء المغربية.

ولئن عين السلطان محمد الخامس المؤرخ شارل أندري جوليان أول عميد لكلية الاداب والعلوم الإنسانية في الرباط وكلفه بتأسيس الجامعة المغربية، فإن بورقيبة ورفاقه استقبلوه مرارا واعتمدوا عليه وعلى تلامذته الفرنسيين والتونسيين في تأسيس الجامعة التونسية، وخاصة كلية الآداب والعلوم الإنسانية ودار المعلمين العليا بشعبها العلمية والأدبية والانسانية.

وتولى المفكران والوزيران محمد مزالي والبشير بن سلامة بالاتفاق مع بورقيبة أو بطلب منه ترجمة كتاب شارل أندري جوليان “تاريخ شمال افريقيا”. وأصبحت نصوص ذلك الكتاب تعتمد في الكتب المدرسية الأدبية والتاريخية والثقافية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، خدمة لمشروع “علمنة الدولة” والترويج لفكرة مركزية واحدة: جذور شعوب تونس والبلدان المغاربية ودولها ليست عربية مشرقية أو إسلامية ولكنها بربرية قرطاجنية بونيقية وقرطاجنية رومانية، وهي أقرب إلى أوربا من الوطن العربي.

لماذا؟

ويفسر المؤرخ والكاتب العلماني اليساري الهادي التيمومي انتصار التيار العلماني في تونس بعوامل عديدة من بينها التنظير مبكرا لثقافة “كيان وطني” خاص بتونس وشمال إفريقيا.

وأورد التيمومي في كتابه “تونس البورقيبية 1956 ـ 1987″، أن “النخبة التي وصلت إلى السلطة السياسية في 1956 هي النخبة الممثلة للإتجاه الليبيرالي الفرنكفوني التحديثي، وهي متشربة بفلسفة الأنوار الأوروبية والفلسفة الوضعية والسانسيمونية (Saint –simonism) وبكتابات مفكري الجمهورية الثالثة الفرنسية (1870 ـ 1940).”

ولاحظ أن هذه النخبة وضعت على رأس أولوياتها “إعادة تشكيل الوعي العام للسكان وتغيير المجتمع وفق قناعاتها وبسرعة” واعتبرت أن “الإنسان النموذجي هو الإنسان الذي يؤمن بالحداثة الغربية وبقيمها العلمانية”.

وكان بورقيبة وفريقه وضعوا أولوية دفع البلاد عن خيار بناء “الأمة التونسية العصرية” بديلا عن “الأمة الإسلامية والأمة العربية”.

 

وحاولوا أن ينطلقوا من كتابات بعض الوطنيين والمثقفين التونسيين مثل البشير صفر 1856 ـ 1917 وحسن حسني عبد الوهاب 1884 ـ 1968 وعلي البلهوان 1909 ـ 1958 وكتابات القوميين الأوربيين للقرن التاسع عشر بينهم إرنست رينان والمستشرقين الفرنسيين المتعاطفين مع العرب مثل الأديب أناتول فرانس والطبيب غوستاف لوبون والمؤرخ شارل أندري جوليان وتلامذته التونسيين والأجانب..

تياران

وبرز في هذا السياق اتجاهان: الأول يرمز إليه الحيبب بورقيبة ومحمود الماطري وأعضاء من “الديوان السياسي للحزب الدستوري (“الجديد”) الذين تمردوا على “اللجنة التنفيذية” بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحي الدين القليبي عام 1934 ورفاقهما “العروبيين والإسلاميين” أو “المحافظين”.

يعتبر بورقيبة وأنصاره أن “تونس تونسية كانت دوما لا شرقية ولا غربية” ومن مصلحتها اليوم “ربط مستقبلها بالغرب”.

ـ أما التيار الثاني فيعتبر أن “تونس تونسية منذ القدم لكنها شرقية عربية إسلامية” ويتزعم هذا المجموعة الفيلسوف الوجودي محمود المسعدي وزعيم الشباب علي البلهوان ووزير الثقافة البشير بن سلامة ووزير التربية ثم رئيس الحكومة محمد مزالي.

 

كتب محمود المسعدي في العدد 20 مجلة المباحث عام 1945: “إفريقية شرقية قبل أن تكون غربية، وسامية روحانية قبل أن تكون مادية آرية، عرب ومسلمون كالعرب وساميون كاليهود ولن نكون أبدا شيئا آخر”.

وكتب الزعيم المثقف والمناضل الوطني الكبير علي البلهوان عام 1944: “الدولة التونسة موجودة منذ الف سنة وتزيد.. الأمة التونسة تستعد للنهضة العربية الإسلامية الكبرى فاتجهت بكيانها إلى الشرق… وعبثا حال الاستعمار تحوي نظر الشعب التونسي وتوجيهه نحو باريس وأوروبا، نحن عرب ونريد أن نبقى عربا”.

اختلاف مع تجربة تركيا

في كل الحالات تكشف تصريحات كبار رموز التيار “العلماني” التونسي من مثقفين ومسؤولين في الدولة انتقادات لـ “علمانية مصطفى كمال أتاتورك” وحرصا على التميز عنها.

بل لقد أوضح بورقيبة مرارا في خطبه أنه يعارض “فصل الدين عن الدولة” واعتبر أن العلمانية التي يؤمن بها تعني أن “الدولة تحتكر الإشراف علي شؤون الدين والشعائر الدينية وتعمل على “تحديث الإسلام وليس على أسلمة الدولة”.. وتتولى الدولة مهمة الاجتهاد ولا تعول على “رجال الدين” نظرا إلى جنوح أغلبهم إلى تفسير الدين تفسيرا ماضويا ومحافظا”. كما أوضح أنه لا يمكن “التعويل على الزمن ليفعل فعله “، لان البلاد مطالبة بطي المراحل وتقليص الفجوة السحيقة التي تفصلها عن البلدان المتقدمة في الغرب.

لذلك قام بورقيبة بالخطوات التالية:

ـ حرمان القائمين على الشؤون الدينية من الاستقلالية النسبية التي تمتعوا بها زمن الاستعمار، والزامهم بالتبعية الكاملة لمصالح الدولة .

ـ شن حملة على الطرق والأولياء والشعوذة والزوايا

ـ الحد من الكتاتيب دون منعها كليا

ـ اعتمدت الدولة رسميا منذ فبراير 1960 الحساب الفلكي في تحديد حلول شهر رمضان والاعياد والمواسم الدينية عوض الرؤية .

ـ الدعوة رسميا في خطاب في فيفري 1960 إلى الافطار في شهر رمضان استعدادا “للجهاد الاكبر” ـ ضد الفقر والتخلف والتبعية والاستعمار ـ بعد كسب معركة الاستقلال التي وصفها ب”الجهاد الاصغر” مستدلا بالحديث النبوي: “افطروا لتقووا على عدوكم”. كما منع تغيير أوقات العمل في الادارات الحكومية والسهر في المقاهي والحفلات الراقصة (الكافي شانتا) والنوم والخمول… بحجة حلول شهر رمضان.

 

وقال بورقيبة في هذا السياق: “تونس من البلاد الإسلامية التي تعاني درجة من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولا سبيل لرفع هذه المعرة إلا بالعمل… والتخلص من هذا الانحطاط فرض، ويجب الإفطار للتفرغ للعمل”.

ـ تأكيد الزعماء الوطنيين في خطبهم على كون اليهود التونسيين إخوانهم في المواطنة، وعدم الخلط بين المواطنين ـ اليهود والاستعمارالصهيوني لفلسطين. وفي هذا السياق عين المواطن اليهودي البرت بسيس وزيرا في أول حكومة 1955 بعد الاستقلال الداخلي وأندري باروش في حكومة 1956 بعد الاستقلال التام.

ثنائية

وفي أواخر عهد بورقيبة ثم في عهد بن علي (1987 ـ 2011) تزايد تأثير النخب العلمانية والمثقفين والأكاديميين والسياسيين. ورغم إعلان بن علي خلال أعوام حكمه الأولى “المصالحة بين الدولة والهوية العربية الإسلامية” وسمى نفسه “حامي الوطن والدين” دخل مع الإسلاميين بأنواعهم في صراع طويل، وعين استراتيجية “تجفيف المنابع” معهم. وكلف بتنفيذ هذه الإستراتيجية وزارة الداخلية من جهة وعددا من كبار الأكاديميين المثقفين والسياسيين من جهة ثانية.

وعين على رأس هؤلاء الأكاديميين الحقوقي والقيادي السابق في حركة “آفاق” اليسارية محمد الشرفي، وأسند إليه حقيبتي التربية والتعليم العالي وكلفه بإدخال تغييرات واسعة للكتاب المدرسي وبرامج التربية والتعليم و “اجتثاث الجذور الفكرية الثقافية والعقائدية للخلط بين السياسة والدين”. وقد قطعت أشواط في هذا الاتجاه فعلا، بدعم من عدد من كبار المثقفين والمفكرين والسياسيين اليساريين والعلمانيين مثل الفيلسوف حمادي بن جاء بالله والباحث في تاريخ الأفكار والحضارات عبد المجيد الشرفي والحقوقي المنصف بن عاشور.

وكانت الحصيلة أن تونس عمقت ما تعيشه منذ مرحلة ما بين الحربين العالميتين من ثنائية بين الاتجاه التحديثي أو “التغريبي” والاتجاه الذي يعتبر الإسلام مرجعيته الوحيدة.

في نفس الوقت ساهم الصراع الطويل بين ممثلي التيارين في اثراء الحوارات والنقاشات داخل مختلف العائلات الفكرية.

وقام أغلب رموزها بمراجعات ونقد ذاتي: أغلب النشطاء الإسلاميين انفتحوا على “الآخر” العلماني اليساري والليبيرالي، وتيار من اليسار والعلمانيين بزعامة أحمد نجيب الشابي ولبنى الجريبي ورشيد خشانة ورفاقهم في “الحزب الديمقراطي التقدمي” و”منتدى الموقف” أنجزوا مراجعة فكرية شاملة.

 

وأسفرت تلك المراجعة عن تسهيل الشراكة والتعاون لاحقا بين ممثلي تيارات يسارية وليبيرالية علمانية وإسلامية عديدة، مما سمح بتشكيل “جبهات للحريات وحقوق الإنسان” و”مجموعات ضغط على السلطات، من أبرزها “مجموعة 18 أكتوبر 2005 للحريات”، التي نجحت في صياغة وثائق مشتركة كثيرة حول الخلافات الفكرية والأيديولوجية القديمة بين اليمين واليسار.. بين العلمانيين والإسلاميين.

كما مهدت تلك المراجعات لصياغة دستور يناير 2014 التوافقي، الأول من نوعه عربيا. وقد أكد هذا التوافق الدستوري على “مدنية الدولة” وعلى أن “الدولة لا دين لها” وأن “الاسلام هو دين البلاد وغالبية الشعب الرسمي”.

فهل يمهد هذا المنعرج ليتطور اللائكيون في تونس من لائكية القطيعة والصدام الفرنكفونية إلى العلمانية الأنجلوسكسونية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *