هناك مقولة محفورة في المخيال التونسي أو على الأقل في جزء كبير منه….الحاكم ظالم…و ليس المقصود رجال الشرطة و الحرس كما يسميهم جيل اليوم و إنما المقصود هي الدولة ! لماذا ؟؟ لأن الدولة في تونس كانت ظالمة للسكان على مر الجزء الأكبر من التاريخ الطويل لهذه البلاد…و لم يحصل تقارب و تماهي بينهما إلا مع دولة الاستقلال…و كان الزعيم بورقيبة واعيا بذلك..فقد قال في محاضراته بمعهد الصحافة سنة 1973…”يوغرطة هو الوحيدة من أبناء عشيرته الذي أراد في وقت من الأوقات تكوين دولة مستقلة عن روما أي دولة إفريقية يحكمها الأفارقة، فثار ضد روما و نظم حرب العصابات و انتصر في بعض الوقائع على الجيش الروماني …(و قد غدر به صهره بوكوس ملك موريتانيا و هي المغرب الاقصى حاليا ) و سلمه للرومان لقمة سائغة فساموه الخسف و امعنوا في تعذيبه…و قتل خنقا، و منذ ذلك اليوم لم تقم قائمة لهذا البلد”….و في عهد البايات كانت الدولة جائرة و متسلطة و جبائية مما عمق القطيعة بينها وبين الأهالي…و قد عملت الحركة الوطنية على حمل لواء بناء الدولة الوطنية القريبة من الناس… فكان ذلك بعد الحصول على الاستقلال سنة 1956 …و رغم النقائص و الأخطاء كانت دولة تونسية لحما و دما و نحن أبناؤها الشرعيون…قرأنا في مدارسها و تغلبنا على الفقر بفضلها و شعرنا بالكرامة في ظلها….إلا أن الشعور الدفين بظلم الدولة كان يستيقظ كلما طالنا الحيف والظلم…و لذلك بقي شيء منه كامنا…
و قد استوقفني الأمر هذه الأيام العصيبة على ما بقي من دولة الاستقلال…و لا سيما عندما نشر غسيلها في الصحف و الإذاعات و التلفزات…و رأينا أكبر قضاة الدولة يتبادلون الاتهامات الثقيلة على مرأى ومسمع…بل يكتب أحدهم ما يفيد التلاعب بحياة المواطنين و قياداتهم…و يعدد الآخر مكاسب زميله التي يصعب حصرها في الوقت الذي يضرب فيه القضاة عن العمل متذمرين من ضعف مرتباتهم….لمن نشتكي أمورنا نحن المستضعفين إذا ؟؟؟؟ و اكثر من ذلك و ربما لأول مرة في تاريخ دولة الاستقلال يعلمنا المسؤول الأول عن القوات المسلحة أن حالات عديدة من المتواطئين العسكريين مع الإرهاب تم كشفهم …و في نفس الوقت يقول وزير الداخلية أن هناك مسؤولين خانوا الأمانة و تلاعبوا بالأمن….القضاء و الجيش و الأمن؟؟؟؟ماذا بقي إذا ؟؟؟؟ إنها ركائز الدولة التي نحتمي بها و نعتمد عليها و هي تشكل الدرع الأخير….فكيف نتعامل معها بهذه الطريقة؟ و كيف لا نحصنها و نحافظ عليها؟؟؟
و بالأمس القريب كنا نستاء من كشف صور قياداتنا العسكرية و الأمنية و هم مجتمعون في مجالسهم الأمنية و السيادية …و كنا نطلق التحذيرات ضد الاختراقات من الإرهابيين و الماسونيين و المخابرات الأجنبية….و لكن يبدو أن الدودة في الثمرة و لا بد من الاستفاقة قبل فوات الأوان.
أي قبل أن تتطاول على الدولة أطراف أخرى تتحين الفرصة…و قبل أن يصبح الكامور مثالا يحتذى به…و قبل أن تعلن كل جهة غلق فاناتها للبترول أو الغاز أو الماء أو تسد طرقات التزويد بالقمح أو الخضر أو السمك أو التمور….نحن لا نبالغ و لا نهول و لكننا خائفون على بلادنا مدفن آباءنا و أجدادنا و دولتها الوطنية التي ضحى في سبيل تركيزها الشهداء و قياداتهم…و في بلدان قريبة منا تحيي الدول ذكرى الأحداث و تمجد البناة و تعلم الأجيال الجديدة تاريخ بلدهم ليتعلقوا به و ليفاخروا باسهامات أسلافهم في الحضارة الإنسانية…و لكن في بلدان أخرى انحلت الدولة و نشب الصراع و تفرق الشعب و انتشر الخراب. فهل نحمي بلدنا و دولته؟

سعيد بحيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *