شاءت الأقدار أن التقي منذ مدة قصيرة بأحد رواد الحركة الإسلامية في إحدى الأقطار العربية الذي اختار منهجا قبل بضع سنوات فاجأ العديدين داخل الحركة الإسلامية وخارجها تمثل في إقدامه على حل التنظيم الذي ساهم في تأسيسه وبناءه منذ البداية وشب معه وشاب عليه. والغريب في قصة صاحبنا هذا أن الظروف الموضوعية والمناخات العامة التي تسود ذلك البلد وتلك الحركة لم يكن فيها ما يدفع كثيرا إلى مثل هذه المعالجات غير المعهودة في تاريخ العمل الإسلامي المعاصر.لم تكن تلك الحركة تعيش أي مضايقات ولا مطاردات ولا تعاني من أي إشكال كان مع الأطراف الوطنية والسياسية بما في ذلك السلطة الماسكة بزمام الأمور هناك.كل ما في الأمر أن صاحبنا والبعض من إخوانه أدركوا أن هناك مجالات أخرى واسعة لم يفلح العمل التنظيمي التقليدي في الوصول إليها والاهتمام بها وأن هذه المجالات المهملة في نظرهم تربويا ودعويا وثقافيا وتنمويا تشكل نسبة عالية جدا من فضاءات العمل المتاح أمام الحركات الإصلاحية وجماعات التغيير وبالتالي فان مجمل الحركات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والتربية وحتى المجال السياسي لا تمس سوى حيز ضئيل من الفضاءات المتاحة بحسب ظروف كل وضع وكل حالة. وهو ما يستدعي في نظره إعادة النظر في مناهج الحركات الإسلامية في مجملها وجدوى الاقتصار على التنظيمات بشكل عام ولا سيما تلك التي تعيش حالة من العطالة الذاتية أو التعطيل الموضوعي مهما كانت أسبابه.
وقد روى لي في أثناء حديثه قصة طريفة معبرة عن هذه المعضلة التي يعاني منها كثير من الحركات الإسلامية في بقاع شتى وظروف متباينة.
تروي هذه القصة حكاية جماعة من الناس أرادوا السفر ولم يكن معهم من المال ما يكفي لشراء سيارة..فقرروا أن يجْمعوها قطعة قطعة ويركّبوها بأيديهم.واستغرق الأمر سنوات كلفت جهودا ضخمة.وانتهوا من تركيبها وبدؤوا بتشغيل محركها للانطلاق! ولكن ما راعهم إلا أن احد المارة اقترب منهم ليسألهم عن مقصدهم فذكروا له ذلك فتعجب من أمرهم واخبرهم أن البلد الذي يريدون الذهاب إليه لا يمكن الوصول إليه إلا بحرا.حينئذ صرخ أحدهم “وماذا نفعل بالسيارة؟” وبقوا سنوات طويلة أخرى يبحثون عن كيف يفعلون بالسيارة التي بذلوا جهودا مضنية في تركيبها ورعايتها فقد ارتبطوا بها عاطفيا وأصبحوا يبحثون لها عن أي مبرر للوجود!
إن السيارة التي كانت وسيلة للوصول إلى مبْتغاهم تحولت إلى مشكلة وعائق أمام استئناف مشروعهم.لقد كان استعدادهم للدفاع عن إنتاجهم أكبر من عزمهم للوصول إلى أهدافهم بأقصر الطرق والأساليب.تحولت السيارة لديهم من أداة للعمل إلى وسيلة مرْبكة وحولت تفكيرهم من بدل النظر إلى المستقبل إلى الولوغ في الحاضر وتعقيداته!
إن هذه القصة تلخص في نظر صاحبنا إشكالية بعض الحركات الإسلامية حتى لا نقول كلها نظرا لان البعض الآخر أفلح في التخلص من سيارته المعطّبة أو اهتدى إلى وسيلة أكثر جدوى وفاعلية، تلخص هذه القصة إشكالية المراوحة بين التجدّد والتبدّد.
وبغض النظر عن صوابية هذا التفكير من عدمه ومدى تطابقه مع سائر الأوضاع التي تشهدها حركات إسلامية أو غير إسلامية شتى أو اختزاله لإشكالية الإصلاح والتغيير في أدوات العمل فقط دون النظر إلى سائر العوامل الموضوعية الأخرى المعيقة، بغض النظر عن كل ذلك فان هذه القصة الطريفة تنطبق لا محالة عل كثير من الأوضاع والحالات التي تحولت فيها وسائل العمل وأشكال الحركة إلى مثبطات وعوامل مزيد من الإرْباك والتكلّس بحكم ما أصاب بعض القائمين على تلك المشاريع التي انطلقت في البداية بجدية نحو الإصلاح من إصرار على إعادة إنتاج الماضي والتشبث بالهياكل والوسائل على حساب الابتكار والتجديد والتفكير في صناعة المستقبل!
إن المتأمل في الساحة الإسلامية الواسعة يلحظ هذه المفارقة الصارخة بين إرادة الإصلاح والوصول إلى الأهداف عبر المشاريع الجادة لدى الكثير من الحركات والتجارب، وبين التشبث بالوسائل وأنماط التفكير التي فشلت في زحزحة الأوضاع قيد أنملة وعادت بالمشروع الإسلامي الإصلاحي في جوهره خطوات كبيرة الى الوراء!فقد انتهت كثير من تلك الحالات إلى التبدّد والاندثار لأنها لم تفهم التحولات ولم تقدر على ولوج عالم التجدد والابتكار، بينما نجحت تجارب قليلة أخرى في التجدد ومواكبة التطورات والتكيف مع المستجدات برغم قساوتها وابتكار وسائل تنقل وسفر اخرى لا تمت أحيانا بأي صلة إلى عالم السيارات المعطّلة!
إننا بحاجة ماسة إلى زلزلة عقولنا للتخلص من أنماط التفكير التقليدية التي لم تفلح لا في بلوغ الأهداف ولا حتى في الحفاظ على السيارة وأصحابها!
محمد النوري/باريس – 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *