لقد تطوّر النزاع في ليبيا، خاصّة خلال السَّنَة الأخيرة، من نزاع سياسي ليبي ليبي إلى حرب دوليّة متعدّدة الأطراف تشارك فيها بصفة مباشرة عدّة قوى دوليّة ومحاور، من دول المنطقة المتوسّطيّة ومن خارجها، للبعض مصالح تقليديّة في البلد المعني، أخرى تسعي لمدّ نفوذها في المنطقة وتلك تسعى للتصدّي للأولى حفاظا على مناطق نفوذها التقليديّة ومصالحها في المتوسّط، كلّ ذلك ضمن تحالفات متغيّرة، خارج تلك المعهودة. في اعتقادي، وكما حصل سابقا ولازال في العديد من المناطق، خاصّة العربيّة منها، كلّ تلك الصراعات الدوليّة الدائرة رحاها بليبيا الشقيقة، لا تخدم مصالح الشعب الليبي ولا حتّى تأخذها بعين الاعتبار، فليبيا في هاته الحرب، أصبحت حَلَبَة لتصفية الحسابات بين القوى الدوليّة وعلى رأسها، الولايات المتّحدة الأمريكيّة، روسيا، تركيا، فرنسا، إيطاليا، مصر، الإمارات العربيّة المتّحدة، قطر، السعوديّة وغيرها كثير.
وبِحُكْم الجغرافيا، تجد تونس نفسها مَعْنِيّة بدرجة أولى بهذا النّزاع المسلّح. وأمام موقف رسمي تونسي متذبذب وغامض، لم تتوانى بعض الجهات التونسيّة، منذ سنوات، أخذ مواقف مساندة لإحدى الجهات اللّيبيّة المتنازعة وبالضرورة ضدّ الشقّ اللّيبي الثّاني، وهو بطبيعة الحال ما يزيد في غموض موقف السّياسة الخارجيّة الرسميّة والحدّ من قدرتها على لَعِبِ دور وسيط سياسي ذا مصداقيّة، فعّال يحفظ مصالح البلاد والمنطقة.
الآن وقد احتدّ النّزاع وتأكّد تدخّل القوى العظمى بصفة مباشرة فيه، أصبح ولا بدّ لتونس من اتّخاذ موقف واضح يضمن أمنها ومصالحها. في اعتقادي، أصبح من الضروري في هاته المرحلة، إعلان تونس حيادها الرسمي تجاه النّزاع المسلّح الليبي الليبي، ذلك مع التأكيد على وقوفها، تونس، مع القرارات الأمميّة أي ضدّ كلّ أشكال التدخّل العسكري الأجنبي في ليبيا ومع إلزام الجميع بإيقاف تزويد مختلف الأطراف الليبيّة بالأسلحة، عملا بقرار حظر تصدير الأسلحة لليبيا السَّارِيَ المفعول. هذا الإجراء، الحياد تجاه النّزاع المسلّح اللّيبي، يبقى في رأيي، أفضل الخيارات لضمان أمن تونس ومصالحها وخاصّة تجنّب استدراجها لمستنقع صراعات محاور دوليّة، في الأصل، لا ناقة لتونس فيها ولا جَمَل.
ويرتكز هذا المقترح على الاعتبارات والأُسُسِ التاليّة:
1. أَصْلُ النّزاع في الجارة ليبيا هو خلاف سياسي ليبي ليبي وبتغْذِيَة من قوى دوليّة وإقليميّة، تطوّر إلى نزاع مسلّح دُوَلِي. ومبدئيّا، ليس هناك أيّ داعٍ أو مبرّر للاصطفاف إلى جانب طرف ليبي دون آخر، إذ طبقا لسياسة تونس الخارجيّة الرّسمية، الليبيّون أدرى بشؤونهم ولا يسَعُ تونس إلاّ مساندة الشعب الليبي الشقيق فيما يراه ويرضى به لنفسه من خيارات. وما الاصطفاف لجانب أحد الأطراف الليبيّة المتنازعة إلاّ تدخّلٌ في الشؤون الداخليّة الليبيّة وهو ما يتنافى ومبادئ السياسة الخارجيّة التونسيّة التقليديّة والتي لازالت معتمدة وتحظى بدعم أغلبيّة واسعة بين التونسيّين، سياسيّين ومواطنين وعلى كلّ، لم يصدر عن الدّولة التونسيّة ما يُفِيد التخلّي عن تلك السياسة واعتماد أخرى.
طبعا الحياد تجاه النّزاع المسلّح في ليبيا لا يُفقِد تونس شيئا من دورها في المجال السياسي كوسيط نشط لتقريب وجهات نظر الفرقاء الليبيّين بل بالعكس، الحياد يؤهّلها أكثر للعب ذلك الدّور ولدفع الفرقاء الليبيّين نحو حلّ سِلْمِي. فالحياد المقصود لا يعني السّلبيّة، بل بالعكس، المراد من ذلك هو عدم الاصطفاف لجانب أيّ شقّ من المتنازعين الليبيّين وبالتالي استعداء كلّ التحالف المقابل. ذلك، طبعا مع التمسّك بمبدإ إيقاف كلّ التدخّلات العسكريّة الأجنبيّة في ليبيا وسحب القوّات الأجنبيّة المقاتلة، نظاميّة أو مرتزقة أو غيرها، والحرص على تفعيل القرار الأممي لحظر توريد الأسلحة لليبيا الصادر منذ 2011.
2. يشارك في الحرب الدائرة رحاها بليبيا، العديد من الدّول، بعضها للدفاع عن مصالحها في ليبيا وفي المنطقة عامّة والبعض الآخر لمنع الأولى من السيطرة على المنطقة والتصدّي لمخطّطاتها في إطار الصّراعات القائمة بين مختلف المحاور الدّوليّة والقوى العظمى في حوض المتوسّط. ومن البديهي، ليس هناك أيّ داع ولا هو بإمكان تونس ولا هو في صالحها الدّخول في تلك الصراعات وفي “لعبة” المحاور. وهذا التمشّي ” الابتعاد عن سياسات المحاور” هو أيضا من ثوابت السياسة الخارجيّة التونسيّة، فهل نريد حقّا التراجع عنها؟ هكذا بدون أيّ مبرّرات واضحة تخدم مصلحة تونس؟
3. ستنجرّ عن الإصطفاف إلى جانب طرف ليبي دون آخر (هو أيضا ليبي)، مخلّفات وتداعيّات أمنيّة ذات بال، منها خاصّة “خَلْقُ” أعْدَاءَ جُدُدٍ لتونس، من بين لا الليبيّين فحسب بل وكذلك من بين القوى المتدخّلة في النزاع الليبي، رغم أنّه ليس لنا معهم في واقع الأمر ما يبرّر عداوتهم تلك، سوى اصطفافنا لجانب مَنْ يُعَاديهم من شِقَّي النّزاع، في حين أنّنا، ولمصلحة البلاد، في حاجة للتعامل والتعاون مع، باستثناء الكيان الصهيوني، كلّ دول العالم. وهذه أيضا إحدى ركائز السياسة الخارجيّة التونسيّة، فهل حان الوقت للتخلّي عنها في هذا الوقت بالذات لصالح سياسة جديدة؟ سياسة المحاور؟
4. اعتماد الحياد يقطع الطريق أمام طلبات دول، قد تجد تونس نفسها لجانبها بحكم مساندة نفس الطرف الليبي، أو قُوًى تدّعي لتونس “الصداقة” وتطلب “التعاون العسكري” معها في الحرب الليبيّة، بما يحمله ذلك “التّحالف” عمليّا من تداعيّات خطيرة على أمن تونس، أقلّها طلب تمكينها من تسهيلات، منحها قواعد عسكريّة، جوّية أو بحريّة، تسهيلات لوجستيكيّة لنشر قوّاتها على التراب الوطني وتمرير أسلحة عبره وغيرها من التسهيلات لمحاربة أحد الأطراف الليبيّة وبذلك إقحام تونس لا محال في حرب لم تقرّرها ولم تسْعَ إليها ولا هي تخدم مصالحها. في المقابل، يمكّن الحياد المعلن، تونس، من تفادي مثل تلك الطلبات وكلّ ما يمسّ من سلامة وأمن ترابها بل يساعد على المحافظة على استقلال القرار الوطني وعلى علاقاتنا الايجابيّة مع جلّ الدّول ودون استعداء أيّ منها بدون أيّ مبرّر.
5. في الداخل التونسي، ليس هناك إجماع وطني حول الجانب الليبي الذي من مصلحة تونس الإصطفاف لجانبه، بل بالعكس أصبحت المواقف التونسيّة المتناقضة حول النزاع الليبي أحد عوامل تفرقة وانقسام بين الأطراف والفاعلين السياسيّين. واصطفاف الدّولة لجانب أحد طرفي النّزاع الليبيّين، لن يزيد الأوساط التونسيّة السياسيّة والشعبيّة إلاّ انقسامات وتفرقة وقد يعصف بما تبقّي من وحدة وطنيّة، فهل من الحكمة والمصلحة المغامرة بذلك في حين يمثّل الحياد موقفا وسَطًا لكلّ الأطراف السياسيّة التونسيّة كفيلٌ بأن يَقِينَا شرَّ مزيد الانقسام؟ لتقدير انعكاس اصطفاف تونس الرسمي لجانب أحد طَرَفَيْ النّزاع الليبِيَّيْن، يكفي النّظر لما أثاره التصريح الأخير لمسؤول من القيادة الأمريكيّة الإفريقيّة (AFRICOM) حول التعاون العسكري مع تونس من لغط وتخوّفات وتأويلات في الأوساط التونسيّة.
6. يؤدّي الاصطفاف إلى جانب أحد الأطراف الليبيّة حَتْمًا، للتّحالف مع عدد من القوى الدّوليّة التي تُسْنِد بدورها نفس الطّرف اللّيبي ويُقْحِمُ، ذلك الاصطفاف، بلادنا إكراها ولا اختيارا في لُعْبَة التحالفات والمحاور التي، علاوة على كُلْفتها العاليّة، تؤدّي بالضرورة لفقدان القرار السيادي الوطني. التحالف بين قوّة عظمى ودولة ذات حجم وإمكانيّات وطموحات متواضعة، تفضي بالضّرورة لإملاء الحليف القوّي إرادته الكاملة على حليفه الضعيف والأمثلة في هذا المضمار، سواء من التاريخ القديم أو الحديث أو كذلك من الحاضر، لا تحصى. واللّبيبُ، مَنْ اعْتَبَر من غيره. بدون الدّخول في التفاصيل، لأسباب بديهيّة، في تقديري، تونس، حتّى وإِنْ رَغِبت في ذلك، موضوعيّا غير قادرة للدّخول في تحالفات مع الدّول العظمى ولا حتّى مع قوى إقليميّة. بكلّ بساطة، طموحاتنا، قدراتنا وأوضاعنا، في علاقة بالتحوّل الديمقراطي والحالة الاقتصاديّة الاجتماعيّة، زيادة عن تداعيّات وباء الكورونا، لا تسمح بذلك. والواقعيّة والحكمة تفرضان اعتماد سياسة تتماشى والإمكانيّات وعدم حَشْرِ النّفس في مشاريع ومحاور تفوق بكثير القدرات الذاتيّة، “أكبر من حجمه”.
7. بحكم الجغرافيا، يبقى جوار تونس لليبيا بمكوّناتها السياسيّة المختلفة، مُعْطًى ثابتًا ودائمًا، قدَرُنَا التعايش السِّلْمي مع الشّعب الليبي الشقيق حتّى لو اختلفَتْ خياراتُ كلٍّ منّا، وعداء بعضِهِ لاختلافنا معه اليوم، لا يخدم لا أمن ولا مصالح البلاد، لا حاضرا ولا مستقبلا. علاقات تونس مع الشعب الليبي تبقى، لأمن تونس ومصالحها الاقتصاديّة الاجتماعيّة، من ركائز سياستها الخارجيّة وتنسجم تماما مع سعيها لإرساء أفضل العلاقات مع سائر دول العالم.
8. اعتمدت السّياسة الخارجيّة التونسيّة منذ الاستقلال، على ثلاث مبادئ أساسيّة كلّها تتناقض مع الرأي الدّافع لاصطفاف تونس لجانب أحد طرفَيْ النّزاع الدّاخلي اللّيبي، وهي للتذكير:
– عدم التدخّل في الشؤون الدّاخليّة للدّول الأخرى،
– نبذ العنف والاحتكام للتّفاوض وللحلول السلميّة لحلّ النّزاعات،
– التمسّك بالشّرعيّة الدّوليّة.
صحيح وأنّ البعض في قضيّة الحال، يبرّر الموقف الدّافع للاصطفاف لجانب حكومة طرابلس، بالعمل بمبدإ “التمسّك بالشرعيّة الدّوليّة”. لا يسمح هذا المجال بالدّخول في جدال قد يطول للردّ على هذه النقطة، وهي فعلا قابلة للنقاش والتوضيح، لكن حتّى وإن استقامت تبريراتهم لتلك، في رأيي، موقفهم لا يصمد أمام بقيّة المؤاخذات السّابق ذكرها.
في الأخير، لا بدّ من التأكيد على عدم سلبيّة الحياد المنشود كما يزعم البعض، فهو حياد رسمي، ثابت، مُعْلَنٌ، يتمّ إبلاغه للعالم، إن اقتضى الأمر عبر منظمة الأمم المتّحدة، حتّى تُعامَلَ تونس في المحافل الدّوليّة وخاصّة من الدّول أطراف النّزاع، على ذلك الأساس، حِيَادٌ تُجاه الحرب. أمّا في الجانب السياسي، فعلى تونس لعب دورها الإيجابي كاملا، فمع التنديد بكلّ التّدخّلات العسكريّة الأجنبيّة في النّزاع الليبي، عليها المبادرة بالتنسيق مع الجارة الجزائر، ومساندة كلّ المساعي الرّامية لوقف الاقتتال وتقريب وجهات نظر الفرقاء الأشقّاء الليبيّين ومواقفهم، دفعهم للجلوس على طاولة المفاوضات للبحث عن حلّ سياسي سلمي ليبي ليبي.
ويبقى من المُؤَمَّل أن تشكّل مناقشة السياسة الخارجيّة التونسيّة تجاه الحرب الليبيّة اللّيبيّة، في مجلس نوّاب الشعب، فرصة لتقريب المفاهيم والرؤى ولبلورة رأيٍ عامٍ تونسي وموقف رسمي واضح يلتزم به الجميع وهو ما يعزّز الوحدة الوطنيّة ومؤسّسات الدّولة ويضمن في نفس الوقت أمن تونس واستقلالها.
طبعا، ذلك لن يحصل إلاّ إذا تمكّنت كلّ الأطراف السياسيّة، من تغليب مصلحة تونس على انتماءاتها الإيديولوجيّة وولاءاتها الخارجيّة.

– حفظ الله تونس –
أمير لواء (متقاعد) محمد المؤدب
– الجيش الوطني –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *