بقلم كمال بن يونس
رغم الملاحظات التي قدمت حول توقيت الكلمة الذي توجه بها رئيس الحكومة الياس الفخفاخ ليلة الأحد الى الشعب حول إجراءات متابعة مضاعفات ” وباء كورونا ” ، يمكن اعتبارها كلمة ناجح إلى حد كبير شكلا ومضمونا ..مع فتح باب مناقشة الاجراءات المعلنة من حيث نجاعتها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ..
وتتأكد القراءة النقدية لهذه الكلمة التي جاءت بعد تصريحات ” مثيرة ” صدرت عن رئيس منظمة رجال الاعمال سمير ماجول وأخرى مناقضة لها صدرت باسم قيادة اتحاد الشغل بزعامة نور الدين الطبوبي وسامي الطاهري..
خطاب واضح وتلقائي
لقد برز الفخفاخ في كلمته تلقائيا وواضحا خاطب في نفس الوقت عواطف الشعب وعقله ، وحاول أن يوفق بين الأطراف التي تضغط على سلطات الاشراف خدمة لمصالح منظوريها ، وبينها الأحزاب ومنظمات رجال الأعمال والاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات المجتمع المدني ومجموعات الضغط التي تمثل ” السوق الموازية ” أو ” السوق السوداء”..
وتردد أن الخطاب ” التوضيحي ” للقرارات التي أعلن عنها قبل يوم الجمعة الرئيس قيس سعيد تأجل بسبب عمق التناقضات بين مواقف الأطراف الاجتماعية والسياسية وتكليف وزير الشؤون الاجتماعية الحبيب الكشو وعدد من الوزراء ومستشاري رئيس الحكومة بالوساطة ..
التيار الديمقراطي الاشتراكي
وقد قدم رئيس الحكومة بالمناسبة ، لأول مرة منذ دخوله القصبة ، رؤية سياسية وثقافية ومجتمعية واضحة بخطاب غير معقد اعلاميا ، ولم يكتف باستعراض القرارات ذات الصبغة التقنية والظرفية ..
وهذا ايجابي ..
وحاول الياس الفخفاخ في كلمته أن يكون وفيا للتيار الديمقراطي الاجتماعي الذي ينتمي إليه حزبيا منذ 2011 مع عدد من أعضاء الحكومة الحالية والمستشارين في قصر القصبة ، والذين سبق لهم أن ناضلوا في ” الحزب الديمقراطي التقدمي ” بزعامة نجيب وعصام الشابي ( ثم في ” الحزب الجمهوري” ) أوفي ” التكتل الديمقراطي” ، بزعامة مصطفى بن جعفر وخليل الزاوية وعبد اللطيف عبيد ورفاقهم الأوفياء إلى ” الرؤية السياسية الاجتماعية ” لحزبهم السابق : حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري..
كما كرس وفاء للخط الاجتماعي الذي دافع عنه رئيس الدولة قيس سعيد الذي رشحه لرئاسة الحكومة ودعم تشكيلته التي تضم غالبية قريبة من ” الوسطيين ” ومن ” الديمقراطيين الاشتراكيين “..
تفويض من البرلمان
وحاول رئيس الحكومة في نفس الوقت أن يكون حازما عندما دعا البرلمان إلى أن يفوض له صلاحيات تسيير الدولة لمدة أسابيع عبر ” المراسيم “على غرار ما حصل في دول أخرى من بينها بلجيكيا.. حتى تكون الحكومة والإدارة في مستوى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة التي تستوجب تحركا عاجلا وعدم اضاعة مزيد من الوقت في التجاذبات السياسية داخل قبة البرلمان ..
هذا الطلب يبدو متأكدا إذا علمنا أن عشرات مشاريع القروض والقوانين والاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية مجمدة منذ أعوام بسبب ” بيرقراطية ” لجان البرلمان والخلافات بين رئيس ” لجنة المالية ” الذي ينتمي إلى المعارضة وزملائه الموالين للأحزاب الحاكمة ..
وقد سبق لوزراء وسياسيين بارزين أن طالبوا بمنح رئيس الحكومة مثل هذا التفويض منذ عهد الترويكا عامي 2012- 20131 .. وقدم الطلب مجددا من قبل حكومة يوسف الشاهد لما عطلت ” بعض الاطراف البرلمانية ” مشاريع اصلاحات مستعجلة من بينها قانون الصرف و قوانين الطوارئ الاقتصادية والاصلاحات الجبائية في اتجاه تخفيض نسبة الضرائب لتحسين موارد الدولة..الخ
نعم للتأجيل ..ولكن
طمأن خطاب رئيس الحكومة الياس الفخفاخ قطاعا كبيرا من التونسيات والتونسيين عبر ما أعلنه ممن إجراءات ظرفية لمواكبة مضاعفات “وباء كورونا”..أغلبها تهم “تأجيل تسديد ” فواتير الماء والكهرباء والقروض بالنسبة للأفراد والشركات ..إلى جانب تأجيل مواعيد تسديد الضرائب والاقتطاع لفائدة الصناديق الاجتماعية ..
وكل هذا ايجابي أيضا..في هذه المرحلة الانتقالية ..
لكن هل يمكن لمثل هذه الاجراءات أن تساهم في اخراج البلاد ومؤسسات الدولة من الأزمة الاقتصادية والمالية ومن سيناريوهات مزيد تعقيد الأوضاع ؟
هل يمكن أن ترضي سمير ماجول وهشام اللومي وحمادي الكعلي من جهة ونور الدين الطبوبي ورفاقه في اتحاد الشغل من جهة ثانية ؟
هل سوف تشفي عشرات الالاف من الصناعيين والتجار في اتحاد الصناعة والتجارة من جهة والطبقات الشعبيفة الفقيرة والوسطى من جهة أخرى ؟
حسب أكثر الخبراء الجواب للأسف سلبي..
لا وألف لا ..
إن التأجيل قد يخفف حدة الأزمة مؤقتا لكنه لن يؤدي إلى معالجتها ..
– ملايين العائلات سوف تكون مطالبة بتسديد فواتير الكهرباء والغاز والماء بعد أشهر ..بعد أن تتضخم.
– الاف الشركات سوف تضطر الى غلق أبوابها نهائيا بعد الغلق المؤقت لأنها تشكو منذ أعوام من تراكم ديونها القمرقية والجبائية ومن تضخمها ، وظروفها لن تسمح لها بتسديد تلك الديون بعد أشهر إذا لم يتوفر مناخ جديد للاستثمار والانتاج والتصدير والتشغيل ، وإذا لم تلغ ديونها القديمة نهائيا ..
– إن قرار إعادة جدولة المستحقات الاجتماعية والقمرقية والجبائية قد يفيد البعض مؤقتا لكنه لن يؤدي إلى اعادة خلق الثروة والاستثمار ..والمطلوب الغاء كل خدمات الدين وكل الديون والاكتفاء مثلا بمطالبة المؤسسات بتسديد 10 بالمائة منها مع تتبعهم في الاعوام القادمة ومحاسبتهم بحزم على مرابيحهم ..
وقد سبق لتونس ودول عديدة أن قامت بمبادرات جريئة في هذا الاتجاه وثبتت نجاعتها ..
وسبق لقانون العفو عن الديون القديمة لفائدة البلديات ، ( ” الزبلة والخروبة “) فبادرت ملايين العائلات بتسوية وضعيتها الجبائية معها مما وفر للبلديات دخلا كبيرا قدر بمئات الملايين من الدنانير.
فلتكن الخطوات القادمة أكثر شجاعة ..وعلى رأسها إقحام مئات آلاف ” المتهربين ” من الجباية والقمارق ومن التأمينات الاجتماعية في المنظومة عبر تقنين وضعيتها فورا ..وهو ما لن يتحقق إلا إذا طويت صفحة الماضي..
التدارك ممكن قبل فوات الأوان ..حتى تتوفر موارد لتحسين أوضاع الطبقات الوسطى والفقيرة وحتى يستبعد سيناريو غلق مزيد من الشركات و انتعاش التهريب و” السوق الموازية “..وحتى تتحسن نسب النمو الاقتصادي وطنيا و تتوفر فرص للتنمية الشاملة ولمكافحة البطالة ..

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *