مباشرة بعد صدور التقديرات الاولية لنتائج الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، التي تضع المترشح المستقل قيس سعيد في المقدمة متفوقا بنسبة تناهز 19%، متقدما عن الفائز الثاني بقرابة أربعة (4) نقاط كاملة، لم ينتظر أستاذ القانون الدستوري طويلا في مقر حملته المتواضع، ولم يدخل مثلما هي العادة في التخمّر والاحتفالات، وعاد الى منزله مؤكدا تسجيله بانشراح تقدمه في تقديرات مؤسسات سبر الآراء، مؤكدا أنّ الطرف الوحيد الذي يعلن النتائج هي الجهة الرسمية المتمثلة في هيئة الانتخابات.

في الوقت الذي انطلقت فيه منذ بداية ظهور مؤشرات النتائج، التسويات والمفاهمات والصفقات والبيع والشراء، لبيع “الخزانات الانتخابية”، غادر سعيد الى منزله مع زوجته، بعد أن وجّه رسائل الأمل خاصة للشباب الذي انتخبه بكثافة، وقبّل الراية الوطنية التي وعد بأن تظل خفاقة عالية في كل العالم، والتزم بنهج الثورة التي اعتبرها لن تنضب، وبمطالبها التي خرجت من حناجر من قاموا بها، وكانت عنوان برنامجه الانتخابي “الشعب يريد”.

لم يلتفت سعيد للاعلام الذي كان يلهث من أجل “سبق”، الاغلب انه من أجل تصيّد بعض الكلمات لاستعمالها للتشويه، فالقنوات الكبرى من “الحوار” الى “نسمة” مرورا بـ”التاسعة”، كانت كلها في حالة ذهول ولعلها للبعض خشيت من اعلان النكسة، فالكرونيكارات والمنشطين كانوا في حالة حزن الى حد الانهيار، من العماري الى بوغلاب الى القصوري وصولا لبن عكاشة، الذين عاشوا صدمة مربكة قبل الدخول على خط التشويه الهابط، باستدعاء كليشيات “الارتباط بحزب التحرير” و”الارتباط بهشام كنو” وحتى “الارتباط بالنهضة”، وعناوين عدم تبني “المساواة في الميراث” وغيرها التي وصلت الى حد ثلب مؤهلات الشباب الذي انتخب سعيد، ويبدو انهم (اي الاعلاميين) لم يستخلصوا الدرس، بأنّ وجوههم وخطاباتهم صارت مهترئة الى حد القرف، وانها لا تنتج الا عكس ما يروّجون له، وليس أبرز من دليل هو اتجاه الشعب نحو المترشح الذي شوهوه ورفض بلاطواتهم.

وهذا أوّل الرسائل التي وجهها الشعب في اتجاه الاعلام المحلي، الذي كان في اغلبه متخندقا وراء مترشحين واحزاب بعينها، ومثل منصات دعائية اشهارية لبعض الوجوه، فقيس سعيد الذي لم يعتمد على الاعلام وقاطع أهم قنواته واذاعاته، من التاسعة الى الحوار وصولا لموزاييك، اعتمد المقاربة الميدانية في تواصل مباشر مع الشعب، في الساحات والاسواق والمقاهي والشوارع، وتجنب المنصات الاشهارية واللافتات الالكترونية والحملات الموضّبة عبر مؤسسات الاشهار و”الكوم”، وكانت بالفعل الحملة الأقل كلفة ماليا ولوجستيا، في الوقت الذي فاقت فيه بعض الحملات المليارات، ولم تحز ما حققه سعيد، وهذا معطى لا يخلو من دلالات عميقة، يبرز أهمية المصداقية والنزاهة وصدق الخطاب في مواجهة الاعتبار الاعلامي من جهة والمالي من أخرى.

الاعتبار المالي والاعلامي الذي انبنى عليه ترشحات عدة وجوه ممثلة للسيستام، في التحام المالي والسياسي والاعلامي وايضا الاداري واللوبيات في دعم شخصيات بعينها، لتكون في خدمة هذه الاطراف سواء الداخلية او الدولية، هذه المنظومة التي تفقد ارصدتها وشرعيتها المتضآلة، ولم يبق لها الكثير من الارصدة بعد النتائج الاقتصادية والاجتماعية الضعيفة التي نزلت لها، وتصدر سعيد النتائج هو زعزعة لهذه المنظومة، وتحدي لماكيناتها الجبارة المعتمدة على المال والعتاد والرجال والنساء والكيانات الظاهرة والخفية، التي تجد نفسها مجبرة لو وصل استاذ القانون الدستوري لقرطاج، على القبول بشخصية من خارجها، وستكون على الاغلب في مواجهة مباشرة له، لان سعيد من الشخصيات المعتدة الصلبة التي يصعب احتواءها واستيعابها.

منظومة الحكم التي تقوم في اطار رأسمالية المحاسيب، على تداخل السياسي بالاداري والمالي والاعلامي، تنبني على المنظومة الحزبية، في اطار اليات اشتغال الزابونية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، واليوم اهتراء منظومة الزابونية داخل الادارة، يصعّب امكانيات استيعاب هذه المنظومة للداخلين الجدد فضلا عن امكانية المحافظة على القدامى، وصعود شخصية من خارج الاحزاب، هو بداية تفكك لها وانهيار في الزمن المنظور، في ظل محدودية البدائل والحلول في الخطاب والافكار والنتائج، وفي ظل تحولها الى عبء على الشعب والدولة، لا تبحث الا على مغانم افرادها واعضائها والامتيازات، وزادت عمليات السياحة البرلمانية الحزبية وشبهات البيع والشراء، في فقدانها الجزء الكبير من مشروعيتها المتآكلة أصلا.

حزب مثل النهضة عمره يناهز النصف قرن، تنزل قاعدته الانتخابية في ظرف سنوات فقط بين 2011 الى 2019، من مليون ونصف تقريبا الى قرابة 330 الف او في الحد الاقصى 380 الف، اي ما يناهز 75% كاملة، وهي نسبة بالفعل لا يمكن وصفها الا بالكارثية، في ظل أداء ضعيف في الحكم، وتخلي عن الثوابت والقيم المجتمعية المحافظة، والتباس في المواقف وعدم وضوح في الرؤية ومبدئية في القضايا الحساسة، ودخول على خط التسويات والصفقات والتوافقات الشخصية على حساب الشفافية والمبادىء، الامر الذي كان معه الانهيار في النتائج، الذي قد يزعزع استقرار وتوازن الحزب بشكل كبير، ويؤثر على التشريعية بشكل حاد، اذا ما اعتبرنا ان النسبة المتحصل عليها هي الاعلى بالنظر الى ان مورو يعتبر من اكثر الشخصيات اشعاعا داخل النهضة وخارجها.

والنهضة اليوم تسعى لانكار هزيمتها واحداث تشويش، لربح الوقت في اتجاه تهيئة قواعدها على تقبل الهزيمة المرة، وتقديم ذرائع مختلفة انطلقت مع تصريحات الغنوشي قبل يوم الاقتراع، بحديثة عن انسحابات في خصوص المرزوقي ومخلوف، ودخلول على خط تسويه سعيد باثارة غير اخلاقية لعلاقة لقيس سعيد مع حزب التحرير، وهي من قبيل التلهية لتصريف الصدمة، وجعل الاهتمام منكب على القضايا الجانبية، التي طالت التنازع مع القروي على المرتبة الثانية ولم يسلم من تبعاتها الجانبية الاستاذ سعيد.

قيس سعيد الرجل البسيط في وسائله، اعتمد أسلحة جبارة كانت الحاسمة في فوزه بالمرتبة الأولى، ولولاه لما فاقت نسبة المشاركة 45%، فقيس سعيد اذ منع عزوفا قويا كان منتظرا كما حصل في البلديات، توجه او بالاحرى استهوى نسبة هامة من المقاطعين فكانت حسب سيغما كونساي، نسبة المصوتين من المقاطعين في رئاسيات 2014 قرابة 33% من ناخبيه، اي ما يقارب 200 الف من جملة قرابة 600 الف، و13% من المسجلين الجدد، وربما بين هؤلاء نسبة 37% من المصوتين له التي كانت الاعلى من الشباب اقل من 25 سنة، وهذا ايضا فيه من الدلالات الكبيرة، بان ارباك السيستام جاء من خارجه بالاعتماد على الشريحة الشابة حديثة العهد في اغلبها بالانتخاب، التي كانت مصممة على احداث التغيير والقطع مع المنظومة المتداعية، من اجل تحقيق حقوقها في المشاركة في الشأن العام وايضا في التشغيل.

والتقدم اللافت لسعيد في النتيجة أعاد بالفعل الزخم والحس الثوري، بتشكل تيار وموجة شبابية بحماسة عالية، ولعل من آثارها هو تقدم بعض الوجوه الثورية بارقام محترمة، على غرار الصافي سعيد والمرايحي ومحمد عبو، وبعض الوجوه الاخرى، التي أكدت بتقدمها في النتائج باستعادة المشاعر والمطالب الثورية، في مقابل تقهقر رمز المنظومة السابقة موسي بعدما وضعتها الاستبيانات في المراتب المتقدمة لاشهر.

ولعل المحصلة التي جاءت بها الانتخابات عموما، هي الزلزال الكبير في المنظومة والتوازنات القائمة، وان ما بعد 15 سبتمبر سيكون ليس مثل قبله، والتداعيات ستكون عميقة وعلى اكثر من صعيد، داخل السيستام وداخل منظومة الاحزاب، ولكن ايضا داخل منظومة الديمقراطية التي اهترأت، بالمال الفاسد والزابونية والتزييف الاعلامي، ويبدو انها اليوم تستعيد جزء من عافيتها، بسقوط كل الركائز غير المشروعة التي تاسست عليها لسنوات، واليوم بروز مرشح ممثل للشق الثوري سيزيد في عودة السلطة للشعب الى حد كبير، بل ان الشعب هو الذي يستعيد ارادته وسلطته، بفرض معادلاته الجديدة على الجميع، وهو الشعار الذي رفعه سعيد تحت عنوان: “الشعب يريد” !!

فهل سيحوز سعيد في الجولة الثانية الاغلبية المطلقة، ويكون الرئيس الذي يتجاوز حواجز السيستام، ويرسّخ حالة الوعي المتنامية، مقابل وضعية الاستجداء والبؤس التي يلعب عليها المترشّح القروي، وقد يجد فيه السيستام الملجأ لانقاذ نفسه؟!
بقلم: شكري بن عيسى

(*) باحث في القانون وفي الفلسفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *