تسعى الجزائر في مرحلة ما بعد تنحي الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” لتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع روسيا والصين في ظل رغبة النخب العسكرية والسياسية الصاعدة في إنهاء نفوذ فرنسا بالدولة، والخروج من دوائر التبعية للسياسة الفرنسية التي ارتبطت بإرث الاستعمار وتغلغل الثقافة الفرانكفونية، ومن ثم أصبحت علاقات الشراكة مع موسكو وبكين مسارات بديلة تكفل للجزائر الحصول على واردات الأسلحة، وأيضًا الاستثمارات في إطار مشروع “الحزام والطريق” الصيني.

“حزب فرنسا”!

لم يسبق أن حظيت دولة في الجزائر بنفوذ مثل الذي حصلت عليه فرنسا في عهد الرئيس السابق “عبدالعزيز بوتفليقة”. حيث تمكنت من الاستحواذ على العديد من الامتيازات في مقابل تثبيت باريس لنفوذ “بوتفليقة” ودعمه في مواجهة معارضيه، حتى إن “بوتفليقة” بات يُطلَق عليه في الداخل الجزائري “الوكيل الحصري للمصالح الفرنسية”، وهو ما أدى إلى تصاعد التدخل الفرنسي في الشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الفرنسية، بل وصل الأمر إلى حدّ تدخل خبراء فرنسيين في وضع المقررات الدراسية.

لقد نجح الرئيس “بوتفليقة” في سحب الغطاء الفرنسي من خصومه، وبات هو الوكيل الحصري للمصالح الفرنسية في الجزائر، مقابل حصوله على دعم باريس طيلة فترة حكمه. ومنذ ذلك الحين شهد النفوذ الفرنسي في الجزائر نقلة نوعية في مختلف المجالات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. بل وصل الأمر إلى حدّ تدخل خبراء فرنسيين في وضع مناهج التربية والمقررات الدراسية. وفي هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن المنظمة الدولية للفرانكفونية في عام 2015، إلى أن عدد الجزائريين الذين يتحدثون الفرنسية يقدر بحوالي 11.2 مليون جزائري. وهو ما يكشف بوضوح حجم التأثير الفرنسي في المشهدين الثقافي والاجتماعي، الأمر الذي يسمح لها بالتأثير في العملية السياسية.

وتُمارس فرنسا نفوذها في الجزائر بواسطة كيان افتراضي يُعرف في الداخل الجزائري باسم “حزب فرنسا”، ويُقصد به المتعاونون مع فرنسا بشكل غير معلن في كافة مؤسسات الدولة. فعلى سبيل المثال، أشار الوزير الأول الجزائري الأسبق “عبدالحميد الإبراهيمي” في كتابه “في أصل المأساة الجزائرية.. شهادة عن حزب فرنسا الحاكم” إلى أن “فرنسا التي فشلت في مواجهة الثورة الجزائرية عسكريًّا، اهتدت إلى حلٍّ آخر وضعه شارل ديجول يقضي بالانتقال من فكرة الجزائر فرنسية إلى استعمار الجزائر عن طريق الجزائريين أنفسهم”، وعادةً ما تتعاون فرنسا مع بعض الكوادر الجزائرية الذين يحملون جنسية مزدوجة، والمتشبعين بالثقافة الفرنسية، والمنتشرين في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع (إدارة حكومية، قطاع اقتصادي، إعلام، وأخرى شديدة الحساسية). والسمة المشتركة بين عناصر اللوبي الفرنسي هي “القابلية للاستعمار” على حد تعبير المفكر الجزائري “مالك بن نبي” رحمه الله؛ حيث يعملون على مسايرة السياسات الفرنسية في الجزائر. الأمر الذي يمنح باريس قوة تأثير في عملية صنع السياسات واتخاذ القرار في الجزائر، لا سيما في الانتخابات الرئاسية.

تحذيرات جزائرية 

منذ فقدانها السيطرة على قيادة الجيش وملحقاته الأمنية، أدركت فرنسا أن نفوذها في الجزائر إلى زوال طال الزمن أم قصر، وهو ما جعلها تتحرك في كل الاتجاهات للحفاظ على نفوذها ومصالحها الاستراتيجية في الجزائر. ويبدو أن باريس تدرك أن استمرار نفوذها في الجزائر مرهون بمدى قدرتها على توثيق العلاقة مع قيادات الجيش.

وفي هذا الإطار، يُمكن الإشارة إلى أن أطراف الصراع في الجزائر في الوقت الحالي ينحصرون في: الجيش الوطني الشعبي بقيادة الفريق “أحمد قايد صالح”، والحراك الشعبي، وفرنسا ووكلائها في الداخل؛ حيث ينقسم اللوبي الفرنسي إلى مجموعتين: الأولى تمثل الدولة العميقة بمختلف أذرعها الأمنية، والسياسية والمالية، بالإضافة إلى مختلف واجهاتها السياسية (أحزاب سياسية) والإعلامية (صحف خاصة)، إلى جانب تنظيمات المجتمع المدني. والثانية تتمثل في منظومة حكم الرئيس السابق بمختلف رموزها.

ولقد نجحت القيادة الحالية للجيش الوطني الشعبي -حسب المعلن- في إنهاء الوصاية الفرنسية على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وما زالت عملية تطهير المؤسسات السياسية من عناصر اللوبي الفرنسي مستمرة حتى الآن، من خلال محاكمة رموز الفساد في هذا اللوبي، وتم سجن كبار المسئولين في الدولة بتهم تتعلق بالفساد وسوء استخدام المنصب وهدر المال العام.

ولم تكن هذه العملية ممكنة لولا وصول نخبة عسكرية إلى مراكز القرار في الجيش والمخابرات تعادي فرنسا وترفض وصايتها على الجزائر، وتمثل ثورة التحرير جوهر نسقها العقيدي. ولا شك أن فرنسا هي الخاسر الأكبر من التحولات التي تشهدها الجزائر، وما يزعجها في حقيقة الأمر هو إشراف القيادة العسكرية الحالية على إدارة مرحلة ما بعد “بوتفليقة”، فضلًا عن التلاحم بين الجيش والحراك الشعبي.

ويرى بعض المحللين أن بعض وكلاء فرنسا في الخارج يسعون إلى اتّباع استراتيجية “خلق الانسداد” من خلال الترويج لأطروحة الخروج عن الدستور والدعوة إلى مرحلة انتقالية، وكل ذلك بغية توريط الجيش في متاهة الفراغ الدستوري. وقد أكد رئيس أركان الجيش صحة هذه المعلومات في أحد خطاباته وقال: “تم التوصل إلى معلومات مؤكدة حول التخطيط الخبيث للوصول بالبلاد إلى حالة الانسداد، الذي تعود بوادره إلى سنة 2015، حيث تم كشف خيوط هذه المؤامرة وخلفياتها”. وأكد أن الجيش “يعمل على تطهير كافة القطاعات من الفاسدين..” و”إزالة الألغام” من مفاصل الدولة والمجتمع.

وفي خطابٍ لقائد الجيش، بتاريخ 30 مارس 2019، صرّح الفريق “أحمد قايد صالح” قائلًا: “مع استمرار المسيرات، سجلنا -للأسف- ظهور محاولات أطراف أجنبية، انطلاقًا من خلفياتها التاريخية مع بلادنا، دفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي وفرضهم كممثلين عن الشعب تحسبًا لقيادة المرحلة الانتقالية، وتنفيذ مخططاتهم الرامية إلى ضرب استقرار البلاد وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، من خلال رفع شعارات تعجيزية ترمي إلى الدفع بالبلاد إلى الفراغ الدستوري وهدم مؤسسات الدولة..”. كما ندد قائد الجيش بـ”التدخلات التي تحاول أن تفرضها دولة أجنبية على مسار الحل المرتقب تحقيقه في الجزائر خلال مرحلة ما بعد الحراك”. وحسب الفريق “أحمد قايد صالح” فإن هذه التدخلات تتمثل في محاولة إثارة الفوضى، وإحداث الصدام بين الجيش والحراك الشعبي، حيث صرّح قائلًا: “لقد نجحت الوحدات الأمنية، المكلفة بحفظ النظام، في إحباط عديد المحاولات الرامية إلى بث الرعب والفوضى وتعكير صفو الأجواء الهادئة والآمنة التي تطبع مسيرات المواطنين، وهو ما تأكد بتوقيف أشخاص بحوزتهم أسلحة نارية وأسلحة بيضاء وقنابل مسيلة للدموع وكمية كبيرة من المهلوسات وأجهزة اتصال”.

ويتضح من خطابات قائد الجيش أنه يشير ضمنًا إلى فرنسا، ويتهمها بالتورط في تهديد استقرار الجزائر بالاعتماد على اللوبي الفرنسي في منظومة الحكم السابقة أو في الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني.

كما تحدّث الفريق “أحمد قايد صالح” عن اجتماع سري عقده أشخاص معروفون، وأشار إلى مؤامرة تقودها أطراف خارجية ذات نوايا سيئة، تعمل على إعداد مخطط يهدف إلى تشويه صورة الجيش، والالتفاف على المطالب المشروعة للحراك الشعبي. وفي هذا الإطار، نشرت بعض وسائل الإعلام الجزائرية قائمة بأسماء الشخصيات المشاركة في الاجتماع المشبوه، ومنهم: شقيق الرئيس “سعيد بوتفليقة”، ومدير جهاز الاستخبارات السابق “محمد مدين”، ورئيس الجمهوية الأسبق “ليامين زروال”، واللواء “بشير طرطاق” مدير المخابرات السابق، بالإضافة إلى عناصر من المخابرات الفرنسية. وقد أكدت تقارير إعلامية جزائرية أخرى مشاركة أفراد من الخارجية الفرنسية في هذا الاجتماع، وهو ما نفته فرنسا.

صعود الدور الصيني-الروسي 

اتخذت السلطات الجزائرية منذ استقالة الرئيس السابق حزمة من القرارات في المجالين الاقتصادي والتجاري، ويندرج بعضها تحت الرغبة من الحد من النفوذ الجزائري في فرنسا، وتتمثل في الانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق”، والإعلان عن الرغبة في تنسيق السياسات مع بكين، والتحاور والتواصل بشكل منتظم حول الاستراتيجيات والمخططات والسياسات التنموية الهامة للطرفين، بالإضافة إلى مجالات ترابط المنشآت وتواصل الأعمال وتداول الأموال وتواصل الشعوب.

وتتزامن هذه الخطوة مع ارتفاع أصوات عديدة من الحراك الشعبي تطالب بإعادة النظر في العلاقات الجزائرية الفرنسية، والتحرر من الهيمنة الفرنسية، وإنهاء نظام الامتيازات الممنوح لفرنسا من قبل نظام حكم “بوتفليقة”.

كما يكشف هذا القرار عن رغبة الجزائر في تنويع شركائها الاقتصاديين، والأهم من كل ذلك، حرص الجزائر على ضمان مصالحها بعيدًا عن الهيمنة الفرنسية بعد عدم إيفاء باريس بتعهداتها في الاستثمار ونقل التكنولوجيا، بالرغم من كل التنازلات التي قدمها نظام حكم “بوتفليقة”.

من جانب آخر، ترتبط الجزائر باتفاقية شراكة استراتيجية مع روسيا تم توقيعها في موسكو عام 2001، وتعد أول زبون إفريقي لروسيا في مجال السلاح. وبلغ التعاون الجزائري-الروسي مستويات غير مسبوقة في المجالات العسكرية، والاقتصادية، والتجارة، والطاقة، كما تشير بعض التقارير الصحفية إلى احتمالية قيام الجزائر بشراء منظومة “إس-400″، وبرز الدور الروسي خلال احتجاجات الجزائر بشكل واضح، إذ حرصت موسكو على التواصل بانتظام مع النظام الجزائري، وأكد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” في مارس 2019 على رفض روسيا لأي تدخل خارجي في الشأن الجزائري.

ختامًا، يمكن القول إن هناك اتجاهًا صاعدًا في “جزائر ما بعد بوتفليقة” لتنويع الشراكات الاستراتيجية مع روسيا والصين، في ظل رغبة النخبة الصاعدة الجديدة في إنهاء نفوذ فرنسا.

 

 

المستقبل للأبحاث و الدراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *