فتح المكتب السياسي لحركة “النهضة” التونسية، بمناسبة الذكرى الـ 37 للإعلان عن تأسيس أول حزب سياسي مدني له مرجعيات إسلامية في حزيران (يونيو) 1981، ملف نصف قرن كامل من مسيرة نشطاء “الاتجاه الاسلامي” التونسي تراوحت بين خيارات القطيعة والصدام الثوري مع السلطات والمشاركة والتطبيع مع الواقع المحلي والنظام الدولي.

 

 
وفتح لأول مرة حوار علني حول ظاهرة “الصحوة الإسلامية” و”الاسلام الاحتجاجي” التونسي منذ بروز “جماعات الدعوة والصحوة الشبابية الدينية” أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات .

وقد تطورت هذه الظاهرة الدينية التونسية بسرعة إلى تيار شبابي ثقافي فكري سياسي نقابي وطني ثم إلى حراك ثوري في الجامعات والنقابات تأثر ببعض الحركات اليسارية والأحزاب الليبيرالية الوطنية التونسية والمغاربية ثم بحركات التحرر الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والثورة الإيرانية .

وأصبح هذا التيار الشبابي الثقافي السياسي لاحقا من أهم الأطراف المؤثرة في الجامعات والمعاهد الثانوية والمجتمع وفي الصراعات على السلطة في العقد الأخير من عهد الحبيب بورقيبة وفي عهد خلفه زين العابدين بن علي ثم بعد اندلاع الثورات العربية مطلع 2011.

ولعل السؤال الكبير اليوم هو: هل سيساهم إحياء الذكرى الـ40 لتأسيس “حركة الاتجاه الإسلامي” والثلاثين لتأسيس حركة “النهضة” في مراجعات فكرية سياسية ومسار نقد ذاتي جريء لاستيعاب خصوصيات تجارب قوى “الإسلام الاحتجاجي” التونسية والمغاربية التي يعلن زعماؤها اليوم اختلافهم مع مجموعات “الإسلام السياسي” المشرقية، وانخراطهم فيما يسمونه تيار “الإسلام الديمقراطي” المتصالح مع المرجعيات المدنية والحقوقية الدولية ودستور البلاد ومع تراث تيارات التنوير والنهضة والإصلاح المغاربية والمحلية منذ ثلاثة قرون؟

خلافات علماء الاجتماع والخبراء

وقد اختلف علماء الاجتماع والمؤرخون والاعلاميون في تصنيف تجربتي حركة “الاتجاه الإسلامي” و”النهضة” التونسية وتأثيراتها في المنطقتين المغاربية والعربية وفي الجالية المسلمة في أوروبا .

وكشفت كثير من الدراسات والأبحاث في هذا المجال تباينا بين من وصف “الاتجاه الإسلامي التونسي” قبل الإطاحة ببورقيبة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 ثم “النهضة” بعد 1988 حراكا احتجاجيا سياسيا ثوريا إيجابيا وناجعا بررته إخفاقات السلطات التونسية والنظام العربي.

في المقابل اعتبرت تقييمات خصوم “النهضة” من داخل أحزاب السلطة وفصائل من اليسار الطلابي والنقابي الحركات الشبابية الإسلامية “ورقة” وظفتها مجموعات مصالح وأطراف سياسية محلية وأخرى استعمارية إقليمية ودولية لإضعاف “القوى التقدمية” والمعارضة اليسارية والليبيرالية المدنية ثم لتبرير سياسات القمع والاعتراض على مطالبات الحقوقيين والمعارضين العلمانيين بالتعددية والإصلاح والتغيير..

“شكلانية دينية” وقمع

في نفس الوقت برزت قراءات متباينة لظاهرة “الإسلام الاحتجاجي” مثلما سماها عالم الاجتماع عبد الباقي الهرماسي قبل 50 عاما بعد أعوام قليلة من كتاباته عن “نهاية المقدس” و”انتهاء تأثير الدين في المجتمع التونسي”..

 

ولئن عدل بعض الباحثين مثل عبد الباقي الهرماسي مبكرا دراستهم للظاهرة الشبابية الإسلامية، فإن التيار السائد داخل النخب العلمانية الحاكمة والمعارضة ظل يقلل من دلالاتها. وقد اعتبرها بعضهم مثل عالم الاجتماع والمفكر عبد الوهاب بوحديبة “شكلانية دينية”.

وقد وظفت مثل هذه التقييمات لاحقا في قمع النشطاء الإسلاميين التونسيين في عهد بورقيبة ومطلع عهد بن علي رغم انتماء عبد الوهاب بوحديبة وبعض تلامذته إلى الجيل المؤسس للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وللتيار الليبيرالي التعددي التونسي وللدراسات الجامعية المعمقة عن الفكر الإسلامي وسوسيولوجيا السياسة والمجتمع والمقدسات في تونس والدول والمغاربية والعربية.

مؤامرة ومرتزقة؟

وقد اعتبر بعض الإعلاميين والمثقفين والجامعيين التونسيين في الربع الأخير من القرن الماضي الحراك الشبابي الإسلامي جزءا من مؤامرة داخلية ودولية تستهدف المكاسب التقدمية للمجتمع التونسي والدولة التحديثية .

وقد حذر عالم الاجتماع عبد القادر الزغل في كتاباته مبكرا من خطر “عودة التدين في تونس الحديثة والعلمانية” ووصف شباب الحركات الإسلامية بـ”الانكشارية الإسلامية” وشبههم بفئة من المجندين المرتزقة في العهد العثماني …

لكن باحثين كبار آخرين اعتبروا الحراك الشبابي الإسلامي “ظاهرة معقدة وفسيفسائية متعددة الأبعاد والروافد” مثلما أورد المفكر احميدة النيفر والكاتب صلاح الدين الجورشي والإعلامي زياد كريشان والحقوقي محمد القوماني والصحفي عبد العزيز التميمي ورفاقهم مؤسسوا “التيار الإسلامي المستقبلي” و”مجلة 15*21″ ثم منتدى الجاحظ وتيارا “الإسلاميين التقدميين” و”الإسلاميين المستقلين” مطلع الثمانينيات من القرن الماضي .

 

وكان احميدة النيفر أحد المنسقين الثلاثة لدراسة “الحالة الدينية 2011 ـ 2015” التي أصدرتها مؤسسة مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث في 4 مجلدات ضخمة وضمنتها دراسات وشهادات لعشرات من كبار الباحثين والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع والتاريخ والدراسات الحضارية بينهم عبد اللطيف الهرماسي ومنير السعيداني ونادر الحمامي وعبد المجيد الشرفي وعبد الحق الزموري وأسماء نويرة وفوزي البدوي وعلي اللافي وعلي الزيدي وحفيضة شقير والهادي يحمد ويوسف الصديق وراضية العوني.

التطبيع مع الغرب ومع الدولة التونسية

راشد الغنوشي رئيس حركة “النهضة” وعلي العريض رئيس الحكومة السابق ونائب رئيس الحركة حاليا وعدد من رموز تيارها الشبابي منذ نحو 40 عاما مثل العجمي الوريمي ورضا إدريس وعبد الرؤوف النجار يعتقدون أن من بين نقاط القوة في حركتهم نجاحها في استيعاب مناضلين من أجيال وتوجهات مختلفة وتحقيق المصالحة مع الهوية التونسية.

 

واعتبر العريض أن الحركة قامت بنقد ذاتي جريء وشامل على الأقل مرة كل 10 أعوام بما أهلها لتنفتح تدريجيا على كامل المجتمع التونسي وعلى قيم الحداثة الغربية والعالمية ثم للتصالح مع الدولة التونسية ومع العواصم الغربية بما في ذلك باريس عاصمة اللائكية المعادية للدين في القرن الماضي.

وتحدث الغنوشي وأعضاء الوفد المرافق له في جولاته مؤخرا في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا عن “تطبيع رسمي” لعلاقت حركة “النهضة” مع العواصم الغربية التي انحازت ضدها سابقا بسبب الخلط بين مرجعياتها الفكرية السياسية ومسارات بعض الحركات والتنظيمات المشرقية المحسوبة على الجماعات “الجهادية المتطرفة” و”المليشيات الإسلامية المسلحة” و”الجماعات المقاتلة” وحركات “الإسلام السياسي” العنيفة .

ونوه الغنوشي بخيار التوافق بين قيادة حركة “النهضة” وقيادات الحزب الحاكم منذ 5 أعوام بزعامة الرئيس الباجي قائد السبسي ثم رئيس الحكومة يوسف الشاهد بالمصالحة النهائية بين الحركة والدولة .

 

واستدل الغنوشي باستضافته لإلقاء كلمة في مؤتمرحزب “النداء” في 2015 في مدينة سوسة السياحية، ثم مشاركة رئيس الدولة في الجلسة الافتتاحية في المؤتمر العاشر لحركة “النهضة” في 2016 ودفاعه عن خيار التوافق السياسي مع “الإسلام الديمقراطي” بحضور سفراء العواصم الغربية والعالمية وعدد كبير من رموز الدولة والحزب الحاكم في عهد بورقيبة وبن علي مثل الهادي البكوش وعبد الرحيم الزواري ومحمد الغرياني وكمال مرجان وكمال الحاج ساسي …

الأوفياء لخط ثورة 2011

لكن هذه المواقف المناصرة للتوافق لا يمكن أن تحجب الاختلافات العميقة والمتصاعدة داخل النخب التونسية العلمانية وفي صفوف الإسلاميين عموما والنهضويين خاصة، فيما يتعلق بعدة ملفات من بينها الوفاء لشعارات ثورة 2011 وتقييم حصيلة الحكومات المتعاقبة خلال الأعوام الثمانية الماضية والتي شهدت تجارب عديدة للتوافق والتنازلات المتبادلة بين العلمانيين والإسلاميين داخل البرلمان والسلطة التنفيذية .

وفي الوقت الذي يحمل فيه غالبية رموز الأحزاب العلمانية واليسارية قيادات حركة النهضة مسؤولية الاخفاقات بعد ثورة 2011 تتعالي أصوات من داخل التيار الإسلامي عموما وحركة “النهضة” خاصة لانتقاد ما يصفونه بتحالف قيادتهم مع رموز النظام القديم والدولة العميقة .

ويتصدر تيار”المعارضين” قياديون حافظوا على عضوية القيادة الموسعة للحركة، بينهم الوزير السابق والأمين العام سابقا لاتحاد الطلبة عبد اللطيف المكي ونائب رئيس الحركة سابقا عبد الحميد الجلاصي والوزير السابق والمستشار السياسي لرئاسة الحركة لطفي زيتون ..

وتوسع تيار “الغاضبين” ليشمل قيادات تاريخية انسحبت من الحركة وأخرى حافظت على علاقات مميزة بها مثل الوزير السابق الحقوقي والمحامي سمير ديلو ورئيس الحكومة في 2012 ومطلع 2013 والأمين العام السابق حمادي الجبالي الذي أعلن الترشح للرئاسة بصفة مستقل ورفض عروضا كثيرة بالعودة إلى الحركة وتحمل مسؤولية عليا فيها مجددا ..

في هذا المناخ العام يتساءل المراقبون الذين يراهنون على “الدور التعديلي” لتجربة حركة “النهضة” داخل تونس وخاصة في محيطها الاقليمي المغاربي والعربي إن كان الاحتفال بذكرى التأسيس سيمكن رموز الاجيال الثلاثة “للاتجاه الإسلامي” التونسي من الانفتاح أكثر على المجتمع وعلى النخب الإسلامية وعلى كل رموز تيار الهوية والاصلاح والتجديد الفكري والثقافي.. بما سوف يساعدها على مزيد ترشيد المسار السياسي فكرا وممارسة وعلى تحقيق نتائج مقبولة في انتخابات موفى العام الجاري.

الإجابة عن كل هذه الأسئلة ستحدد إن كان قادة “النهضة” وكوادرها قادرين فعلا على المصالحة الداخلية الواسعة وعلى استرجاع ثقة غالبية ناخبيهم في 2011.. بعد أن تراجع عددهم في انتخابات 2014 ثم في الانتخابات البلدية في 2018.. بما كشف أن “السياسة تحرق”..

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *