كانت قرابة خمسة أشهر متواصلة من الاحتجاجات التي انطلقت في ديسمبر/كانون الأول الماضي وأدّت في النهاية إلى إطاحة الجيش السوداني برئيس البلاد “عمر البشير” من منصبه. فترةٌ كانت كافية لجعل مشاهد الاحتجاجات والتظاهرات في الشوارع طقسا تقليديا من طقوس الحياة اليومية للسودانيين، وجعلت أخبارها مكررة ومألوفة لمسامع المتابعين للأحوال السودانية، لكن ما لم يكن مألوفا أو عاديا أو مكررا هو موقع تلك الاحتجاجات الرمزية التي وقعت منذ أسبوعين فقط، في الخامس والعشرين من أبريل/نيسان المنصرم، في شارع الجمهورية وتحديدا أمام مقر السفارة المصرية في العاصمة الخرطوم.

   

فبخلاف سائر الاحتجاجات السودانية المستمرة التي تركزت مطالبها على الإطاحة بشركاء نظام البشير وتسليم السلطة لحكومة مدنية، كانت احتجاجات السفارة المصرية أحد فصول دفعة خاصة من الاحتجاجات التي استهدفت من يراهم السودانيون اليوم العائق الرئيس أمام مطالبهم في انتقال سياسي ديمقراطي وسلس، ومن يرونهم داعمين رئيسين للاستيلاء العسكري على السلطة، وهم في نظر الثوار السودانيين تحالف ثلاثي يشمل الدول الثلاث التي يعرفها العالم الآن على أن أنظمتها هي الأكثر عداء للحراك الجماهيري العربي بجميع أشكاله وتنوعاته: المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، تحالف يرى السودانيون أنه يرغب الآن في هندسة المشهد السياسي للبلاد بشكل يخدم مصالحه، وذلك عبر تقليل مكاسب الحركة الشعبية الجماهيرية إلى الحد الأدنى، وفي الوقت نفسه تعظيم مكاسب الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات البيروقراطية التقليدية في الدولة السودانية.

في ضوء ذلك، كانت هتافات(1) المحتجين السودانيين خارج السفارة المصرية في الخرطوم واضحة ومركزة نحو هدفها بشكل كبير مثل: “قول للسيسي دا السودان.. وأنت حدودك بس أسوان”، وهو هتاف لا يبدو أنه يُعبّر فقط عن رفض سياسات الرئيس المصري الحالي “عبد الفتاح السيسي”، من يرى السودانيون أنه يستغل موقعه في قيادة الاتحاد الأفريقي لشراء المزيد من الوقت للسلطة العسكرية وعرقلة الانتقال السياسي في بلادهم، ولكنه يُعبّر عن حالة أوسع من الرفض لجميع أشكال التدخل الخارجي الإقليمي والدولي التي تهدف إلى إدارة الانتقال السياسي في الدولة التي تعد أحد مفاتيح أفريقيا الأهم، ومن ثم تقليل المكاسب السياسية للحراك الجماهيري السوداني.

   

غير أن مراسم الغضب الاحتجاجي لم تقف عند حدود الهتافات على ما يبدو، حيث أقدم المتظاهرون أمام السفارة المصرية على خطوة جريئة وغير تقليدية بإرسال مذكرة رمزية للسفير المصري طالبوا فيها السيسي بوقف التدخل في الشؤون السودانية، وهي رسالة تبدو مطابقة تماما للرسالة التي تلقاها(2) حلفاء الثورات المضادة الآخرون في السعودية والإمارات عبر الهتافات واللافتات المنددة ورفض المساعدات المغموسة بالأهداف السياسية، رفض تجلّى مع قيام المعتصمين أمام مقر الجيش بطرد شاحنة مساعدات إماراتية وإجبارها على الخروج من مقر الاعتصام في وقت سابق من الشهر الماضي أيضا.

     

كانت الترويكا “السعودية المصرية الإماراتية” قد حسمت مواقفها(3) على ما يبدو وأعلنت وقوفها خلف المجلس العسكري الانتقالي منذ ثلاثة أسابيع، وسخّرت نفوذها السياسي والمالي لتوجيه دفّة الانتقال السياسي في السودان، حيث تعهدت الرياض وأبوظبي بتقديم حزم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار، منها 500 مليون دولار في صورة وديعة مباشرة لدى البنك المركزي السوداني لإيقاف التدهور في قيمة العملة، وهو دعم سخي رد عليه “عبد الفتاح البرهان”، رئيس المجلس العسكري، بالإشادة بالدعم المصري السعودي الإماراتي لبلاده، واصفا المملكة تحديدا بأنها “أفضل أصدقاء السودان في الوقت الراهن” حد تعبيره.

     

تسلط هذه المفارقة الواضحة بين الموقف المتشكك للمتظاهرين والثوار السودانيين تجاه ثلاثي الثورات المضادة، وبين موقف السلطة العسكرية الحاكمة حاليا للبلاد، تسلط الضوء على إحدى أكبر معضلات الانتقال السياسي هناك، ففي حين كانت الثورة السودانية بالأساس احتجاجا داخليا سودانيا ضد الفساد والاستبداد والقمع الذي مارسه نظام البشير على مدار 30 عاما، فإن مصير السودان اليوم لا يبدو أنه يقع في أيدي السودانيين وحدهم، من وجدوا أنفسهم فجأة طرفا في لعبة ضخمة حول السلطة والنفوذ بين مجموعة واسعة من القوى الإقليمية والدولية، وهي لعبة تدور رحاها في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي منطقة القرن الأفريقي بشكل خاص، وتضافرت معها العديد من العوامل لتجعل السودان إحدى أبرز ساحاتها، بداية من الجغرافيا المميزة على البحر الأحمر، ومرورا بالهشاشة الاقتصادية والسياسية التي جعلت السودان دوما غير قادر على الاعتماد على نفسه بمعزل عن الرعاة الأجانب، وليس انتهاء بـ30 عاما من حكم عمر البشير الذي كان يبدل حلفاءه وأعداءه أسرع مما يبدل أحذيته، ضمن مقامرته الكبرى التي صممها من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، والتي يبدو أن المجلس العسكري الحالي سيسير على بعض خُطاها.

   

الطريق إلى الخرطوم

تنبع القيمة الإستراتيجية للسودان من سِمتين جغرافيتين، أولاهما سواحله الممتدة على البحر الأحمر، وثانيهما نهر النيل الذي يشق قلب البلاد مانحا إياها المياه الوفيرة ومساحات شاسعة من الأراضي الأكثر خصوبة، وفي حين أن هذه المزايا الطبيعية لم تكن كافية لجعل السودان محطة بارزة للتنافس بين القوى العالمية التي غالبا ما كانت تخشى من التورط في الصراعات العرقية طويلة الأمد في البلاد، فإنها كانت مغرية بشدة للقوى الإقليمية التي توافدت إلى السودان في السنوات الأخيرة بحثا عن الفرص الكامنة في واحد من أفقر بلدان أفريقيا.

  

منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت دول الخليج وبخاصة السعودية والإمارات وقطر في مقدمة(4) القوى الطامحة لاكتساب موطئ قدم في السودان، فرغم انتعاش الخزائن المالية لهذه الدول بفعل عائدات النفط والهيدروكربونات، فقد ظلّت تحمل هواجس كبرى بسبب فقرها المائي وقلة الأراضي الزراعية اللازمة لسد الاحتياجات الداخلية من الغذاء، لذا فإن هذه الدول سارعت مبكرا للاستثمار في القطاع الزراعي السوداني.

   

لكن العلاقات التي قامت بداية على رغبة طويلة الأمد في ضمان الأمن الغذائي؛ سرعان ما اكتسبت أبعادا جيوسياسية مع قدوم “عمر البشير” إلى السلطة أواخر الثمانينيات عبر انقلاب عسكري، واحتضانه الخطابي للتوجه الإسلامي الثوري الذي وضعه بشكل تلقائي ضمن قائمة حلفاء نظام الثورة الإسلامية في طهران، تحالف سرعان ما تمخض عن توقيع اتفاقية دفاعية بين البلدين، ما منح إيران موطئ قدم جديدا على الحدود البحرية للسعودية، وفي الوقت نفسه منح طهران الفرصة للاستفادة من السودان كباحة خلفية لطموحاتها الإقليمية، حيث شرعت في بناء مصانع للأسلحة وفتح خطوط إمداد لتزويد حلفائها ووكلائها خاصة حزب الله في لبنان.

  

بعد ذلك، منحت تغيرات السياسة(5) في الأعوام الأخيرة فرصا أكبر في السودان لأكبر منافسي إيران من دول الخليج العربية، فمع استقلال جنوب السودان عام 2011 بعد حرب أهلية طويلة، ورث الجنوب معظم احتياطات النفط المشتركة سابقا ما تسبب في تقلص عائدات السودان بشكل كبير، ومع قيام الحرب الأهلية في جنوب السودان لاحقا، وتناقص العائدات التي يحصل عليها السودان مقابل شحن النفط الجنوبي عبر موانئه، أُجبر النظام السوداني على البحث ليس فقط عن مورِّدين بدلاء للنفط، ولكن عن مصادر مختلفة للدخل والسيولة المالية في ظل الأزمة الاقتصادية المُلِحَّة.

  

كانت تلك فرصة(6) لا تُقدّر بثمن للرياض التي تمتلك قدرة على ضخ المال الذي يحتاج إليه السودان بشدة وبكمٍّ لا تستطيع إيران أن تجاريه، لذا كان 11 مليار دولار من التعهدات باستثمارات السعودية كافية تماما لدفع نظام البشير لتغيير وجهته للضفة العربية من الخليج، وفي المقابل فإن اهتمامات السعودية، وحليفتها الإمارات في السودان، لم تعد تقتصر على الأمن الغذائي، فمع دخول البلدين إلى الحرب في اليمن مطلع عام 2015، كان الحصول على جحافل من المقاتلين منخفضي التكلفة من السودانيين الفقراء إغراء لا يمكن مقاومته، ويبدو أن الصفقة الضمنية عملت بشكل جيد، ففي مقابل الأموال والاستثمارات الخليجية، قطع السودان علاقاته مع إيران، وقدم 14 ألف مقاتل من الجيش والميليشيات تصدروا الصفوف الأمامية لمعارك التحالف السعودي في اليمن.

  

بخلاف ذلك، كانت السعودية والإمارات قد نجحتا(7) فيما يبدو في إقناع نظام البشير أن بإمكانهما إقناع واشنطن بتخفيف العقوبات على السودان ورفع البلاد من على قوائم الإرهاب؛ حال قبلت الخرطوم التخلي عن طهران والتحالف مع الرياض وقبول التعاون مع أميركا في مجال “مكافحة الإرهاب”، وهو ما تحقق جزئيا بإعلان واشنطن مطلع عام 2017 رفع بعض العقوبات عن السودان في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما قبل تسلم ترامب رسميا للسلطة، قبل أن تزيل إدارة الأخير لاحقا السودان من لائحة الدول المدرجة في قائمة حظر السفر الأميركي، مُشيدةً بتعاون الخرطوم في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية.

   

غير أن حلفاء الخليج الجدد لم يكونوا على قدر توقعات البشير على طول الخط، فبخلاف فشلهم في إقناع واشنطن برفع السودان من قوائم “الإرهاب” الأميركية والبدء في تسوية خلافات البشير مع المحكمة الجنائية الدولية، لم تضخ صنابير المساعدات السعودية المال للسودان بالقدر الذي وعدت به في البداية، حيث تخلفت الرياض عن مواعيد العديد من الاستثمارات والحِزم المالية للسودان، وهو ما دفع البشير لاستغلال أزمة مجلس التعاون الخليجي منتصف عام 2017 من أجل المناورة ضد الرياض والتودد إلى خصومها في قطر، رافضا الضغوط السعودية الإماراتية بقطع العلاقات مع الدوحة. 

   

كانت مناورة السودان برفض الانحياز في أزمة مجلس التعاون الخليجي على ما يبدو مدفوعة بتناقص ثقة البشير في وعود الرياض وتيقُّنه بصعوبة الاستغناء عن الاستثمارات القطرية، والتي رغم أن حجمها لا يضاهي حجم نظيرتها السعودية، فإنها لا تزال ضرورية للحفاظ على اقتصاد السودان الهش في الوقت الذي ظهرت فيه الدوحة أكثر التزاما بوعودها المالية. وفي الواقع يمكن القول إن البشير نجح لفترة طويلة في استغلال أزمة الخليج عبر الاستفادة من الكتلتين، حيث نجح خلال العام الماضي 2018 على سبيل المثال في تلقي استثمارات كبرى من كلا الطرفين، أبرزها عقد بقيمة 4 مليارات دولار مع الدوحة لاستثمار وتطوير ميناء سواكن على البحر الأحمر.    

    

لعبة المحاور الإقليمية

بالنسبة إلى قطر الواقعة تحت حصار خليجي خانق، كان الاستثمار في السودان يتجاوز الأهداف الاقتصادية، ليكتسب بدوره بُعدا جيوسياسيا، ففي الوقت الذي استثمرت فيه السعودية والإمارات في سلسلة من الشراكات التجارية في بلدان شرق أفريقيا، فإنهما سرعان ما حوّلتا هذه الشراكات إلى تحالفات جيوسياسية وعسكرية كما هو متوقع، واستخدمتاها في فرض المزيد من الضغوط على خصومهما ودعم سياساتهما في المنطقة، وفي حين أن هذه الشبكة كانت تهدف بالأساس لاحتواء النفوذ الإيراني في شرق أفريقيا، فإن الرياض تحديدا لم تتوانَ في استخدامها لممارسة أقصى ضغط ممكن ضد الدوحة لإخضاعها إبان الأزمة الخليجية.

   

ولمواجهة السياسات القسرية السعودية الإماراتية، وجدت قطر نفسها في مسار يُحتّم عليها تعزيز تحالفها مع تركيا، وهو تحالف كان يتعزز عاما بعد عام منذ اندلاع الربيع العربي 2011 ووقوف تركيا وقطر على الجانب نفسه في دعم الحركات الشعبية في مواجهة الأنظمة السياسية القائمة، وهو جانب مُناقض للسعودية والإمارات اللتين راهنتا على الأنظمة القائمة وبشدة، وبلغ التحالف التركي-القطري ذروته مع اندلاع الأزمة الخليجية وانحياز أنقرة الصريح للدوحة، وقيامها بإرسال الآلاف من قواتها لقاعدة عسكرية في العاصمة القطرية بهدف حمايتها من غزو محتمل كان في طريقه للحدوث على الأرجح من جيرانها.

   

على مدار الأشهر التالية، كان البحر الأحمر وشرق أفريقيا الفضاء المثالي للشراكة التركية القطرية، ولم يكن السودان بعيدا عن ذلك بكل تأكيد، فقبل أسابيع من توقيع السودان لعقد لتطوير جزيرة سواكن مع الدوحة، استقبل السودان زيارة تاريخية من الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” هي الأولى لأي رئيس تركي للبلد الأفريقي منذ استقلاله منتصف الخمسينيات، حيث تم الإعلان عن اتفاق خصص بموجبه السودان جزيرة سواكن لتركيا للعمل على إحياء الطريق القديم للحجاج الأفارقة، وإنشاء رصيف بحري لتشغيل السفن المدنية والعسكرية، ضمن حزمة اتفاقات بقيمة 650 مليون دولار وتعهدات برفع التجارة البينية من 500 مليون دولار إلى أكثر من 10 مليارات دولار.

لا يعد الاهتمام التركي بالسودان جديدا على كل حال، وعلى غرار دول الخليج فإن تركيا تستثمر(8) بكثافة في القطاع الزراعي السوداني، حيث قامت بتأجير 780 ألف فدان من الأراضي الزراعية لمدة 99 عاما، وهي استثمارات لا تخلو من أبعاد جيوسياسية أيضا، مع اندفاع السياسة التركية العثمانية الجديدة نحو صراع النفوذ في البحر الأحمر مستندة إلى ركيزتين رئيستين؛ أولاهما روابطها التاريخية والثقافية مع بلدان المنطقة التي تعود إلى العصر العثماني، وثانيهما المساعدات والاستثمارات الاقتصادية، ليس فقط في السودان، ولكن أيضا في الصومال وجيبوتي.

    

وعلى غرار الرياض وأبوظبي مجددا، فإن أنقرة بدأت تسعى خلال الأعوام الأخيرة لتحويل نفوذها الاقتصادي إلى رافعة للنفوذ الجيوسياسي والعسكري، فقامت بافتتاح قاعدة عسكرية في الصومال عام 2017، وقامت بتوقيع اتفاقات أمنية مع كلٍّ من كينيا وتنزانيا وأوغندا وإثيوبيا لتدريب قوات الأمن في هذه الدولة على “مكافحة الإرهاب”، ما يعكس اهتمام أنقرة المتزايد بلعب دور كبير في منطقة البحر الأحمر وأمن الممرات المائية في شرق أفريقيا.

   

وفّر الطموح التركي والحصار القطري إذن متنفسا لنظام البشير بعيدا عن الهيمنة الافتراضية للسعودية والإمارات، ومكّنه من تحقيق المكاسب من جميع الأطراف، وكما نجح في الداخل في وضع نفسه مركزا وراعيا أوحد لشبكة معقدة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، فإنه نجح أيضا في وضع نفسه مركزا للمحاور(9) الإقليمية المتنافسة التي صارت تنظر للبشير باعتباره راعيا لمصالحها.

   

في ضوء ذلك، يمكن تفسير حالة الارتباك التي أصابت القوى الإقليمية في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية الكبرى التي اندلعت ضد نظام البشير أواخر العام الماضي، والتي كانت استثناء واضحا من المشهد الإقليمي المميز لاصطفافات الربيع العربي؛ وهو مشهد تنحاز فيه أنقرة والدوحة للاحتجاجات والتطلعات الشعبية، في مقابل دعم الرياض وأبوظبي للأنظمة السياسية الأوتوقراطية، في مشهد بدا معه السودان جملة اعتراضية في سياق احتجاجات العرب.

فبالنسبة إلى الرياض وأبوظبي والقاهرة وحلف داعمي الثورات المضادة، فإن نظام البشير لم يكن صديقا حقيقيا، ولكنه كان حليفا متقلبا يمكن أن يبدل ولاءه في أي لحظة، هذا بخلاف انتمائه الأيديولوجي الظاهر كأقدم أنظمة الحكم الإسلامية العسكرية في المنطقة، وهي حقيقة قاسية كان على هذه الدول المعادية بشدة للإسلام السياسي أن تتجاهلها لفترة طويلة في تعاملها مع البشير، لذا فإنه ورغم كراهية هذه الدول لأي تغيير يأتي عبر الجماهير لمخاوف أن يلهم تغييرات مماثلة تضرب شواطئهم، كانت احتجاجات السودان تحمل فرصة كامنة لاستبدال نظام أكثر استقرارا وولاء لمصالح هذه الدول بنظام متقلب، شريطة أن تتم إدارة الانتقال السياسي بطريقة تقلل من مكتسبات الحركة الشعبية السودانية الحالية، وتعظّم من مكتسبات الأجنحة العسكرية التي تتمتع بروابط وثيقة مع هذه الدول بحكم المشاركة الطويلة للقوات السودانية في حرب اليمن.

   

على الجانب الآخر، فإن أنقرة والدوحة لم تنجحا -إلى حد بعيد- في صياغة مقاربة تجمع بين الأخلاقية والبراغماتية في التعامل مع الاحتجاجات السودانية، وواصلتا الرهان على البشير باعتباره أفضل الخيارات الجيوسياسية المتاحة، وأقلها ضررا، لما يمكن أن يُتبعه سقوط البشير من مُكتسبات جديدة تضاف لمحور “الثورات المضادة”، فلم يقدم الإعلام القطري الدعم المعتاد شديد الكثافة عنه للربيع العربي مع الانتفاضة السودانية رغم أنه لم يُعادِها بحال، مُكتفيا بالتغطية الإخبارية الاعتيادية، في حين ظلت أنقرة متمسكة بالبشير حتى لحظاته الأخيرة، وقد تسببت هذه الحسابات في نشوء مشهد إقليمي مرتبك بشدة، فمع لحظة الإطاحة بالبشير، وفي حين تلقى المجلس العسكري الحاكم -بحكم الواقع- دعما ثابتا وراسخا من محور إقليمي راسخ ومستقل متمثل في معاداته للثورات بصورة مُطلقة، فإن قوى الثورة الجماهيرية تظل حتى اللحظة بلا حلفاء إقليميين ودوليين حقيقيين يرتكزون على دعمهم.

   

الثورة

يستمر الصراع ويحتدم إذن بين العسكريين والأمنيين المدعومين من محور الثورات المضادة، وبين قوى الثورة السودانية المختلفة، الممثلة بقوى الحرية والتغيير، والتي تفتقر إلى وجود داعم حقيقي، في ظل فقدان تركيا والدوحة للكثير من رأس مالهما الرمزي في الشارع السوداني بسبب موقفهما المرتبك من البشير والاحتجاجات التي أطاحت به، وهو صراع من المؤكد أن تداعياته لن تقتصر على الانتقال السياسي داخل السودان فقط، ولكن على موقع الخرطوم في لعبة موازين القوى المعقدة في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، والتي تدور رحاها ليس فقط بين القوى الإقليمية مثل السعودية وتركيا ومصر وإيران والإمارات، ولكن أيضا بحضور القوى العالمية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين وروسيا.

  

لطالما كان السودان لاعبا لا يمكن التنبؤ به، خاصة منذ قدوم البشير إلى السلطة ووقوع السودان تحت طائلة العقوبات الأميركية، ما أجبره على البحث عن حلفاء بعيدا عن الغرب وعلى وجه التحديد في الصين وروسيا. وعلى الرغم من أن العلاقات بين الصين والسودان جارية منذ عام 1959، فإنها ركزت خلال عقودها الأولى على شراكة الدولتين في حركة عدم الانحياز مع تعاون محدود في مجال التجارة.

ولكن مع التقدم الصيني المتزايد وتفاقم عزلة السودان، توسع وجود بكين بشكل ملحوظ في الدولة الأفريقية خلال العقد الأول من الألفية، حيث دشنت الصين 65 مشروعا للبنية التحتية في السودان شملت بناء القصر الرئاسي ومشاريع السكك الحديدية ومحطات توليد الكهرباء بالإضافة لدور الصين البارز في استخراج النفط السوداني بعد الحظر الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، لتتحول الصين لاحقا إلى المصدر الرئيس للواردات السوادنية بحصة بلغت 24% وبفارق الضِّعف عن أقرب منافسيها. وفي ظل الحصار والعقوبات الغربية، كان من الطبيعي أيضا أن تتحول الصين -جنبا إلى جنب مع روسيا- إلى أبرز مزودي الأسلحة للجيش السوداني خلال الأعوام الأخيرة.

  

ليس من الصعب إذن فهم أسباب اهتمام الصين بالسودان، فمع وقوع البلد الأفريقي على طريق حيوي للتجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، فإن وجوده يصبح جوهريا لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما يُفسّر بدوره استثمار الصين في دعم نظام البشير وامتناعها عن التعليق على التظاهرات ضده وترحيبها بالسلطة الجديدة حتى الآن، مع التعهد بالحفاظ على علاقات ودية مع السودان.

  

ينطبق الأمر نفسه على روسيا التي تشعر ربما أنها فقدت حليفا في منطقة حيوية مع رحيل البشير، في ظل التعاون الأمني واسع النطاق بين البلدين الذي زاد بشكل ملحوظ منذ عام 2017 مع توقيع اتفاقية بين البشير والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصفها الديكتاتور السوداني آنذاك أنها تمنح روسيا “مفاتيح أفريقيا” مقابل “الحماية الروسية من الأعمال العدوانية في المنطقة”، على حد وصفه.

في ضوء ذلك يمكننا القول -و لن نكون مخطئين في ذلك- إن الولايات المتحدة تبرز في قائمة أبرز المستفيدين الجيوسياسيين من رحيل عمر البشير، رغم أنها لا تزال تتبنى موقفا حياديا وتراقب من بعيد السجال الدائر بين الفرقاء السودانيين. فرغم أن البشير قدّم الكثير من التنازلات لإرضاء واشنطن خلال العامين الماضيين، فإن سجله في جرائم الحرب وملاحقته من قِبل المحكمة الجنائية تجعله حليفا مُكلفا للسياسة الأميركية على المستوى الشعبي، وهو ما يفسر ميل أميركا لإسناد الملف السوداني خلال الأعوام الأخيرة إلى وكلائها الإقليميين الأبرز وهم الإمارات والسعودية ومصر.

   

في هذا السياق، يبدو أن سودان ما بعد البشير وفي ظل الحكم العسكري القائم حتى الآن ينتقل رويدا رويدا من معسكر الدول المارقة بالتصنيف الأميركي إلى حليف محتمل لواشنطن، ليكون بذلك آخر المنضمين إلى الترتيب الإقليمي الجديد للولايات المتحدة في القرن الأفريقي.

  

كانت الولايات المتحدة قد بدأت تشعر بالذعر بفعل التوسع الصيني في أفريقيا خلال العقود الأخيرة، وهو ما دفع الجيش الأميركي إلى إدخال تعديلات جوهرية في خريطة أولوياته الإستراتيجية في أفريقيا، واضعا مكافحة الصين وروسيا في قلب إستراتيجية الدفاع الوطني الجديدة التي كُشف عنها مطلع العام الماضي 2018، بعد عقد ونصف من التركيز على “مكافحة الإرهاب”. وكان اتفاق السلام الأخير الذي أنهى الصراع طويل الأمد بين إثيوبيا وإريتريا ورفع العقوبات الأميركية على إريتريا نفسها وحتى تخفيف العقوبات على نظام البشير قبل الإطاحة به، كانت جميعها تجليات للسياسة الأميركية الجديدة التي تدور بالأساس حول تحجيم النفوذ الصيني.

   

لم تعد الإطاحة بعمر البشير ومستقبل الانتقال السياسي في السودان بعده مجرد قضية حراك جماهيري أطاح بديكتاتور مستبد، ولكنه تحول إلى جولة جديدة في اللعبة الكبرى لمراكز القوى في القرن الأفريقي، ووفقا لما أفرزته نتائج هذه الجولة حتى الآن، تبرز الولايات المتحدة كأبرز الفائزين الدوليين، في حين أن السعودية والإمارات ومصر ومحور الثورات المضادة هو أكبر الفائزين الإقليميين خاصة حال نجاحهم في جلب الاستقرار للنظام العسكري القائم وتفتيت الحراك الشعبي الحالي وتقليل مكاسبه، في المقابل؛ يبدو أن المحور الإقليمي التركي القطري خسر الكثير من نفوذه ورمزيته في هذه الجولة، غير أن رد الفعل الداخلي المناهض للسعودية ربما يُمثّل فرصة لدور تركي قطري أكثر اتزانا قد يسهم في تقليل التأثير الاستبدادي لدول الخليج في الانتقال السياسي السوداني، ولكنها تبقى نافذة ضيقة -إلى حدٍّ ما- في ظل استثمار كلا البلدين  الكثير من الأصول في نظام البشير، والقليل جدا منها في التودد إلى الثوار ودعم المطالب الشعبية في اللحظات الحاسمة، وهو ما ينبغي أن يرى السودانيون خلافه بأي شكل، خصوصا إذا ما امتدت أيادٍ خارجية واضحة، عبر وكلائها الداخليين لإفشال مكتسبات الحراك الشعبي.

الجزيرة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *