أكد الكاتب الأمريكي “بيتر هاريس” في مقاله الذي نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” قبل عدة أيام، أن معظم خبراء السياسة الدولية يعتقدون أن قوة أمريكا في العالم آخذة في الانخفاض والزوال.

يذكر أن “هاريس” يعمل أيضاً كأستاذ العلوم السياسية المساعد في جامعة “كولورادو ستيت” الأمريكية وفي سياق متصل ذكر “هاريس” أنه سواء كان الخبراء يعزون ذلك الزوال إلى خلل تعاني منه أمريكا في داخلها أو إلى بروز الصين والقوى الصاعدة الأخرى فإن المراقبين يميلون للاعتقاد بأن “عهد القطب الواحد” سيفسح المجال لنظام عالمي تسود فيه أكثر من قوة كبرى، وأشار الكاتب في مقدمة مقاله الذي جاء تحت عنوان “متى ينتهي عهد عالم القطب الواحد؟” إلى أنه ما من أحد يعرف على وجه اليقين متى سيزول عالم القطب الواحد، وما مقدار الوقت الذي ستستغرقه قوة عالمية أخرى لتصل إلى مستوى أمريكا أو تضاهيها من حيث القوة والنفوذ؟

وفي السياق نفسه، استدرك هذا الكاتب والأستاذ الجامعي الأمريكي قائلاً إن العالم الأحادي القطب ليس أحد إفرازات الإنفاق العسكري فحسب، بل يحدده كذلك التوزيع الجغرافي للسلطة والنفوذ. وأشار “هاريس” إلى أن القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية ساعدتا أمريكا على تحمّل أعباء التزاماتها الرئيسة في العالم، ولكن ما منحها صفة الدولة المهيمنة ليست القوة المادية، بل هو انتشار جيشها في العديد من نقاط العالم وسطوتها السياسية على الكثير من الدول.

من جهة أخرى، ذكر “هاريس” في مقاله أنه لفهم أفضل لأهمية الركائز الجيوسياسية التي يستند إليها ” عهد القطب الواحد”، فإنه من المفيد معرفة كيفية نهوض نظام القطب الواحد من ركام النظام الثنائي القطب الذي اتسمت به حقبة الحرب الباردة.

وحول هذا السياق، تساءل “هاريس” وقال، ما الذي تسبّب في زوال نظام ثنائي القطب؟ هل كان السبب هو انسحاب الاتحاد السوفياتي من شرق أوروبا، أم انهيار دولة الاتحاد السوفياتي كلياً، أم تفكك حلف وارسو، أم التحوّل في توجهات وأولويات القادة السوفييت ومن بعدهم الروس، أم شيء آخر؟ وهنا ينقل “هاريس” عن العالم السياسي “هاريسون واغنر”، القول إن مصطلح ثنائي القطب لم يكن المقصود به مجرد وجود قوتين عظميين في السياسة العالمية، أو حجم ترسانتيهما النوويتين، أو عدد الحلفاء الذين يتباهى كل منهما بهم. ولفت “هاريس” إلى أن السمة المميزة لمبدأ توزيع السلطة في حقبة الحرب الباردة بحسب ما قاله العالم السياسي “واغنر” تمثّلت في أن دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي احتلت في زمن السلم مكانة لم تتمكّن الدول في الماضي أن تبلغها إلا بعد سلسلة من الانتصارات العسكرية.

الحرب الباردة ونهاية نظام ثنائي القطب

لقد كان النظام ثنائي القطب إبان الحرب الباردة صراعاً مستمراً شنّته كتلة الدول الغربية من أجل الخلاص من الهيمنة السوفياتية المطلقة على مناطق جغرافية بعينها، وتحديداً في أوروبا وشرق آسيا.

يذكر أن العالم شهد عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية انقساماً كبيراً بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بقيادة أمريكا، واشتد الصراع بينهما، وسمي ذلك بالحرب الباردة أو نظام القطبية الثنائية، وامتدت خلال الفترة بين 1947 و1989، وقد مرّت من مراحل عدة منها مرحلة الحرب الباردة الأولى، ومرحلة التعايش السلمي، وانتهت بحرب باردة ثانية، والتي انتهت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، وانفراد الأمريكيين بقيادة العالم في مرحلة سميت بنظام القطبية الواحدة، أو النظام العالمي الجديد.

وحول هذا السياق، يقول هذا الكاتب والأستاذ الجامعي الأمريكي أن عصر الثنائية القطبية انتهى عندما لم تعد موسكو تشكّل تهديداً لأمن تلك المناطق نظراً للتحولات التي حدثت داخل الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

وأضاف الكاتب، إذا كان نظام القطبين في حقبة الحرب الباردة قد تميّز بالتنافس على السيادة في أوروبا وشرق آسيا، ولقد توقف هذا التنافس عندما لم يعد الاتحاد السوفياتي يهدد تلك المناطق، فإن نظام القطب الواحد الذي جاء بعده يتألف هو الآخر من مجموعة من الظروف الجيوسياسية وفي هذا السياق، أكد “هاريس” إنه لو اعتبرنا أن النظام أحادي القطب شكلٌ من أشكال الجغرافيا السياسية، فلربما قد يساعدنا هذا الشيء في معرفة متى ستكتب نهاية هذا العالم الأحادي القطب، فمثلما انتهى نظام القطبين بسحب الاتحاد السوفياتي قواته من أوروبا الشرقية، وخفض وجوده العسكري في شرق آسيا فإن عالم القطب الواحد سينهار هو الآخر عندما لا تعود المؤسسة العسكرية الأمريكية قادرة على بسط هيمنتها على خاصرتين مهمتين في منطقة أوراسيا، هما شبه الجزيرة الأوروبية والبلدان البحرية الواقعة في شرق آسيا.

وفي مقاله هذا يخلص الكاتب والأستاذ الجامعي الأمريكي إلى أن عالم القطب الواحد لن ينتهي إلا عندما تخسر أمريكا فعلياً وضعها كقوة مهيمنة تقريباً في أوروبا أو شرق آسيا.

ويشير هذا الكاتب في مقاله، إلى أنه لن يكون كافياً للصين أو روسيا التفوق على أمريكا على الورق، إذ يتعيّن أن تنقلب الظروف الجيوسياسية على الأرض رأساً على عقب، ولعلّ أحد السبل لتحقيق ذلك هو أن يمارس خصوم أمريكا الدوليون ضغوطاً عليها، وأما السبيل الآخر فهو أن تخفّض أمريكا من إنفاقها الداخلي والعسكري، ولعلّ ما تنبّأ به المعلّق السياسي الأمريكي “تشارلز كروثامر” أن عالم القطب الواحد قد يزول في ظل وجود قوى انعزالية داخل أمريكا يدفع نحو وضع حدّ لارتباطات واشنطن الخارجية.

وفي نهاية هذا المقال، يقول “هاريس” إن عهد القطب الواحد لم ينتهِ بعد رغم أن أفوله بات وشيكاً، ويختم الكاتب “هاريس” بالتشديد على أن السؤال المهم الذي يطرحه محللو السياسة الخارجية اليوم لا يتعلق بأي نوع من النظام العالمي سيظهر في المستقبل القريب، بل بالمدة الزمنية التي سيستغرقها نظام القطب الواحد قبل أن ينهار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *