ظلت مطالب الديمقراطية والدولة المدنية وحرية التعبير تدور في دائرة النخب المثقفة، لكن الأغلبية الراكنة عادة للاستقرار قد تراودها أحلام بمثل هذه القيم سرعان ما تنقشع إذا ما وجدت نفسها في قلب كابوس الفوضى والانفلات الأمني وارتفاع الأسعار وغيرها من المنغصات اليومية، فتتراجع لمطالبها الحياتية اليومية، ولهذا السبب قايض الطغاة الاستقرار ودعم الرغيف بشرعية حكمهم، وتأخرت عندنا مشاريع الإصلاح السياسي التي اجتاحت في العقود الأخيرة الكثير من دول ما يسمى العالم الثالث، في أمريكيا اللاتينية أو أفريقيا أو آسيا.

للأسف أصبحنا بين خيارين أحلاهما مر، الدولة الدينية أو الدولة العسكرية مع ضعف البديل المدني الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر أحزاب سياسية لها برامج واضحة وقاعدة شعبية عريضة، ومنظمات مجتمع مدني فاعلة وذات خبرة، أما الثورة المعلوماتية أو الرقمية الكبرى فاستطاعت أن توفر لدى الأجيال الجديدة إمكانية التواصل والتخطيط والحشد التي أصبحت صعبة عبر الوسائل التقليدية، وكان بإمكانها أن تملأ الميادين لتبدأ سلسلة سقوط طغاة أحكموا قبضتهم على بنى الدولة الداخلية ولم يحسبوا حساب ما تضمره هذه التطورات التقنية الهائلة، غير أن التيارات الدينية التي ترعرعت في ظل الاستبداد اجتاحت هذا الحراك بتنظيماتها وبنظامها البنيوي الذي لا يختلف عن النظم السياسية الساقطة إن لم يكن أخطر منها، وفي الواقع ما عزز إمكانية ترميم النظم القديمة لنفسها والعودة تحت شعارات جديدة هو البديل الذي اعتبره الراكنون إلى الاستقرار أملهم في العودة من حيث بدءوا.

الثورات تسقط أنظمة لكنها لا تبني دولة، والثورات العنيفة خصوصا قد تجتث النظام من جذوره لكنها غالبا لا تفضي إلى ديمقراطية في مدى منظور، ورغم الوقع الرومانتيكي الراهن للثورة الفرنسية إلا أنها كانت كابوسا لجيلين تقريبا رغم قرن التنوير الذي سبقها، وجاءت بعدها ثلاث ديكتاتوريات شرسة، لكن القيم التي أيقظتها لم تنطفئ، وأيضا الأحلام التي أيقظها الربيع العربي لن تخمد وستظل الظاهرة تعود عبر الزمن، وتنتقل من مكان إلى مكان، بعد أن اكتشفت الشعوب مدى قوتها حين تكسر حاجز الخوف وتخرج إلى الشارع، واكتشفت مدى هشاشة هذه الأنظمة الكرتونية.

في الحالة الليبية لم يكن الحكم منذ 1973 ، ومنذ إعلان النقاط الخمس، حكما عسكريا بالمعنى الحرفي، لأن رأس النظام بدأ في تقويض المؤسسة العسكرية التي جاء للسلطة عن طريقها، وطرح نفسه كمثقف أو مفكر أو ثائر سرمدي، وتكونت حاشيته وسلطته المتنفذة من مريدي أيدلوجيته الذين شكل منهم لجانه الثورية النافذة في كل مؤسسة، من المعسكرات إلى المدارس، وأصبح الانتماء العقائدي إلى هذه الأطروحات هو الطريق إلى النفوذ والمال وتقلد المناصب، واستخدم قاموس الدولة الدينية في وصف مظاهر الميكرودكتاتورية التي أسسها في مجتمع ناشئ مازال في طور تأسيس دولته الوطنية لأول مرة في التاريخ، وانغمس بروح المخلّص في حمى استعارته لهذا القاموس الذي يسبغ نوعا من القداسة على أيديولوجيته وأفكاره ومعاركه الدونكيشوتية، ويجعلها غير قابلة للنقاش أو النقد، عارضا لافتاته الإسلامية التي تتجاوز حتى طموح الإسلام المتشدد، مثل : “القرآن شريعة المجتمع” و “أمرهم شورى بينهم” كتقية إيمانية أمام أية مطالب بالديمقراطية، غير أن النظام المذعور من المتغيرات الدولية في العقدين الأخيرين فتح من جديد المجال للمصطلحات التي كان يعتبرها رجعية “كفرية” مثل الدستور والمجتمع المدني والمنابر وغيرها، ولو من منطلق استعراضي يحاول به أن “يدوكر” نظامه بما يتوافق ومطالب العالم الجديد، وهو القائل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر “إذا اشتدت الرياح فمن الحكمة أن ترخي حبال خيمتك كي لا تقتلعها الرياح”.

هذا التوافق في القاموس بين النظام الدكتاتوري والتنظيمات الدينية خلق بينهما تحالفا ضمنيا تجاه البديل الثالث المهدد لهما، وهو الدولة المدنية التي يكتسب فيها الحاكم شرعيته من الصندوق، والتي من أهم مظاهر تحققها إمكانية التداول السلمي للسلطة، ومازال هذا التحالف بين الخصمين اللدودين مستمرا حتى الآن، فالدكتاتوريات التي أطيح بها العام 2011 تحاول أن تعود تحت شعار محاربة الإرهاب، وقوانين الطوارئ والمحاكم العسكرية تعاد تحت الشعار نفسه، والمجموعات الإسلاموية بكل مستوياتها تقوض المسار الديمقراطي وتصدر فتاواها تحت شعار مقاومة عودة “طواغيت” العسكر إلى الحكم، وكلاهما يتصرف وفق هذا التحالف الضمني وكأن لا سبيل أو سبلا أخرى لبناء الدولة المحترمة التي تتناغم مع العصر.

نفى القذافي الحاضر المضاد لمنظومته التسلطية إلى المستقبل الغامض حين كان يكرر أن أطروحته تتجاوز كل البنى الراهنة للدولة والشرعية وأن أية مطالب بالقيم الحديثة نوع من الرجعية وعودة إلى الخلف، بينما نفى البديل الإسلاموي الحاضر المتعارض مع مشروعه إلى الماضي السحيق، وفي الحالتين تتم مصادرة الراهن ونفيه صوب الغموض (اليوتوبيا المؤجلة أو الفردوس المفقود) الذي تتضح فيه رغبة هذه التيارات الفاشية في السلطة ورغبتها في أن تكون هذه السلطة مقدسة.

وعندما خرجت الشعوب المنفية خارج الزمن إلى الميادين وأسقطت نظماً بالية، كانت تحاول أن تلتحق بالزمان الكوني وأن تستعيد راهنها، وليصبح فضاء الإنترنت مساحة للسخرية والتهكم على هذه القداسات المزيفة التي حكمت ومازالت تحاول أن تحكم بها الفاشيات وجدان الرعية الورع، وكان الضوء الذي بزغ على أكف الجيل الجديد عبر شاشات صغيرة كافيا لتصديع منظومات الظلام التي أطبقت على هذه المجتمعات التي مارست طقوس الورع تجاه سلطات مقابل طعامها واستقرارها المزعوم.

أسهم تيار الإسلام السياسي في عسكرة الثورة ونقلها من الميادين إلى الجبهات، كما أسهم في إعادة المؤسسة العسكرية إلى المشهد بفعل نشره للسلاح في أيدي الجماعات المؤدلجة والإجرامية التي لا تهدد الدولة المدنية فقط ولكن تهدد بناء الدولة من الأساس والأمن القومي، لكن الأغلبية الناعمة هي من ستحسم الصراع لصالح الدولة المدنية مهما اشتدت قبضة السلطة، وما يحدث في الجزائر والسودان يؤكد أن هذه الصحوة الاجتماعية التي تهب على المنطقة لها أسبابها المتعلقة بمتغيرات بنيوية في المجتمع السياسي ولها أفقها المستقبلي الذي يحيل الصراع في المنطقة لأول مرة حول قيم الدولة المدنية الحديثة إلى إرادة الشعوب بعد قرون من الاستسلام لنظم استبدت بها وهي تتغني بالشعارات الوطنية أو الدينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *