نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالا لأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفين والت، يقول فيه إن أحد المواضيع التي كتب فيها المعلقون بشكل متكرر منذ عام 2016، كان الوضع السابق والمستقبل غير الواضح لما يسمى النظام الليبرالي.

 

ويشير الكاتب في مقاله، الذي ترجمته “عربي21″، إلى أن بعض الكتاب شككوا حتى في أن النظام الليبرالي وجد أصلا، أو شككوا في قيمته المدعاة، في الوقت الذي يدافع فيه آخرون عن إنجازاته الماضية، ويتباكون على موته المحتمل.

 

ويستدرك والت بأن “المعلقين اتفقوا، هذا إن كان هناك إجماع، على أن الرئيس دونالد ترامب يشكل تهديدا خطيرا للنظام الذي تقوده أمريكا، الذي يقوم على قواعد استمرت منذ عام 1945، ويعتقد البعض لو أن هيلاري كلينتون أصبحت رئيسة لبقيت أمريكا (الأمة التي لا يستغنى عنها) تقود العالم تجاه مستقبل أفضل وعناصر النظام المألوفة ستكون مزدهرة (أو على الأقل سليمة)”.

 

ويعلق الكاتب قائلا: “لا شك بعدم اهتمام ترامب بالديمقراطية وحقوق الإنسان، أو حكم القانون، أو أي من القيم الليبرالية الكلاسيكية، ويبدو أنه لا يهتم بشركاء أمريكا الديمقراطيين ويحب الدكتاتوريين، لكن من الخطأ أن ينظر إليه على أنه السبب الوحيد، أو حتى الأهم، للمتاعب التي أصابت النظام الذي تقوده أمريكا، ففي الحقيقة فإن بذور المشكلات الحالية تعود إلى ما قبل ترامب بفترة طويلة، وهي مرتبطة بشكل رئيسي بقرارات متعلقة بالسياسة الخارجية التي قامت بها إدارات كل من بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما”.

 

ويقول والت: “لنعد ربع قرن للوراء إلى بداية (لحظة القطب الواحد)، فبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي، هنأت أمريكا نفسها، وتبنت استراتيجية تصلح لعالم ليست فيه قوة عظمى منافسة، ومع رفض العزلة كان بإمكان واشنطن أن تقوم بالانسحاب تدريجيا من مناطق لم تعد بحاجة ماسة إلى وجودها، وكان بإمكانها تصغير بصمتها العسكرية في العالم مع إبقائها على جاهزية تسمح لها بالتصرف في مناطق رئيسية إن كانت هناك حاجة ماسة لذلك، هذه التحركات كانت ستضطر شركاءنا الأكثر ثراء لتحمل المزيد من المسؤولية للمشكلات المحلية، في الوقت الذي تعالج فيه أمريكا احتياجاتها المحلية، فجعل (الحلم الأمريكي) أكثر واقعية هنا سيبين للأمم الأخرى قيمة الحرية والديمقراطية والسوق المفتوحة وحكم القانون، وأنها تستحق التقليد”.

 

ويلفت الكاتب إلى أن “البديل المنطقي لم يناقش في الدوائر الرسمية، وبدلا من ذلك اتحد كل من الجمهوريين والديمقراطيين خلف استراتيجية (الهيمنة الليبرالية) التي سعت لنشر القيم الليبرالية في كل مكان، ولقناعتهم بأن رياح التقدم تملأ أشرعتهم، ولعشقهم لصورة أمريكا على أنها (الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها) في العالم، بدأوا في استخدام قوة أمريكا للإطاحة بالديكتاتوريين ونشر الديمقراطية، ومقاطعة ما سميت الدول المارقة، وأدخلت أكبر عدد ممكن من البلدان إلى مؤسسات أمنية تقودها أمريكا، فمع حلول عام 2016 كانت أمريكا ملتزمة رسميا بالدفاع عن أكبر عدد من الدول الأجنبية منذ نشأتها”.

 

ويبرر والت قائلا إنه “قد تكون لدى الزعامات الأمريكية أفضل النوايا، لكن الاستراتيجية التي اتبعوها كانت فاشلة في أغلب الأحيان، فالعلاقات مع روسيا والصين اليوم هي الأسوأ منذ الحرب الباردة، وهذان الماردان الآسيويان يتآمران على أمريكا، وأي أمل للتوصل إلى حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين تم تقويضه، وبقية الشرق الأوسط منقسم على أسوأ ما يكون، وقامت كل من كوريا الشمالية والهند وباكستان بتجريب أسلحة نووية، ووسعت من ترسانتها النووية، وانتقلت إيران من مرحلة عدم إمكانية تخصيب اليورانيوم عام 1993 إلى ما يقارب كونها دولة نووية اليوم”.

 

ويجد الكاتب أن “الديمقراطية في حالة تراجع في العالم كله، والمتطرفون العنيفون ينشطون في أماكن أكثر من العالم، والاتحاد الأوروبي يترنح، والفوائد غير المتوازنة للعولمة ولدت ردة فعل قوية ضد نظام الاقتصاد الليبرالي الذي تروج له أمريكا”.

 

ويبين والت أن “هذه التوجهات كلها كانت موجودة قبل أن يصبح ترامب رئيسا بفترة طويلة، لكن كثيرا منها ربما كان أقل احتمالا، أو اقل وضوحا، لو اختارت أمريكا طريقا أخرى”.

 

ويواصل الكاتب قائلا: “ففي أوروبا كان بإمكان أمريكا أن تقاوم إغراءات توسيع حلف الناتو، والتزمت بـ(الشراكة لأجل السلام) الأصلية، وهي ترتيبات أمنية تضمنت روسيا، ومع مرور الوقت كان بإمكانها التخفيف التدريجي لوجودها العسكري، وتسليم الأمن الأوروبي للأوروبيين، فلم يكن ليشعر الزعماء الروس بأنهم مهددون، وما كانوا ليحاربوا جورجيا، أو يستولوا على القرم، ولم يكونوا ولا لمصلحتهم أن يتدخلوا في انتخابات 2016، ومع أخذ الاتحاد الأوروبي دورا أمنيا أكبر فربما ما كانت دول، مثل بولندا وهنغاريا، لتغازل الاستبداد تحت حماية أمريكية”.

 

ويستدرك والت قائلا: “لو كانت أمريكا أكثر حكمة لتركت العراق وإيران في حالة صراع بدلا من محاولة (الاحتواء المزدوج) في الخليج العربي، ما كان سيلغي الحاجة لإبقاء آلاف الجنود في السعودية بعد حرب الخليج الأولى، ولو أن واشنطن جعلت دعمها لإسرائيل والسلطة الفلسطينية مشروطا بإحداث تقدم في مفاوضات السلام للتوصل إلى حل الدولتين، لأزال هذا الأساسين اللذين أقام أسامة بن لادن عليهما عداءه القاتل لأمريكا، وربما ما كانت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر لتقع، ولما غزونا أفغانستان والعراق، ولوفرنا عدة مليارات من الدولارات، وآلاف الأرواح الأمريكية والأجنبية، ولما نشأ تنظيم الدولة، وأزمة اللاجئين والهجمات الإرهابية في أوروبا، التي ساعدت على صعود الأحزاب اليمنية في أوروبا”.

 

ويقول الكاتب: “لو كانت أمريكا أقل انشغالا بحروب الشرق الأوسط لكانت قادرة على التحرك بسرعة لمواجهة طموحات الصين المتنامية، ولكان لديها المزيد من الإمكانيات للقيام بهذه المهمة الضرورية، وبدلا من الافتراض الساذج بأن الصين ستتحول في المحصلة إلى ديمقراطية وتلتزم بالأعراف الدولية، كان بإمكان أمريكا أن تشترط على بكين التخلي عن أساليبها التجارية التطفلية قبل الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، بما في ذلك احترام الملكية الفكرية”.

 

ويرى والت أنه “لو كان هناك اهتمام بتوزيع عائدات العولمة بشكل أعدل لقلل من عدم المساواة الموجودة في أمريكا، ولقلل بالتالي من حالة الاستقطاب التي تمزق البلد اليوم، وكما احتجت روسيلا زيلينسكي في مقال لها في (فورين أفيرز)، فإن تمويل الحروب الخارجية بالاستدانة بدلا من رفع الضرائب يعفي الأمريكيين الأكثر ثراء بسهولة، بل يسمح لهم بزيادة ثروتهم عن طريق إدانة الحكومة الفيدرالية، والحصول على فوائد، ما يزيد من حدة التفاوت الاقتصادي القائم”.

 

ويقول الكاتب: “وأخيرا، لو كانت هناك استراتيجية أكثر التزاما لما سولت للقيادات الأمريكية أن يلجأوا للتعذيب، وتسليم المشتبه بهم بأسلوب غير عادي، ولا القتل المستهدف، ولا التجسس الإلكتروني غير المبرر، وغيرها من الأساليب التي تتناقض مع القيم الأمريكية الأساسية، وكانت ستوفر تريليونات الدولارات التي كان يمكن استخدامها في تقوية الجيش، وتوفير خدمات صحية أفضل للمواطنين الأمريكيين، وإعادة بناء البنية التحتية المتداعية، والاستثمار في تعليم الأطفال، أو التقليل من العجز الدائم في الميزانية”.

 

ويختم والت مقاله بالقول: “عندما نقول إن استراتيجيتنا كانت في معظم الأحوال فاشلة فإن ذلك لا يعني أن أمريكا فشلت في كل شيء، ولا يعني أن العالم سيكون في وضع مثالي اليوم لو اختارت أمريكا طريقا آخر، لكن عندما ينظر الشخص إلى تداعيات سياسة (الهيمنة الليبرالية) وما جلبته فلن يشك أن مقاربة مختلفة كان ستترك أمريكا وبلدانا أخرى كثيرة في وضع أفضل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *