كل ما يفعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحمل قدراً من الشذوذ واللامعقول، وهذا ينطبق على كل سياساته الداخلية والخارجية. ولهذا ما من رئيس أمريكي وجد نفسه معزولاً دولياً، كما هو الحال مع دونالد ترامب. وما من رئيس أمريكي تناقض مع المؤسسة الأمريكية الرسمية، وحتى مع معاونيه الذين اختارهم، كما هو الحال مع دونالد ترامب، هذا ناهيك عن صراعه مع الإعلام. وهو يُعدّ “بئس المقتنى”.

من هنا، فإن الفشل سيكون الوجه الغالب لسياساته داخلياً وخارجياً، لا محالة. ولكن الفشل سيأتي من حيث مدى صعوبته وتكلفته، وفقاً لكل حالة. فالرجل ما زال ممسكاً في قيادة الدولة الأمريكية التي احتلت الموقع الأول اقتصادياً ومالياً وعسكرياً ونفوذاً سياسياً ردحاً طويلاً، نسبياً، من الزمن المعاصر، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، كما بعد انتهاء الحرب الباردة حتى التسعينيات من القرن الماضي. ولم تزل حتى اليوم تتمتع ببقايا ذلك الموقع الأول، وهي تنحدر وتتراجع منذ العقدين الأخيرين يوماً بعد يوم.

ولهذا فإن دونالد ترامب، وهو يعاني سكرات العزلة والضعف، ما زال قادراً على تسميم الوضع الدولي وتعريضه للأخطار، وذلك بالرغم من بروز أقطاب دولية وإقليمية تنافسه عسكرياً (روسيا) واقتصادياً (الصين)، وتخرب سياسياً عليه (أوروبا وكندا واليابان)، وتتحداه إقليمياً (إيران وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل). ولعل “السلاح” الأقوى الذي ما زال فعالاً بين يديه، يتمثل بالنفوذ على المؤسسات المالية العالمية. وقد راح يترجمه باستخدام العقوبات المالية والاقتصادية في مواجهة صراعاته الدولية والإقليمية، وذلك بعد أن فشل من سبقه من رؤساء ثلاثة (بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش، وأوباما)، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. فلم ينجحوا، بل فشلوا في سياساتهم الدولية والإقليمية، وفي مغامراتهم العسكرية (لا سيما إدارة بوش الابن)، وفي منافستهم الاقتصادية، وفي إقامة نظام عالمي أحادي القطبية. وكانت المحصلة بروز روسيا دولة كبرى ذات شأن من جديد، وتحولت الصين إلى قوة اقتصادية وتكنولوجية تنافس أمريكا وتقترب من الوصول إلى المرتبة الأولى، فضلاً عن قوتها العسكرية. وانتهت المحصلة، أيضاً، بالفشل في حربَيْ العراق وأفغانستان، وفي حروب الكيان الصهيوني (2006، و2008/2009، و2012، و2014)، ناهيك عن بروز قوى إقليمية متحدية ومنافسة، إلى جانب اهتزاز العلاقات الأمريكية- الأوروبية.

وها هو ذا ترامب يرى كل هذا، وهو غير مؤهل، تجربة وتاريخاً وكفاءة، لأن يُحسِن تقدير الموقف، ووضع الاستراتيجية المنافسة ليزيد الطين بِلة. وقد ظهر هذا في صراعه مع جارتيه كندا والمكسيك، وحروبه التجارية متعددة الخصوم والأبعاد، خصوصاً مع أوروبا واليابان، وعزلته الدولية، حتى لم يعد له من دول حليفة كما كان الحال، أيام الناتو والسياتو، مثلاً.

إن السلاح الذي راح يشهره في تحقيق وعده الانتخابي بالخروج من التراجع، واستعادة “عظمة أمريكا”، هو سلاح الحروب التجارية من جهة، والعقوبات المالية والاقتصادية، من جهة ثانية. الحروب التجارية تستعدي الأصدقاء والحلفاء والأعداء على حد سواء، وقانونها الحاكم: رسوم جمركية يقابلها رسوم جمركية، دعم للسلع يقابله دعم أشد. أما الأخطر، على الوضع الدولي، فعلياً، فهي سياسة العقوبات الاقتصادية والمالية الموجهة ضد المنافسين السياسيين الكبار، مثل روسيا والصين، كما ضد من يصنف بالعدو، مثل إيران وفنزويلا، أو ضد من يتحدى الإرادة الأمريكية، ولو كان حليفاً مثل تركيا.

استخدام أمريكا لسياسة إنزال العقوبات الاقتصادية والمالية تحمل بُعديْن، أحدهما يعتبر من حقها باعتبارها دولة ذات سيادة وفقاً للقانون الدولي، وذلك بأن تقاطع أية دولة اقتصادياً أو تجارياً أو تعاملاً مالياً، كما من حقها مقاطعتها سياسياً إلى حد القطيعة الدبلوماسية. أما معاقبة دولة من خلال فرض مقاطعتها دولياً، وذلك باستخدام نفوذها المالي على البنوك المركزية والمصارف البنكية والشركات لتفرض عليها مقاطعة دولية، فهنا تكون أمريكا قد حلت مكان مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وأصبحت ديكتاتوراً على العالم بأسره، وألغت حقوق الدول الأخرى التي يضمنها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ويصبح معه لا معنى لوجود قانون دولي ولهيئة الأمم المتحدة، إذ يصبح لدولة واحدة أن تفرض القانون الذي تريد على العالم كله، وأن تنفذه منفردة بسبب ما أعطى للدولار، بلا وجه حق، من مكانة عالمية، وبسبب ما راحت تمارسه من نفوذ عالمي.

بكلمة: لأمريكا كما لأية دولة الحقوق نفسها في ظل وجود نظام وقانون دوليين يحكمان العلاقات الدولية، وإلاّ دخل العالم في الفوضى وتعميم الكوارث. فلأمريكا أن تقاطع من تشاء في علاقتها الثنائية الاقتصادية والمالية، ولكن ليس من حقها أن تحل مكان القانون الدولي وهيئة الأمم المتحدة في إنزال عقوبات جماعية ضد دولة بعينها، من خلال ابتزاز العالم كله لفرض مقاطعتها؛ لأنها إن فعلت، وهو ما راح دونالد ترامب يهدد بتنفيذه، فسوف تدخل العلاقات الدولية في الفوضى والحروب.

فليس من حق أمريكا أن تحل مكان القانون وهيئة الأمم المتحدة، فإن فعلت سوف تصادر سيادة الدول التي تخضعها لشروطها في مقاطعة إيران أو روسيا أو الصين أو أية دولة في العالم، ومن ثم فإن الدول التي تخضع لها تقبل أن يلغى القانون الدولي ويداس على ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وأن تصادر سيادة الدول، وتفقد سيطرتها على شركاتها المُستعبَدة لمصالحها الآنية المباشرة.

ومن هنا، فإن تشكل تيار عالمي يشمل أغلبية دول العالم أصبح ضرورة لمنع أمريكا ترامب من ابتزاز العالم ومصادرة سيادة دوله وتحويله إلى قانون الغاب، وذلك من خلال سياسات العقوبات الاقتصادية والمالية. فقد قيل منذ قديم: “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، أي لا فرق بين سياسة العقوبات وسياسة استخدام القوة في العلاقات الدولية.

إن إحباط سياسة ترامب بفرض عقوبات على إيران وتركيا وروسيا والصين لا يشكل ضرورة استراتيجية وسياسية واقتصادية بالنسبة إلى دول العالم وشعوبه، فحسب، وإنما أيضاً هو ضرورة أخلاقية أيضاً، ويجب أن يُعامل فوق أي خلاف سياسي أو صراع دولي؛ لأن إفشال سياسة العقوبات التي يمارسها دونالد ترامب، لا يحافظ على القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة ومبادئ احترام سيادة الدول فحسب، وإنما أيضاً هو ضرورة للحفاظ على مصالح الدول وثرواتها من أطماعه ونزعته الابتزازية التي دونها ما يفعله القراصنة وقطاع الطرق في نهب الثروات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *