أصابت المملكة العربية السعودية المراقبين والأوساط السياسية الإقليمية والدولية، بالدهشة لردة فعلها المفرطة في مبالغتها، إثر “تغريدة” لسفارة كندا في الرياض وبيان لوزيرة خارجيتها، انتقدا فيهما اعتقال سلطات الرياض لناشطات حقوقيات سعوديات، وطالبا بالإفراج عنهن “فورا”.

في الإجراءات، ذهبت السعودية إلى طرد السفير الكندي في الرياض واعتباره “شخصا غير مرغوب فيه”، واستدعت سفيرها في أوتاوا للتشاور، وأوقفت العمل باتفاقيات تجارية واقتصادية واستثمارية، ليصل الأمر حد الطلب من آلاف الطلبة السعوديين الدارسين في جامعات كندا وآلاف المرضى الذين يرقدون على أسرة الشفاء في مستشفياتها بمغادرة مقاعدهم وأسرتهم فورا، على أن تبحث لهم عن جامعات ومستشفيات بديلة! فيما حبل العقوبات السعودية ضد كندا، لا يزال ممدودا على غاربه، وعمليات “بيع الأصول” السعودية في الشركات الكندية متواصلة، لا أحد يدري متى يتوقف هذا المسلسل التصعيدي.

تخوض السعودية تحت قيادة محمد بن سلمان معركة الإصلاح الداخلي ضد القوى الدينية والاجتماعية المحافظة
في الخطاب، أكثرت السعودية والناطقون باسمها وأجهزة الإعلام المحسوبة لها، من استخدام تعابير “الحزم” و”العزم” و”السيادة”، وجرى تصوير الموقف الكندي بوصفه “عدوانا” على المملكة وسيادتها واستقلالها وكرامتها وتراثها و”إسلامها”، مثلما جرى تصوير ردود الفعل السعودية، بوصفها “ثورة كرامة” و”انتصار للسيادة” و”عاصفة حزم”، ستقطع الطريق على كل من تسول له نفسه، المس بالمملكة أو ذكرها بأي سوء.

مع أن المسألة برمتها، لا تحتمل كل هذا التصعيد، ولا تحتاج لكل هذه “الرطانة”، فكندا لم تفعل أكثر مما فعلته دول غربية أخرى، ومن بينها الولايات المتحدة، في تقاريرها حول حالة حقوق الانسان والحريات الدينية في العالم، و”تغريدة” السفارة، أو بيان “الوزيرة”، لم يضيفا حرفا واحدا لما تقوله منظمات حقوق الانسان والحركات النسوية في العالم، في تقاريرها عن حال حقوق الإنسان، والنساء بخاصة، في المملكة.

صحيح أن “نبرة” بيان الخارجية الكندية جاءت “آمرة”، وتستبطن قدرا من “الاستعلائية”، لكن الصحيح كذلك، أن الرياض كان بمقدورها أن تتخذ مواقف وإجراءات متناسبة مع حجم “التعدي” الكندي على “كرامتها” و”سيادتها”، ولم تكن بحاجة أبدا لإيصال النزاع إلى هذا المستوى من التفاقم، وصولا للمس بمصالح ألوف المواطنين السعوديين الذين سينقطعون عن الدراسة والعلاج، لأسباب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

على أية حال، لقد اختلفت الاجتهادات في تفسير الأسباب الكامنة وراء “الغضبة المُضرية” للرياض على أوتاوا.. وبالأخص عمليات “التوظيف السياسي والدعائي” التي رافقتها وأعقبتها؛ من قائل بأن المملكة بتوجيهها ضربة شديدة لكندا، أرادت أن تبعث برسالة لكل من قد يعنيهم الأمر بأن موضوع حقوق الإنسان في السعودية هو بمثابة “خط أحمر” لا يسمح حتى للأصدقاء والحلفاء بالاقتراب منه أو اجتيازه.. إلى قائل إن “وراء الأكمة ما وراءها”.

أما لماذا اختارت الرياض كندا، لتكون هدفا لحملتها هذه، فإن أفضل تفسير لذلك، هو ما ورد على لسان أحد المحللين الاستراتيجيين الغربيين، الذي قال “إن كندا كبيرة بما يكفي لإيصال الرسالة السعودية، وصغيرة في الوقت ذاته، بما يضمن تفادي أية عواقب أو تداعيات لحملتها الشعواء هذه”.. وفي ظني أن مثل هذا التقدير، ينطوي على قدر من الذكاء والصحة في الوقت ذاته.

يضاف إلى ذلك، أن كندا سبق لها وأن وجهت انتقادات قاسية لخروج الحرب على اليمن عن قواعد القانون الدولي الإنساني.. لكأن المملكة تريد بهذه المواقف المتشددة، أن ترد الصاع صاعين، مراهنة على “الاستفراد” بكندا، جراء النزاع الناشب بين إدارة ترامب ورئيس الحكومة الكندية الشاب، على خلفية الخلاف حول التجارة والمناخ وقمة السبعة الكبار وغيرها.

من وجهة نظر كاتب هذه السطور، فإن الحرب الدبلوماسية والاقتصادية التي شنتها المملكة على كندا، عقابا لها على “تغريدة” و”بيان” مقتضبين، إنما تكشف حاجة الرياض والأمير السعودي محمد بن سلمان، إلى تسجيل انتصار، أي انتصار، وعلى أي فريق، حتى وإن كان في موقع الصديق والحليف كما هو حال كندا..

فالمملكة التي “روجت” منذ أزيد من ثلاثة أعوام لنظرية “الحزم والعزم” والقيادة الشابة القوية التي لا تساوم ولا تفرط في حقوق المملكة ومكانتها وقيادتها وهيبتها، لم تسجل حتى الآن أي “انتصار” يذكر على أية جبهة من جبهات الحروب والمعارك التي خاضتها في عهدها الجديد.. فالحرب على اليمن التي دخلت شهرها الثاني والأربعين تتحول إلى “فضيحة” من دون أن تنجح الرياض، على رأس التحالف العربي، في تحقيق أهداف الحرب ومراميها.

وحرب المملكة الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية على جارتها الصغيرة، قطر، أظهرت فشلا آخر.. ومثلما كان منتظرا أن تحسم الحرب على الحوثيين وأنصارهم في غضون بضعة أسابيع فقط، فقد كان منتظرا أن ترفع الدوحة الراية البيضاء في غضون أسابيع قلائل أيضا.. على أن أيا من صنعاء والدوحة، لم يرضخ للضغوط السعودية، ولم يرفع الراية البيضاء، ولا يبدو أن المملكة ستنجح في تحقيق مراميها على هاتين الجبهتين.

حين تكون المملكة بقيادتها الشابة بحاجة ماسة للانتصار، فإن كافة الوسائل والسرديات تبدو مبررة ومفهومة
أما الدور السعودي في كل من سورية ولبنان، فيعاني من انكماش واضح يلامس ضفاف الهزيمة؛ فالأسد، باعتراف خصومه، كسب وحلفاؤه الحرب الممتدة منذ ثماني سنوات وبات اليوم يسيطر على معظم الأراضي السورية (والسكان كذلك).. أما حزب الله وحلفاؤه، فقد عززوا مكاسبهم في الانتخابات النيابية الأخيرة، وباتوا يملكون الأغلبية في مجلس النواب (والحكومة استتباعا). ولم تفلح الجهود السعودية، بما فيها احتجاز حليفها الأبرز سعد الحريري في تغيير قواعد اللعبة في لبنان أو إضعاف خصوم المملكة فيها، بل على العكس من ذلك تماما فقد هبت الرياح بما لا تشتهي سفن المملكة.

تخوض السعودية تحت قيادة محمد بن سلمان معركة الإصلاح الداخلي ضد القوى الدينية والاجتماعية المحافظة، وقد سجلت بعض النجاحات على هذا الطريق، وإن كانت ناقصة ومحدودة، ومشوبة بمظاهر “ديكتاتورية مستنيرة” على حد وصف بعض المراقبين.. تعرضت صورة القائد الشاب الإصلاحي للاهتزاز في الغرب في ضوء الأنباء عن اعتقالات عشوائية ومحاكمات غير نزيهة وحملات محاربة للفساد ملتبسة وتشي بصراع على السلطة أكثر مما تدل على الشفافية أو نهج إصلاحي حقيقي.

آخر ما كان يحتاجه الأمير الشاب هو تصريحات كندية من شأنها تبديد هذه الصورة، وتبهيت صورة “الانتصار” في معركة الإصلاح الداخلي، ولهذا جاءت ردة الفعل السعودية صاعقة ومفاجئة ومصحوبة بسرديات دعائية لا تنسجم مع حجم الفعل الكندي ولا مع ردة الفعل السعودية، على اتساعها.. لكن حين تكون المملكة بقيادتها الشابة بحاجة ماسة للانتصار، فإن كافة الوسائل والسرديات تبدو مبررة ومفهومة.

أيا كانت مآلات هذا النزاع أو الكيفية التي سيعالج بها، فإن كثيرا من المراقبين يلاحظون أن حظوظ المملكة في تسجيل “انتصار” على حكومة جاستن ترودو لن تكون أفضل بكثير من حظوظها في معاركها وحروبها السابقة، فلا كندا بوارد التخلي عن منظومتها القيمية والأخلاقية، واستتباعا أولويات سياساتها الخارجية، ولا الغرب بوارد “بيع” كندا لصالح السعودية، والمرجح أن تنتهي هذه الجولة “الدونكيشوتية” بخيبة أمل إضافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *